.

اليوم م الموافق ‏23/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

أهمية العلم والعلماء

1601

العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي

مصطفى بن سعيد إيتيم

مكة المكرمة

غير محدد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضل العلم والعلماء. 2- ضلال من خرج عن هدي العلماء. 3- الذكر الحسن للعلماء. 4- رفع العلم من أمارات الساعة. 5- المصيبة بفقد العلماء. 6- شيء من أوصاف الشيخ ابن عثيمين. 7- دروس وعبر من وفاة الشيخ.

الخطبة الأولى

أما بعد: فاعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن مكانة العلم النافع غالية، ودرجة أهله عند الله عالية، يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. ومَن يرفع الله فلا خافضَ له من بعده.

فالعلماء العاملون نجوم يهتدي بها الإنسان، يهتدي بها إلى شاطئ النجاة ومستقرّ الأمان، ولذا أشهدهم الله تعالى على نفسه، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكة قدسه، ونصبهم حجّةً على جِنِّه وإِنسه، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

 فالعلماء الربانيون هم شهداء الله المرضيّون، أشهدهم على أعظم مشهود: عبادة الله وتوحيده، ومعرفته وتمجيده.

العلماء المخلصون من ولاة الأمر الذين أمر الله تعالى بإطاعتهم، وحذر النبيُّ من إضاعتهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]. فمن اقتدى بهم اهتدَى، ومن ضلّ عنهم اعتلّ وزلّ.

ولكم ـ أيها المسلمون ـ العبرُ العظيمة والعِظات البليغة فيمن تنكّب طريقَهم وترك سبيلهم، والعاقل من وعَظته الشهورُ والأيام، وعلَّمته الدهور والأعوام.

وانظروا ـ أيها المسلمون ـ حالَ الأمة اليوم لما خرجت عن هدي علمائها، وجعلت نجومَها أحفادَ القِردَة والخنازير، وصارت مراكز النفوذ والقوة فيها لأذناب القردة والخنازير، انظروا كيف تردّت فانتشرت فيها المنكرات، وأُنكِر فيها المعروف، واتُّهم الدِّين وأهلُه، وحُورب فيها الإسلام باسم الإسلام، وضيّعت حدود الله وأحكامه، ونخر اليهود والنصارى والمنافقون في جسم الأمّة نخرًا، ثم أغاروا عليها بخيول الإعلام الهدّام وسلاح العَولمة الفتّاك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.

أيها المسلمون، العلماء الأجلاّء هم ورثة الأنبياء، ورِثوا أعظمَ إِرثٍ مِن أعظم موروث، قال الصادق المصدوق : ((العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظٍّ وافر))[1].

العلماء المعلِّمون، العلماء الدعاة إلى الله، العلماء الربانيون هم خير الناس، قال : ((خيركم من تعلّم القرآن وعلمه))[2].

إن الناس يشتركون في الموت على حدّ سواء، لكن بينهم في الذكر بعد الموت كما بين الأرض والسماء، فلِلعلماء الربانيين بعد وفاتهم أحسنُ الذكر وأطيبُه. إننا نذكرهم أكثرَ من ذكر الآباء والأجداد، نذكرهم فنترحَّم عليهم وندعو لهم، وما ذلك إلا لما كان لهم من الفضل وما خلّفوه من العلم؛ قال المصطفى : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[3]. الناس بآجالهم يموتون، والعلماء عند وفاتهم يولَدون من جديد.

العلماء الربانيون فضائلهم كثيرة ومحاسنهم جمّة غفيرة، هم صمام الأمان ومركب النجاة، هم أساس الأمة وأعمدة المجتمع، هم السيف الصقيل على أرباب الكفر والعناد وأهل الأهواء والبدع.

ما أحسن أثرهم في الناس وهم عنهم أغنياء، وما أسوأ أثر الناس فيهم وهم إليهم فقراء. فلله درّهم، وعنده أجرهم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 



[1] أخرجه أحمد (21208)، وأبو داود في العلم (3641)، والترمذي في العلم (2682)، وابن ماجه في المقدمة (223) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3096).

[2] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5027، 5028) من حديث عثمان رضي الله عنه.

[3] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الخطبة الثانية

الحمد لله على ما قضى وقدّر، والشكر له على ما حكم ودبّر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في التقدير والتدبير، فالكل له قانتون، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، قال له ربه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]. صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن من أمارات الساعة أن يرفع العلم ويفشو الجهل وتظهر الفتن ويكثرَ الهرج، وما رفْعُ العلم بانتزاعه من صدور أهله وإنما بموتهم، قال : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا))[1]، وقال عبد الله بن مسعود : (عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله)[2].

وإن من عرف للعلماء عظيمَ قدرهم أدركَ عِظَم المصيبةِ بفَقدهم، قال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة ـ أي: صدع ـ في الإسلام لا يسدّها شيء ما طرد الليل النهار"[3].

ولقد نقص من أطراف الأرض بالأمس قدرٌ كبير، ودُفن ببلد الله الحرام علمٌ كثير، فقد توفي الشيخ الفاضل والعلامة العامل، ثالثة الأثافي الشيخ محمد الصالح العثيمين بعد مرض طويل، نسأل الله تعالى أن يكتبَ له به الشهادة كما كان يتمناها ويحدّث نفسَه بها، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.

إن الشيخ ابن عثيمين علمٌ من أعلام هذه الأمة، آتاه الله علمًا غزيرًا وفهمًا سليمًا وفقهًا دقيقًا ونظرًا سديدًا، وقف حياته للتربية والتعليم، ونذر نفسه للدعوة إلى الله على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، دعا إلى الكتاب والسنة وحارب البدَع، وحذّر من التقليد الأعمى والتعصّب المشين، كانت كلماته على أهل الباطل وأعداء الدين جنودًا مجنّدة، وردوده على أهل الأهواء والبدع سيوفًا مهنّدة، نصر الله به الدينَ وأقام به السنة، جمع بين العلم والحِلم، والرحمة والحزم، قاد المعارك من بيته، وشارك المجاهدين بنيته الصالحة وصدقِ عَزمه، عمل على جمع كلمة المسلمين ولمّ شملهم ونبذ الخلافات التي بينهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه الأمة.

هو شيخ الشباب لعنايته بهم ورعايته لهم، وشاب الشيوخ لقوته فيهم ونشاطه بينهم، أحبه الموافق والمخالف؛ أحبه الموافق لعلمه وفضله، وأحبه المخالف لنصحه وعدله.

فرحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله وأفسح مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، وآجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا منها.

أيها المسلمون، إن لنا في هذا الحدث الجلل وقفات ووقفات:

1- فهو تذكير لنا بالموت الذي لا مفرّ منه، مات الأنبياء وماتَ الصالحون، ومات الأولياء ومات العالمون، فاستعدَّ ـ أخي المسلم ـ للموت، استعدّ له بفعل الطاعات وترك المنكرات والتوبة النصوح، استعدّ له فإنه يدخل بلا استئذان، وإذا دخل أنجز وأجهز، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

2- وهو حث لنا على طلب العلم، وعلى مبادرة أهله قبل رحيلهم وفقدهم. فالبدار البدار إلى مجاثاة العلماء بالركب، والجدّ الجدّ في طلب العلم. قال أبو الدرداء : (تعلّموا العلم قبل أن يقبض العلم، وقبضه أن يُذهب بأصحابه)[4]، وقال كعب رحمه الله: "عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه أن تذهب رواته"[5].

3- وهو تنبيه لنا على أهمية العلماء وفضلهم ومكانتهم في الأمة؛ فإن أمة بلا علماء كجسد بلا روح، ومركب بلا شراع؛ أمة بلا علماء كجيش بلا قائد، ومقاتل بلا سلاح. فاعرفوا ـ أيها المسلمون ـ للعلماء قدرهم، وأدوا حقهم، وإياكم من منابذتهم أو إساءة الظن بهم، فإن ذلك باب الهلاك وعتبة الخسران، والعياذ بالله. عليكم باتباعهم من غير تقليد، واحترامهم من غير تقديس.

4- وهو تذكير لنا أن الأمر لله من قبل ومن بعد، فالأمر أمره، والخلق خلقه، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]. يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ليس بينه وبين أحد نسب، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، قال لخليله محمد وهو أفضل الخلق: لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]. فالأمر كله لله، فاستجب ـ يا عبد الله ـ لأمر الله الشرعي، وارض ـ يا عبد الله ـ بأمر الله الكوني، تكن مسلمًا لله حنيفًا، فإن مدار الدين على إتيان المأمور واجتناب المحظور والرضا بالمقدور.

اللهم رضينا بك ربًّا، ورضينا بما قضيتَ وقدّرت، وإنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.

وإن عزاءنا في الشيخ أن الله تعالى بفضله وكرمه يُبقي في الناس أقوامًا ـ وإن قلوا ـ يحفظون على الأمة دينها، يبيّنون أصوله، ويميّزون فروعه، يردّون عنه هجمات اليهود والنصارى وأذنابهم، وينفون عنه شبهات الزنادقة والمبتدعين وأتباعهم.

فأملنا في الله كبير، إنه رحيم بعباده لطيف خبير، ولا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم منه الآخر.

هذا وصلى الله وسلمَ وبارك على نبينا محمد الذي هوّن موتُه كلَّ موت، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 



[1] أخرجه البخاري في العلم (100)، ومسلم في العلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

[2] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/592) [1017].

[3] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/595) [1021].

[4] رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/602) [1036].

[5] رواه ابن عبد البر في جامع العلم (1/596) [1024].

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً