أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على إدراك رمضان بالصيام والقيام، حتى أكملتم عدته وقضيتم مدته بأمن وإيمان ورغد واطمئنان وعافية في العقول والأبدان، فالحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وبفضل رحمته هدانا للطيبات، ونسأله قبول الطاعات وتكفير الخطايا والسيئات ورفيع الدرجات.
أيها المسلمون، إن العيد الذي نحياه اليوم إنما هو احتفال بانتصار الإنسان المؤمن الذي ظل طوال شهر رمضان يجاهد نفسًا أمارة، ويصارع شهواتٍ وملذاتٍ ومغرياتٍ كانت تتراقص أمام عينيه، لكنه قدم البرهان على أن القائد لنفسه، المالك لزمام أمره، إنما هو إرادته وعزيمته التي يستمدها من الله العظيم: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
إنّ العيد ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ مظهر من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره المعظمة التي تنطوي على حكم عظيمة ومعان جليلة وأسرار بديعة، لا تعرفها الأمم في شتى أعيادها، ففي هذا اليوم العظيم يوم عيد الفطر يجتمع المسلمون في جميع أقطار المعمورة، يجتمعون لصلاة العيد، وهناك حينما يجتمعون تبرز الوحدة الإسلامية في أبهى ثيابها، وكذلك في أروع صورها، وذلك لأنه يحضر ويجتَمع في المصلّى الصغير والكبير والعبد والذكر والأنثى، وكذلك أيضًا الرئيس والمرؤوس، كل منهم لا فارق بينهم، يجتمع الأسود مع الأبيض، والأبيض مع الأسود، على اختلاف اللغات، وعلى اختلاف الألوان، وإنها لوحدة عظيمة يمد أحدهم يده لصاحبه وهو لا يعرفه، وربما لا يعرف لغته فيسلم عليه؛ لأنه يشعر بأنه أخوه في الإسلام، يشاركه في آماله وفي آلامه، وهذه المزية لم تكن لأمة من الأمم إلا للمسلمين.
عباد الله، إن هذه الأخوة الإسلامية التي انبعثت من عقيدتنا الإسلامية، عقيدة المسلمين، عقيدة الشريعة، العقيدة الموحدة، هي التي تفرعت عنها الأخوة الإسلامية، فهي ثابتة لا تتزعزع إطلاقًا، لا تزعزعها الحواجز ولا الأطماع ولا الأهواء ولا الأغراض، بل إنها ثابتة مهما كان للإنسان، ومهما طرأ على الإنسان. فعقيدة التوحيد تجمعنا، ودار الإسلام تؤوينا، لا فخر لنا إلا بطاعة الرحمن، ولا عزة ولا كرامة إلا بالإيمان، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
واعلموا أنما الخيرية بالتقوى: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
هذا خطاب من الله تعالى للناس جميعًا أنَّه خلقهم من ذكر هو آدم، ومن أنثى هي حواء، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب، فالتراب هو منتهى الأنساب، فبم يفتخر شعب على شعب؟! وبم يحتقر قوم قومًا؟! وكلُّهم كان ترابًا، وكلُّهم يصير ترابًا. ثمَّ كشف الله للناس في الآية عن العلَّة في جعلهم شعوبًا وقبائل وهي التعارف، أي: ليعرف بعضكم بعضًا، لا ليبغي بعضكم على بعض، والمراد قطع التفاخر بالأنساب والأحساب. فالمجتمعات مع الأسف اليوم تحيي قضية كانت شائعة في الجاهلية، قضية اجتماعية، بسببها انتشرت البغضاء، ومنها نبعت الأحقاد، ولأجلها رفعت الشعارات الشيطانية، وتعدّدت الحزبيّات العنصرية، ووجدت رواجًا عند ضعاف الإيمان، واستغلها الأعداء أبشع استغلال. لم تدخل في مجتمع إلا فرقته، ولا في صالح إلا أفسدته، ولا في كثير إلا قللته، ولا في قويّ إلا أضعفته، ما نجح الشيطان في شيء مثلما نجح فيها داخل هذه البلاد، شبَّ عليها الصغير وشاب عليها الكبير. تتجسّد من خلال فلتاتِ اللسان وصفحات الوجوه وحتى التلاميذ في المدارس، ومجالس الدهماء تروجها، كلما خبت نارها جاء من يسعرها، ويحذر من نسيانها والغفلة عنها، إنها العصبية القبلية المقيتة، إنها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، إنها الفخر بالعرق واللون، إنها دعوى الجاهلية، تأصّلت فيمن رَقَّ إيمانه، وضعف يقينه، وطُمس على قلبه، وغَفَل عن أصله وحقيقته.
فلقد كان الناس قبل مبعث رسول الله يعيشون في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، يعقون الآباء والأجداد، ويتغنون بمفاخر القبيلة ومآثر العشيرة، فالكبر ديدنهم، وتعظيم الدنيا يملأ قلوبهم. ولما جاء الإسلام الذي بعث به الحبيب حذر من تلك الشعارات الجاهلية وحاربها، وندد بفعل أصحابها. عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) رواه مسلم. وبذلك أبطل الإسلام حمية الجاهلية وتفاخرها بالأحساب والأنساب، وجعل الناس على قسمين: فمؤمن تقيّ وفاجر شقي، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13]، ويقول الله تعالى ذامًّا أهل الحميّة لغير الدين: إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ في قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ [الفتح:26].
وجاء في سنن أبي داود أنه قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية))، وجاء أيضًا عن النبي : ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)) أخرجه مسلم في صحيحه، وروى الترمذي عن النبي أنه قال: ((إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)) أخرجه الترمذي، روى حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قومٌ يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجِعلان)) أخرجه البزار وصححه الألباني، وعن الحارث الأشعري عن النبيِّ : ((من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم))، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟! قال: ((وإن صام وصلَّى وزعم أنَّه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سمَّاهم الله عز وجل به: المسلمين المؤمنين عباد الله)) رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح.
قال المفسرون في قوله تعالى: وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ [الحجرات:13]: جعلناكم شعوبًا وقبائل لتتعارفوا لا لتتفاخروا. فقد حسمت هذه الآية موضوع التفاخر بتأصيل ثلاث ركائز:
الأولى: أن أصل خلق الناس جميعًا واحد.
الثانية: أن ما يحتج به الناس بانتسابهم إلى شعب كذا أو قبيلة كذا مما لم يأذن به الله لأجل التفاخر، وإنما أذن به لأجل التعارف فحسب، لما يترتب عليه من حقوق وواجبات.
الثالثة: أن التفاخر والتفاضل والتقدم إنما هو لأهل التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13].
فالله خلق الإنسان من أصل واحد، كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام؛ لينقذ البشرية من العصبية للجنس والعصبية للأرض والعصبية للقبلية والعصبية للبيت، وكلّها من الجاهلية، تتزيّا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء، وكلّها جاهلية عارية من الإسلام. وإنه ليزداد العجب من إنسان يفخر بشيء لا جهد له فيه ولا كسب، ويسخر من إنسان في أمر لا حيلة له فيه.
كن ابنَ من شئـتَ واكتسِب أدبًا يُغنيـك محمودُه عن النسب
إنّ الفتى مـن يقول: هـا أنـا ذا ليس الفتى من يقول: كان أبي
عباد الله، يا أيها الآباء، يا أيها المربون، اتقوا الله في أنفسكم، لا تُنْشِئُوْا صغاركم على التعصب والافتخار لغير الإسلام، بل ربّوهم على المبادئ الكريمة والخصال الحميدة التي دعانا إليها ديننا القويم، وحثوهم على الاتصاف بها، وذلك تحت مظلة الإسلام.
أما أنت، يا من تطعنُ في الأنساب وتفتخر بالأحساب، يا من حقّرت الناس وتنقصتهم، ألا تعلم حقيقتك؟! ألا تعلم أن أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وتحمل في جوفك العذرة؟! أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ [المرسلات:2]. فعلام الكبرياء؟! وعلام التعالي؟! إن احتقار الآخرين والحمية لغير الدين توقع المرء في الغَيْرة لغير الإسلام والغضب لغير الله، وتؤدي إلى ظلم العباد ورد الحق ومنع الحقوق والانتصار للباطل وأهله.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا وساوس الشيطان، فإنه إياكم يكيد، ولتفريق شملكم يريد، فقد صح بذلك الوعيد، أخبر به أنصح العبيد للعبيد عليه الصلاة والسلام فقال: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
نعم، والله إنك لتجد الرجل يقيم شعائر الدين، ويبكي من خشية الله، وفيه خير كثير، ثم تجده بعد ذلك قدْ مُلئ قلبه بالعصبية، فلأجلها يحب، ومن أجلها يعادي، ألا يعلم قول الرسول : ((الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان)) أخرجه االطبراني. والحب من العبادات، فيجب علينا أن لا نحب إلا ما يحبه الله، وأن لا نبغض إلا ما يبغضه، والله تبارك وتعالى يبغض العصبية والحمية لغير دينه.
إن الإسلام والتقى ليرفع وضيع النسب، ويُهبط رفيع الحسب، فهذا بلال عبد حبشي أعزه الله الإسلام، وأصبح من سادات المسلمين.
خَذَلَتْ أبـا جهل أصالتُه وبلالُ عبدٌ جاوز السُّحبا
أيها المسلمون، لقد حرص الإسلام على إقامة العلاقات الودّية بين الأفراد والجماعات المسلمة، ودعم هذه الصلات الأخوية بين القبائل والشعوب، وجعل الأساس لذلك أخوة الإيمان، لا نعرة الجاهلية ولا العصبيات القبلية. ورسولنا أقام الدليل القاطع على حقيقة الأخوة الإيمانية وتقديمها على كل أمر من الأمور الأخرى، فها هو رسول الله يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، وأخذ ينمّي هذه الأخوة ويدعمها بأقوال وأفعال منه تؤكد هذه الحقيقة الغالية، ولما هاجر الرسول إلى المدينة آخى بين الأوس والخزرج، فذاب ما بينهما من نزاع وصراع استمر ذلك المدى من الزمن الذي لا يعلمه إلا الله، وصار بينهم التآلف والإخاء الذي منَّ الله به عليهم بقوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، تلك المؤاخاة العجيبة الفريدة في التاريخ، حيث كان الأنصار يتنازلون عن شطر ما يملكون للمهاجرين عن طيب خاطر ونفس رضية، ومن غير إلزام من الله ولا رسوله.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واربؤوا بأنفسكم عن النعرات الجاهلية والافتخار بالأنساب والألقاب، فإن الفخر الحقيقي والنسب الناصح هو الإسلام، فبه نحيا، وعليه نموت، وإليه ننتسب.
في هذا اليوم، ينبغي أن ينسلخَ كلّ إنسان عن كبريائه، وينسلخَ عن تفاخرِه وتباهيه، أسأل الله تبارك وتعالى أن يؤلف بين القلوب، وأن يجعلها متحابة في ذات الله، فلا نعمة بعد الإسلام أعظم من ذلك.
أيها الإخوة المؤمنون، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. هذا تقرير الرب جل جلاله كما ذكره في كتابه، ففي هذا اليوم المبارك تتصافى القلوب، وتتصافَح الأيدي، ويتبادَل الجميعُ التهانيَ. وإذا كان في القلوب رواسبُ خصامٍ أو أحقاد فإنها في العيد تُسلُّ فتزول، وإن كان في الوجوه العبوسُ فإنَّ العيدَ يدخل البهجةَ إلى الأرواح والبسمةَ إلى الوجوه والشِّفاه، كأنَّما العيد فرصةٌ لكلّ مسلمٍ ليتطهَّر من درن الأخطاء، فلا يبقى في قلبِه إلا بياضُ الألفة ونور الإيمان، لتشرق الدنيا من حوله في اقترابٍ من إخوانه ومحبِّيه ومعارفِه وأقاربِه وجيرانه. فقد حث الإسلام أفراده على بناء مجتمع إسلامي قويّ مترابط، لبناته متماسكة، بناؤه محكم، علاقات أفراده متينة، مثله كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولكن لتفريط بعض أفراده في التمسك بما أمر الله به أدّى ذلك إلى تفشي داء عضال في جسد الأمة الإسلامية قد بدأت أعراضه تظهر علينا.
وإنه لمن المؤسف ـ يا عباد الله ـ أن راية قطيعة الأرحام بدأت ترتفع وأعراضها تظهر علينا، فلو أن لها رائحة لأزكمت الأنوف، ولما جلستم في هذا المصلى من رائحتها النتنة.
فمن تلك الأعراض عقوق الوالدين، فكم من ولد يهينهما ويسخر منهما ويحتقرهما، يكرم امرأته ويهين أمه، ويقرب صديقه ويبعد أباه، ونلحظ انتشار الأنانية والكبر والحسد والبغضاء بين الإخوة والأخوات والأعمام والأخوال وسائر أفراد المجتمع إلا من رحم الله، وكثرت النزاعات والخصومات بين الأهل والأقارب، وذلك لأتفه الأسباب، حتى أبدى بعضهم لبعض الشرّ والعداء، فأين الرحمة عند هؤلاء والديانة؟! بل أين المروءة والإنسانية؟! وإذا كان هذا في حق الوالدين، فما بالكم بموقف هؤلاء من الأقارب والأرحام؟! فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ في ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ [محمد:22، 23].
لقد وصل الحال ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظًا وحقدًا على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم بل يعاديهم، ويخاصمهم بل يقاضيهم، ويتمنى لهم الموتَ من أجل أمر تافهٍ حقير، يتعلَّق بحفنة من الحطام، أو وشاية غِرٍ لئيم، أو زلة لسان، أو شجار بين الأطفال، فتمرُّ الأشهر والسنوات وقلبُه يغلي عليهم، ونفسه تموج غلاً ضدّهم كما يموج البركان المكتوم، فلا يستريح إلا إذا أرغى وأزبد وآذى وأفسد، وتلك ـ لعمرو الحق ـ من دلائل الصغار واللؤم وخسّة الطبع وقلة المروءة لدى أقوام لا يتلذَّذون إلا بالإثارة والتشويش، ولا يرتاحون إلا بالتحريش والتهويش.
أيها المتقاطعون، أيها المتشاحنون، احذروا عقوبة قطيعة الرحم في الآخرة، وإنها لأعظم عقوبة يعاقب بها إنسان قط، وهي الحرمان من الجنة. ووالله، ليس لمن حرم من الجنة من موئل إلا النار إلا من رحم الله، فقد ورد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع))، قال سفيان: يعني: قاطع رحم. رواه البخاري ومسلم. وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن رسول الله أنه قال: ((إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل، فمن قطعها حرّم الله عليه الجنة)). وهذا في حق من استحل قطيعة الرحم والعياذ بالله.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا قطيعة الرحم، وقوموا بصلتها ابتغاء مرضاة الله تعالى ورجاء الأجر والثواب منه جل في علاه، ولا تقابل من قطعك بالقطيعة، واصبر واحتسب الأجر والمثوبة؛ لأن صلة الرحم سبب في دخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة. اقرؤوا قول الله تعالى عن المؤمنين: وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيّئَةَ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ [الرعد:21، 22].
فهنيئًا لقريبٍ أعان على صلته بقبول العذر والصفح والعفو والتغاضي عن الهفوات والتغافل عن الزلات، يشارك أقاربَه آلامهم وآمالهم، ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، إذَا التقى المسلمان في يوم العيد وقد باعدت بينهما الخلافاتُ أو قعدت بهما الحزازات فأعظمُهما أجرًا البادئ أخاه بالسلام. ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة وليعفُ وليصفَح، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ [الشورى:40].
لقد فعل إخوة يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل، ولم يوبِّخهم، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم، قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
أعاد الله علينا جميعًا من بركة هذا العيد، وأمننا من سطوة يوم الوعيد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياك بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، ولا أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
|