أمّا بَعد: فاتَّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ حقَّ تقاته، واعلَموا أنّ ما بكم مِن نعمةٍ فمن الله، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].
أيّها المسلِمون، إنّه ما مِن اجتماعٍ في هذه الدّنيا إلاّ وسيصِير إلى افتراقٍ، والدَّهر يكون تارةً ذا فتح وتارةً أخرى ذا إغلاق، وما من تمامٍ إلا وسيحول إلى زوال، والزمن في دورانِه يُعدّ فرصة كبرى لإيقاظِ ذوي الفطنة في استثمارِ فُرَص الخير والنَّهل من مواردها والمدَدِ بالسبب إليها مع حذَر الانقطاع، ولقد كنّا بالأمس القريبِ في حالة من الترقُّب والوَلَه لبلوغ هذا الشهر المبارك، وها نحن بهذا اليومِ نقطع شطرَه بسجلاّتٍ مطويَّة لا يدرَى من الرابِح فيها فيُهنَّا، ولا من الخاسِر فيها فيُعزَّى، إنها قافلة العمَل الصالح التي لا تتوقَّف رحالها، بل هي ماضيةٌ دون التفات ولسان حالها يقول: يا باغيَ الخير، الحق بركابنا أو لتكوننَّ من القاعدين.
عبادَ الله، إنَّ من تأمَّل حالات فئامٍ من الناس ليست بالقليلةِ ليأخذَنَّ العجب بلُبِّه كلَّ مأخَذ، وإنه ليتساءَل في دهشةٍ وذهول: أين هذه الفئامُ من استِدراكِ خَصائِص الشهر المبارك؟ ألم يسمَعوا حديثَ النبي الذي رواه البخاريّ ومسلم: ((إِذا دخل شهرُ رمضان فتِّحت أبوابُ الجنة وغُلِّقت أبواب النيران وصفِّدت الشياطين))؟! أين هؤلاء من استثمارِ فرصة التصفيدِ هذه، والتي لا تخلُص الشياطين بسبَبِها إلى ما تخلُص في غيره؟!
ألا إنَّ مِن أمكَر حِيَل الشّيطان أن يركِّبَ في أفهام الناس لوثةَ القناعة بعدَم وجودِه في واقعهم، بحيث تكون تصرّفاتهم وتوجُّهاتهم في منأى شاسِع عن قولِ النبيّ فيما رواه الشيخان: ((إنَّ الشيطانَ يجري من ابنِ آدمَ مجرى الدم)). وإنه بمثلِ هذه اللوثةِ يكوِّن ضعافُ النفوس لدَى ذوَاتهم هالةً من العِصمة والحماية من ألاعيب الشيطان ومكرِه، فيقنِعون أنفسَهم بالاطمِئنان على أحوالهم وأوضاعِهم الرتيبة، وأنّه ليسَ تمَّةَ ما يستدعي التصحيحَ والإصلاحَ لهم ولمجتَمَعهم، أو على أقلِّ تقديرٍ الاستجابة للنّصح المنطلقِ من القلب المشفِق والنذيرِ العريان. في حينِ إنَّ الواجِبَ على الجميع في هذا الشهر أن يجعَلوا منه فرصةً للمرَان على منازلةِ الشيطان ومراغَمته أشدَّ المراغمة؛ لأنّ من قوِيَ إيمانه بربِّه فلا جرَمَ سيغلِب الشيطان لأنّ كيدَ الشيطان كان ضعيفًا، وما أسرعَ ما يفِرّ أمام القويِّ وصاحبِ العزيمة؛ لأنّ التواصل في طاعة الله وذكرِه الدائم كفيلٌ بالتخفيفِ من سَوْرَة الشيطان، ومن ثَمَّ تشخصُ أحداق المؤمِن المتَّقي تعجُّبًا لما يرَى من ضعفِ الشيطان أمامه، فلا يلبَث أن يوقنَ أنّه إنما كان مستسمِنًا ذا ورَم، ولا أدلَّ على ذلك من قولِ النبيّ للفاروق رضي الله عنه في الحديث المشهور: ((والذي نفسي بيده، ما لقِيَك الشيطان سالكًا فجًّا إلاّ سلك فجًّا غيرَ فجِّك))، والذي عليه إجماعُ الأمّة قاطبةً أنّ عمرَ رضي الله عنه لم يكن على شريعةٍ غيرِ شريعة محمّد ، ولم يكن نبيًّا مرسلاً ولا ملَكًا مقرَّبًا، ولكنه كان ذا إيمانٍ ويقين بالله وقوّة في الحقّ ودَحر للباطل، والله الهادي إلى سواء الصّراط.
أيّها المسلمون، لقد أكرَم الله هذه الأمّةَ في هذا الشهرِ المبارَك باجتماع نوعَي العبادة فيه بمُكاثرةٍ لا تظهَر في غيره، وذلك من خِلال الإكثارِ مِن دعاء العبادةِ ودعاء المسألة؛ إذ يتمثَّل دعاءُ العبادة في الإكثار من الصّلاة والصوم وقراءةِ القرآن والصّدقة والذكر، وهذه الطاعاتُ كلُّها تتكاثَر في رَمضانَ، وهي في الحقيقةِ دعاءٌ من المرءِ بلسان الحال أن يغفِرَ الله له ويتقبَّل منه ويجيرَه مِن عذابه. ويتمثَّل دعاءُ المسألَةِ في الدعاءِ المشهور في القنوت وعندَ الفطر وبين الآذانِ والإقامة وسائر الدعاء في سائر الأوقات، وهذا كلُّه فضلٌ من الله ونعمَة. فهنيئًا لمن رزَقه الله الاغتنامَ والتّمام، وخَيبةً لمن سبقَه المؤمنون وتجاوزَه المخلصون وهو لا يزال أسيرَ هواه طريحَ وِسادته.
إنَّ الأمة أحوج ما تكون إلى الدّعاء بنوعَيه في هذا الشهر؛ لأنَّ واقعها يمرّ بأعاصيرَ وزوابع تقذِف بها ذاتَ اليمين وذات الشمال. إنّها تتلقَّى الضرباتِ تلوَ الضربات، ويأتيها الموتُ من كلِّ مكان وما هي بميّتة، وإنَّ واقعَها ليُزري بها في حالٍ ليس لها من دونِ الله كاشفة، وهنا مكمَن السرّ في اللجوء إلى الله وارتقاب لُطفِه ورفعِ أكفِّ الضراعة إلى العزيز الغفار أن يصلِحَ أحوالَ المسلمين ويلمَّ شعثهم.
ولقد كان لنا في رسولِ الله أسوةٌ حسنة حينما شقَّ عليه ما رآه من طغيانِ صناديد قريش وإعلانها العداءَ لله ولرسوله ، فتوجَّه إلى الله يومَ بدرٍ في رمضانَ وأحيى ليلَه، فكان يلظّ بالحيِّ القيّوم قائلاً: ((اللهم إني أنشدكَ عهدَك ووعدك، اللهم إن تهلِك هذه العصابة لا تُعبَد بعدها في الأرض))، ويرفع يدَيه إلى السّماء حتى سقط الرِّداء عن منكبيه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فلم يُرجِع رسولُ الله يدَيه بعد الدعاء بصدقٍ وإخلاص ويقين بالإجابة إلاّ والملائكة تنزِل مددًا تقاتِل في صفوف المسلمين، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9]. والمسلمون في مشارِقِ الأرض ومغارِبها يفرَحون بهذا النّصرِ الجميل ويرفعون أيديَهم إلى السماء كما فعل رسول الله ضارعِين إلى المولى عزّ وجلّ أن ينصرَهم على أعدائهم، قائلين في حُرقةٍ وألمٍ مما يصيبهم: اللهمّ إننا ننشدك عهدَك ووعدك الذي وعدتنا.
إنّ على المسلمين بعامّة في هذا الشهر المبارَك أن يوطّدوا أنفسَهم على تحقيق الصّلةِ بالله وإحسان اللجوء إليه، فهو الذي يقضِي ولا يُقضى عليه، وهو الذي يكرِم عبادَه بالتنزّل في ثلثِ الليل الآخر إلى سماءِ الدنيا فيقول: هل من سائلٍ فأعطيَه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفِر فأغفر له؟ بيدَ أنَّ كثيرًا من المسلمِين مع هذهِ الفُرَص لفي حالةٍ من اليأس والقنوطِ بسبَب استبطاءِ الإجابة والنظَر بالعينِ البَاصِرة بأنّ واقعَ الأمة يزداد سوءًا يومًا بعد يوم ويترامَى شررًا كالقَصر، غيرَ أنّ الأمرَ الذي ينبغِي أن نؤكِّدِه هو أن لاستجابةِ الدعاء موانعَ ينبغي أن تقلِعَ عنها أمّةُ الإسلام حتى يتحقَّق لها ما تصبو إليه.
فمن تلك الموانعِ تركُ الأمر بالمعروفِ والنّهي عن المنكَر أو إهمالُهما أو الاستحياءُ فيهما؛ لما روَى الترمذيّ وأبو داود وابن ماجه أنّ النبيّ قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر أو ليوشِكَنّ الله أن يبعَث عليكم عذابًا مِنه ثم تدعونَه فلا يستجيب لكم)).
ومِن تلك الموانعِ ـ عبادَ الله ـ المطعَم الحرامُ لقول النبي عن الذي يمدُّ يدَيه في السفر أشعثَ أغبر: يا ربّ يا ربّ، ومطعمُه حرام، ومشرَبه حرام، وملبَسه حرام، وغذِّيَ بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك)) رواه مسلم.
ومِنَ الموانع أيضًا استعجالُ الإجابة لقولِه : ((يُستجاب لأحدِكم ما لم يعجل، يقول: دعوتُ فلم يُستجَب لي)) رواه البخاري ومسلم.
ولربّما لم يُستَجَب الدعاء لكونِهِ منبَثِقًا من شِفاه الداعين غيرَ مقتَرِن بالقلب واقترانَ الماء والهواءِ بالروح؛ لأنَّ اللسان ترجمان القلب وبريدُه، فالدعاءُ باللسان والقلبُ غافل لاهٍ إنما هو قليل الجدوى أو عديمُها، فرسولُ الله يقول: ((إنّ الله لا يقبَلُ الدعاءَ من قلبٍ لاهٍ)) رواه الحاكم والترمذيّ وحسنه.
دخلَ أهلُ البصرة على إبراهيم بن أدهم وقالوا له: ما لنا منذُ دهرٍ ندعو فلا يستجاب لنا؟! فقال: يا أهل البصرةِ، ماتت قلوبُكم في عشرةِ أشياء فكيف يستجاب لكم؟! عرفتُم اللهَ فلم تؤدّوا حقَّه، وقرأتم القرآنَ فلم تعمَلوا به، وادَّعيتم عداوةَ الشيطان وأطعتموه ووافقتموه، وتقولون: إنكم أمّة محمّد ولم تعمَلوا بسنّته، وادّعيتم دخولَ الجنة ولم تعملوا لها، وادّعيتم النجاةَ من النار ورمَيتم أنفسكم فيها، وقلتم: إن الموتَ حقّ ولم تستعدّوا له، وانشغَلتم بعيوبِ الناس وتركتم عيوبَكم، وأظلَّتكم نعمةُ الله ولم تشكروه، ودفَنتم موتاكم ولم تتَّعِظوا.
ألا فاتَّقوا الله معاشرَ المسلمين، وأكثِروا من اللجوء إلى الله والتضرّع إليه بقلبٍ صادق ورغبةٍ جامحة، فهو الذي بيدِه ملكوتُ كل شيءٍ وهو يجير ولا يُجار عليه، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِما من الآياتِ والذّكرِ الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه كانَ غفّارًا.
|