أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الأمن عند الخوف والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسفل، هي وصية الله للأولين والآخرين، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
وتأملوا في حوادث الدهر وقوارع العبر، فإنهن صوادق الخبر، حوادث فيها مزدجر، ومتغيرات فيها معتبر، تُعير مرة، وتسلب أخرى، وتفسد عامرًا، وتعمر قصرًا.
أيها المسلمون، في الجمعة الماضية كنا نتكلم عن نعمة الأمن في هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين، وما يفعله أعداء الإسلام والمسلمين من إعمال إرهابية ينتج منها التخريب والتدمير وتقتيل الأنفس البريئة، وما وجد معهم من أسلحة مدمرة، وفي خطبتنا هذه يحتار المرء من أين يبدأ به الحديث، ويعجز اللسان عن وصف ما حصل من مصيبة، حيث فجع الجميع بحادثة دخيلة غريبة على هذه البلاد المسلمة وأهلها؛ حادثة التفجير، راح ضحيتها أرواح بريئة، وخلفت الدماء والأشلاء والجراح من مسلمين وغير مسلمين، لا نجد لها تأويلاً ولا للفاعلين مبررًا سوى الهمجية والجهل والعصبية.
لقد تضمنت هذه الحادثة إزهاقًا للأرواح وسفكًا للدماء وترويعًا للآمنين وتشويهًا لصورة مجتمع المسلمين ومدنهم وإضرارا بالمصالح عامة، ومن ثم فالحادثة بكل المعايير والمقاييس ومن كل المنطلقات حادثة تخريب، في سلسلة حلقات تهدف إلى إضعاف مستوى الأمن في هذه البلاد، وتهدف إلى إشاعة الفوضى، والمستهدف الأول والأخير هو الدين والعقيدة.
قام هؤلاء المجرمون بتنفيذ فعلتهم الإجرامية في عاصمة بلادنا، وذلك تحت جنح الظلام، حيث قاموا بعملية انتحارية، ونتج عنها تقتيل عشرات الأنفس البريئة وتمزيق أجساد سليمة وترويع الآمنين بفعلتهم الشريرة وتدمير منشآت كثيرة، ولا نملك إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون، إنه لمن المؤسف حقًا ومن المحزن حقًا أن يسمع المسلم بين وقت وآخر ما تهتز له النفوس حزنًا، وترتجف له القلوب أسفًا، وما يتأثر به المسلم حيث كان وأينما كان، من تلك التفجيرات الآثمة، وتلك الاعتداءات الظالمة، والتي يقوم بها قوم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، وأجرموا واعتدوا وبغوا وأفسدوا فسادًا عظيمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن التفجير الذي وقع يوم الاثنين مساء الموافق 11/3/1424هـ في مدينة الرياض ـ حرس الله بلاد الحرمين وحفظها وأدام الله عليها الأمن والأمان ـ لقد دوى صوت التفجير معلنًا عن وجود فئة ضالة مخربة مجرمة، لا يروق لها أن تأمن البلاد ويطمئن العباد، فامتدت يد آثمة في هزيع الليل بعملية إرهابية انتحارية؛ لتخرب وتدمر وتروع وتفسد في الأرض وتهز أمن البلاد والعباد وتخوف المقيم والوافد، وفي أي أرض؟ إنها أرض الحرمين، في أرض دولة التوحيد التي هي مقصد كل الناس في جميع الدنيا، ينظرون إلى بلادهم على أنها بلاد أمن واطمئنان، فإذا يد الغدر الآثمة تبيت الجريمة النكراء والفعلة الشنعاء، ومن المستفيد من ذلك إلا أعداء الإسلام والمسلمين؟!
إنها جريمة بشعة وعمل إرهابي قبيح وفعل دنيء ونتاج فكر خبيث، لا يقدم عليه إلا مريض قلب وضعيف دين وإنسان فيه هوس وفيه حب للشر والفساد والإفساد، أبدًا لا يقدم عليه عاقل يحترم نفسه، ولا يقدم عليه خيِّر يخاف الله ويرجوه، ولا يقدم عليه مواطن وفيٌّ يحس بأمن الجماعة ويتحرك بما ينفع الناس، إن من أقدم على هذا العمل هو عدو لله وللإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء، بل إنه عدو لنفسه أولاً، ثم عدو لأهله وقومه وجيرانه والمستجيرين به والمستأمنين الذين قدموا ليعملوا وليشيروا ليستفاد من خبرتهم بعهد ووعد وميثاق، فإذا هم يغتالون وهم نائمون، وتتمزق أجسادهم أشلاء في ديار الإسلام والمسلمين. إن هذا العمل قبيح وغدر فظيع وجرم مروع، نبرأ إلى الله من أن يرضى به مسلم في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
ثم ما الفائدة؟ الفائدة إضرار بأمن البلاد والعباد، وإضرار باستقرار البلاد، وإضرار بسمعة الإسلام والمسلمين، ولا يخدم هذا العمل إلا أعداء الإسلام والمسلمين.
أقول: الإسلام الذي هو دين الله الذي ارتضاه تبارك وتعالى لعباده، وقد جاء حافلاً بالمضامين الهامة التي تحفظ للناس أمنهم في دينهم وفي أحوالهم وفي دمائهم وفي أعراضهم، ومن أجل هذا سلك الإسلام مسالك عديدة في حفظ الأمن وتأكيده.
فمن جانبٍ حرم الله تبارك وتعالى الاعتداء، وجعله جريمة من الجرائم وكبيرة من الكبائر، لا يجوز لمسلم يرجو وجه الله والدار الآخرة أن يعتدي على دماء معصومة وعلى أموال معصومة. وجعل الله المحبة في الله وشيجة من الوشائج بين أفراد المجتمع، فلا يحل لهم أن يعتدوا على أموال بعض، ولا على دماء بعض، ولا على أعراضهم أيضًا. فحرم الإسلام الاعتداء، وجعل الدماء والأعراض والأموال معصومة، بل تعدى ذلك إلى تحريم الاعتداء على المستأمنين الذين أعطتهم الدولة الإسلامية عهد الله وذمة الله وذمة رسوله ، فحصنت دماءهم وأموالهم وأعراضهم بإقامتهم بين ظهراني المسلمين إقامة بإذن ولي الأمر، مستأمنون ومعاهدون.
ومن الأنفس المعصومة في الإسلام أنفس المعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)) أخرجه البخاري.
ومن أدخله ولي الأمر المسلم بعقد أمان وعهد فإن نفسه وماله معصوم، لا يجوز التعرض له، ومن قتله فإنه كما قال النبي : ((لم يرح رائحة الجنة))، وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين، ومعلوم أن أهل الإسلام ذمتهم واحدة، يقول النبي : ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)).
أيها المسلمون، لقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء في جلسته الاستثنائية بيانًا بهذا الخصوص، فنص البيان أنه إذا تبين هذا فإن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرم لا يقره دين الإسلام، وتحريمه جاء من وجوه:
أولاً: أن هذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين فيها.
ثانيًا: أن فيه قتلاً للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام.
ثالثًا: أن هذا من الإفساد في الأرض.
رابعًا: أن فيه إتلافًا للأموال المعصومة.
وإن مجلس هيئة كبار العلماء إذ يبين حكم هذا الأمر ليحذر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات، ويحذرهم من مكائد الشيطان، فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك، إما بالغلو بالدين، وإما بالجفاء عنه ومحاربته والعياذ بالله، والشيطان لا يبالي بأيهما ظفر من العبد؛ لأن كلا طريقي الغلو والجفاء من سبل الشيطان التي توقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه. وما قام به من نفذوا هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها فهو داخل في عموم قول النبي : ((من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة)) أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) وهو في البخاري بنحوه.
أيها الإخوة المسلمون، يا أهل الغيرة والإيمان والإسلام، إن الإرهاب جريمة عالمية ليست مقصورة على بلد دون بلد، والإرهاب قد وجد في القديم وفي الحديث، الإرهاب هو الفساد في الأرض وحب الجريمة وحب الإضرار بالناس، وهذا يوجد حيثما يوجد البشر في القديم وفي الحديث وفي الماضي والحاضر وفي ديار الإسلام وفي غير ديار الإسلام. لقد وجد الإرهاب في أول مجتمع على وجه الأرض يوم قام قابيل بقتل أخيه هابيل، لا لشيء إلا لحب الشر عند القاتل وبغض للخير الموجود عند المقتول، لماذا يكون هذا المقتول صالحًا؟ ولماذا يكون هذا المقتول متقبلاً منه العمل؟ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، لماذا؟ لأن هذا موفق للخير، وهذا عاجز عن الوصول إلى الخير، فلم يجد حيلة أمامه سوى الانتقام والتخريب والإفساد، هذا أول عمل إرهابي وجد على ظهر الأرض.
وفي المجتمع النبوي في عهد النبي جاء قوم بهم من الفقر والبأس والحاجة والشدة ما جعل النبي يدعو المسلمين أن يتصدقوا عليهم، ليكسوا عريهم، ويشبعوا بطونهم، ثم ألحقوا بإبل الصدقة ليشربوا من ألبانها، ويستفيدوا منها، ويعيشوا مع رعاتها، فلما صحت أبدانهم وزانت أحوالهم بغوا وطغوا فقتلوا رعاة النبي ، واستاقوا الإبل، فأرسل النبي في أثرهم من جاء بهم من المسلمين، فجيء بهم إلى المدينة، فقتلوا، وسمل النبي أعينهم، جزاءً وفاقًا لعملهم الإرهابي القائم على التخريب والإفساد في الأرض.
ومنذ ذلك الحين وأحداث الإرهاب والتفجير والقتل والتدمير تجتاح الدنيا من شرقها إلى غربها، هذا عمل الخوارج الذين هم في الصدر الأول، وفي كل وقت يظهر فيه دعاة التكفير ودعاة الفتن المستبيحون لأعراض المسلمين ودمائهم وأموالهم. إن الخوارج في كل وقت وحين هم الذين يقدمون على هذه الأعمال الشنيعة والأفعال القبيحة، لماذا؟ لأنهم ـ كما وصف النبي ـ كلاب أهل النار، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان.
وقد أثبت التاريخ مصداقية هذا الخبر عن النبي ، فرأى الناس الخوارج ينتسبون للإسلام ويقتلون المؤمنين ويروعون الآمنين ويفسدون في ديار الإسلام والمسلمين، وهم جبناء أذلاء لم يستطيعوا أن يواجهوا في وضح النهار، ولم يستطيعوا أن يقارعوا الحجة بالحجة، فلجؤوا إلى الخيانة والغدر والعمل الآثم.
إن من قام بهذا التفجير أشخاص جبناء رديئون خسيسو الأنفس والطباع ذليلون.
أيها الإخوة في الله، لقد وجد الإرهاب في دول أكثر منا تقدمًا في التقنية الأمنية وأكثر استعدادًا بالأجهزة والعدد، ومع ذلك وجد الإجرام ووجد الفساد، فهذه سنة من سنن الله، وهذا قضاء من أقضية الله سبحانه وتعالى، لا يعني الضعف في البلاد، ولا يعني التقصير من أهلها، ولكنه ابتلاء وامتحان واختبار؛ ليظهر الله به أهل الإيمان من أهل النفاق، أهل الإيمان يشجبونه ويستنكرونه ويبغضون العمل ويدعون على الفاعل ويتضامنون مع أولياء الأمور، وأهل النفاق يبررون ويفرحون ويسرهم أن يروا النكد والخوف والذعر في البلاد.
إن هذه الأمور التي تحدث إنما هي ابتلاء واختبار ليميز الله الخبيث من الطيب، ويظهر صدق الولاية عند أهل الإيمان وصدق العزم عند أهل الإحسان وصدق الاهتمام بأمر المسلمين عند من يدعون الخير، ويظهر أهل النفاق وأهل التبرير وأهل التسويف والأعذار، أعاذنا الله وإياكم من أعمال المجرمين وأفعال المفسدين المخربين، حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أسأل الله أن يرفع رايتنا، ويستر زلاتنا، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|