عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره؛ لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، منذ يومين بدأت قوافل حجاج بيت الله الحرام تنطلق من هذه الديار المباركة أراضي فلسطين متجهة للديار المقدسة، حيث الشعائر والمناسك لأداء فريضة الحج, بالطواف حول بيت الله الحرام، والشرب من ماء زمزم الطهور، وهو لما شرب له كما ورد في الأثر, والصلاة عند مقام إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا وجميع المرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم, والسعي بين الصفا والمروة، وهو سعي المتردد على باب الله طلبًا للغوث والعون تأسّيًا بأم إسماعيل عليهما السلام. قال تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، وخلال الأيام القادمة يكتمل سفر الحجاج من هذه الديار المباركة, نسأل الله لهم حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا وتجارة رابحة وسفرًا ميسّرًا وعودة ميمونة, ونوصي إخوتنا حجاج بيت الله وأنفسنا بالمبادرة إلى التوبة الصادقة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها؛ لقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وحتى يكون الحج مقبولاً فتحرَّ في الحج أن تكون النفقة على نفسك وعيالك من مال حلال، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولله در الناجح المستبصر القائل:
إذا حججت بمال أصله دنس فما حججت ولكن حجّت العيرُ
لا يقبـل الله إلا كـل طيبة مـا كـل حجٍّ لبيت الله مبرورُ
واقصد ـ أخي الحاج ـ في حجك وجه الله، وابتعد عن الرياء والسمعة والمفاخر، اقتداء برسولنا الأكرم حيث قال حينما شرع في سفره من المدينة قاصدًا مكة لأداء الحج: ((اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)). وبدأ التلبية، وهي نداء التوحيد وإعلان العبودية لله رب العالمين: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
أيها المسلمون، يا من عزمتم على أداء الفريضة في هذا العام، إن هذه العبادة العظيمة تشتمل على حِكم جليلة، وهي مدرسة للتربية على الأخلاق وجميل الصفات، والتعاون بين الحجيج على البر والتقوى، والصبر على مشاق السفر وطباع الأصدقاء والإخوة الحجاج القادمين من جميع أرجاء المعمورة، فكونوا ـ يا حجاج ديار الإسراء والمعراج ـ رسل خير إلى المؤتمر السنوي الذي يجمع المسلمين على اختلاف لغاتهم وأجناسهم، فيوحد شعورهم وهم يؤدون شعائر ومناسك الحج في مظهر فريد وعظيم لوحدة العقيدة والسلوك.
فكلهم يهتفون بالتوحيد، ويلهجون بالعبودية بلغات شتّى، لا تختلف على رب السماوات العُلى، ويطوفون حول البيت العتيق، ويرتّلون خير دعاء: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار). وقد تجرّدوا من مظاهر الدنيا وزخرفها، فما يزيد لباس الإحرام عن مقدار ما يكفي ابن ادم حين خروجه من الدنيا، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ومن أركان الحج العظيمة الوقوف بعرفات الله يوم التاسع من شهر ذي الحجة، وفي هذا اليوم العظيم والمجمع الكبير يجود الله فيه على عباده بالعفو والمغفرة والعتق من النار، ويباهي بهم الملائكة، لما روي عن النبي قال: ((إذا كان يوم عرفة فإن الله تبارك وتعالى يباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثًا غبرًا ضاحين من كل فجّ، أشهدكم أني قد غفرت لهم)).
وفي هذا اليوم العظيم والمؤتمر الإسلامي الكبير أعلن رسول الإنسانية عليه أفضل الصلاة ميثاق حقوق الإنسان، فيما قرّره من مبادئ في خطبته الشهيرة في حجة الوداع، وقد التزم المسلمون بهذه المبادئ، وطبقوا هذه الحقوق، ليس على أنفسهم فقط، بل على غيرهم من الناس على امتداد دولتهم الإسلامية.
ومن تلك المبادئ حرمة الدماء والأموال، وإبطال الربا والتعامل به، ونبذ مظاهر الجاهلية والأخذ بالثأر.
كما أوصى بالنساء وحقوقهن، وجعل عصمة المسلمين وهويّتهم بتمسكهم بكتاب الله وسنة نبيه فقال: ((وقد تركت فيكم أمرين، لن تضلوا إن اعتصمتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قاتلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت، فقال: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات.
إنه النداء الخالد والشرع الحكيم الذي انطلق في رحاب عرفات الله، يملأ سمع الزمان على امتداد الحياة، ويهيب بالمسلمين كلما انحرفوا عن جادة الصواب أن يعودوا إلى كتاب الله، ويقفوا عند حدوده، ويطبّقوا حكامه، متأسّين بسنة المصطفى وأصحابه الكرام ونهج السلف الصالح لهذه الأمة، إذ لا صلاح لأمتنا إلا بما صلح به أول أمرها.
أيها المسلمون، يا من عزمتم على أداء الفريضة لهذا العام، احرصوا على زيارة المسجد النبوي الشريف والصلاة فيه، خاصة في الروضة الشريفة، فقد روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة)).
وينبغي لزائر المسجد النبوي الشريف أن يزور القبر الشريف للسلام على الحبيب المصطفى وخيرة الخلق وصفوة الخالق، فيقف متأدبًا غاضًّا صوته، مستحضرًا هيبة النبي قائلاً: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في سبيل الله حق جهاده حتى أتاك اليقين. وبعد ذلك يتقدم للسلام على صاحبي رسول الله : أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما، ثم يدعو لنفسه ولأهله وللمسلمين.
أيها الإخوة حجاج بيت الله الحرام من أبناء ديار الإسراء والمعراج، نودعكم على بركة الله، سائلين المولى عز وجل أن يحفظكم، وييسر سفركم، ويبلغكم مرادكم، وأن يجعل حجكم مبرورًا، وسعيكم مشكورًا، وذنبكم مغفورًا.
|