شهركم هذا هو شهر ربيع الأوَّل، وهو شهرٌ كما ذكرت من قبل حافلٌ بالأحداث العظام في تاريخ الإسلام، وإنَّ لنا فيه ذكرى أليمة ليس في الدنيا ذكرى أشدَّ ألمًا منها، ذلك ما حدث في مثل شهركم هذا في الثاني عشر منه منذ أربعة عشر قرنًا مضت، إنَّه حدث وفاة رسول الله .
هذه الذكرى قد سبق منِّي الاحتفاء بها في خطبة بليغة من نحو بضع سنين، وإنَّ في تكرارها وتذكارها فوائد عديدة، ليس هذا موضعَ بيانها.
أيها الناس، أنصتوا وألقوا إليَّ بأسماعكم، وحدِّقوا إليَّ بقلوبكم قبل أبصاركم، فإنِّي محدِّثكم اليوم حديثًا ليس كسائر الأحاديث، يستوجب منكم الإنصات وخشوع الأصوات.
لقد ألِف الناس عندنا في هذا اليوم أن يذكروا ذكرى مولد النبيِّ ، فتراهم لذلك يفرحون ويمرحون، بل قد لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إنَّ أكثرهم لا يفرحون لأجل المولد بل لمجرَّد اللهو واللعب، وينسَون الذكرى الأخرى؛ ذكرى وفاته فلا يحزنون ولا يتألَّمون، كيف وموته رزيَّة في الإسلام ما أخطرها، ومصيبة على أمَّة الإسلام ما أعظمها، فهي النازلة التي كادت تزلزل لها الجبال والجبال جبال، واهتزَّت لها قلوب الرجال والرجال رجال، وانقطع لها الوحي من السماء، وخرج الناس بها من دين الله أفواجًا وطاشت الأحلام، وغشي الآفاقَ ما غشيها من الظلام، ورفع الباطل رأسًا كان تحت قدمي رسول الله موضوعًا، وسمع المؤمنون من أعداء الله ما لم يكن في حياته مسموعا، وطمع إبليس أن يعيد الناس إلى الجاهليَّة الأولى، وأن يصدَّهم عن الإيمان والقرآن.
فالرزيَّة كلُّ الرزيَّة والمصيبة كلُّ المصيبة قد حصلت لهذه الأمَّة بوفاة نبي الرحمة ، فمنذ ذلك اليوم والنور الذي جاء به في تناقص وانقضاض، والعلم الذي بعث به في إدبار وانقباض، فظهر في الأمَّة بسبب وفاته ما أوعدت به من اختلاف القلوب والإحن ومن الشرور والفتن ومن المصائب والمحن، فكانت حياته أمانا لهذه الأمَّة من تلك الخطوب والمصائب. روى مسلم في صحيحه عن النبيِّ قال: ((أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون)).
ففي الثاني عشر من شهر ربيع الأوَّل أتى النبيَّ ملكُ الموت ليقبض روحه الطيبة أزكى الأرواح، وينقلها إلى جوار الله بدار الأفراح.
وسأقصُّ عليكم ذلك من ابتداء مرضه إلى أن فُرغ من دفنه ، آخذًا ذلك كلَّه من جملة أحاديث صحيحة ألفِّقها تلفيقا، ثمَّ أسوقها إليكم كالحديث الواحد مساقًا متّسقًا.
فلنعش مع رسول الله أيَّامه الخمسةَ الأخيرة، نختصرها في هذه اللحظات القصيرة.
وأتوجَّه قبل البدء إلى بعض الجالسين ها هنا وكأنَّهم جالسون على الجمر، لأعلمهم بأنَّني مطيل عليكم بعض الشيء فصبر جميل، فإنَّ استذكارَ هذا اليوم يستدعي الإطالةَ عليكم، ولا بأس في ذلك، فإنَّه يجوز تطويل الخطبة أحيانًا لحدث يكون، فلا يتعنَّت عليَّ متعنِّت.
أوَّل ما أعلم رسول الله باقتراب أجله بنزول سورة النصر، وذلك في أيَّام التشريق في حجَّة الوداع بثلاثة أشهر قبل وفاته. فالمراد من هذه السورة: إنَّك ـ يا محمَّد ـ إذا فتح الله عليك البلاد ودخل الناس في دينك أفواجًا فقد اقترب أجلك، فاستعدّ للقائنا بكثرة التسبيح والاستغفار.
فلمَّا نعيت لرسول الله نفسه بنزول هذه السورة وأُعلم باقتراب أجله أخذ في أشدِّ ما كان من أمر الآخرة، وجعل يعرِّض للناس باقتراب أجله، كأنَّه كان يهيِّئهم لتحمُّل صدمة النبأ بوفاته حين ينزل به الموت.
فإنَّه لمَّا خطب في حِجَّة الوداع ـ وذلك بثلاثة أشهر قبل موته ـ قال للناس: ((خذوا عنِّي مناسككم، فلعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا))، وطفق يودِّع الناس، فقالوا: هذه حِجَّة الوداع.
ولمَّا رجع من حِجَّته جمع الناس بمكان يقال له: غدير خم، فخطبهم وقال: ((أيُّها الناس، إنَّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربيِّ ـ يعني ملك الموت ـ فأجيب))، ثمَّ حثَّهم على التمسُّك بكتاب الله، ووصَّاهم بأهل بيته. روى ذلك كلَّه مسلم في صحيحه.
فلمَّا كان في آخر شهر صفر أمره الله بأن يستغفر لأهل البقيع، فأتاهم في جوف الليل فدعا لهم، فكأنَّه ودَّع الأحياء والأموات جميعًا من أصحابه. ثمَّ ابتدأه المرض.
ابتدأه المرض صبيحةَ ذلك اليوم وهو يوم الأربعاء آخرَ شهر صفر، وكانت مدَّة مرضه ثلاثة عشر يومًا.
وكان أوَّلُ ما ابتدئ من مرضه وجعَ رأسه، وكان الصداع وألم الشقيقة يعتريه كثيرًا في حياته، فبقي أسبوعًا والألم يتمادى به وهو يدور على أزواجه ويقول: ((أين أنا غدا؟ أين أنا غدًا؟)) يريد يوم عائشة، فلمَّا كان اليوم الثامن من مرضه، وهو يوم الأربعاء السابع من شهر ربيع الأوَّل صلَّى بهم صلاة المعرب، وقرأ فيها بالمرسلات عُرفا، وهي آخر صلاة جهريَّة صلاها لهم، فاشتدَّ به الوجع، وهو في بيت ميمونة، فاستأذن نساءه أن يمرَّض في بيت عائشة، فأذنَّ له، فخرج بين عمِّه العباس وابن عمه علي بن أبي طالب تخطُّ رجلاه في الأرض، حتَّى دخل بيت زوجته عائشة، فلمَّا حضرت صلاة العشاء وجاءه بلال يؤذنه بالصلاة وكان قد ثقل واشتدَّ به الوجع فقال: ((أصلَّى الناس؟)) قالت عائشة: فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب))، قالت: ففعلنا فاغتسل ـ أي: يتبرَّد بذلك من الحمَّى ـ، ثمَّ ذهب لينهض فأغمي عليه، ثمَّ أفاق فقال: ((أصلَّى الناس؟)) فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب))، قالت: فاغتسل، ثمَّ ذهب لينهض فأغمي عليه، ثمَّ أفاق فقال: ((أصلَّى الناس؟)) فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب))، قالت: فاغتسل، ثمَّ ذهب لينهض فأغمي عليه، ثمَّ أفاق فقال: ((أصلَّى الناس؟)) فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قالت عائشة: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسولَ الله لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله إلى أبي بكر أن يصلِّي بالناس، فصلَّى بهم أبو بكر تلك الأيام، فلمَّا أصبح رسول الله يوم الخميس كان الناس يسألون عن حاله، فخرج من عنده عليّ فقال له الناس: كيف أصبح رسول الله؟ قال: أصبح بحمد الله بارئًا، وكان قد خفَّ به بعض ألمه. روى ذلك البخاري.
وفي هذا اليوم يوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس، حدث في بيت رسول الله ما يأتيكم خبره بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
|