أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حقَّ التقوى، فالتقوى سبيل المؤمنين، وزاد الصالحين، وبها النجاة والصلاح يوم الدين. فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله في كل وقتٍ وحين، فإن تقوى الله عز وجل منال يرجَى إدراكه وتحقيقه، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز أن مما تنال به التقوى فريضة الصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فصيام شهر رمضان زيادة على ما فيه من جزيل الفضل والرحمة والمغفرة والعتق من النار فهو مدرسة لتعلم الصبر وتحقيق التقوى، فعلينا ـ عباد الله ـ أن نغتنم هذا الموسم العظيم والشهر الكريم وما تبقى فيه من أيام لنتزود فيها بخير الزاد ولندرك فيه خيره وفضله.
أتى رمضان مزرعـة العبـاد لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقـه قـولا وفعـلا وزادك فـاتخـذه للمعـاد
من زرع الحبوب وما سقـاها تـأوَّه نادما يوم الحصـاد
ألا وإنّ أفضل أيام هذا الشهر ولياليه ـ يا عباد الله ـ عشره الأخيرة، ونحن مقبلون عليها من الغد إن شاء الله، فأيّام العشر أفضل أيام الشهر، ولياليه أفضل ليالي العام كله، وحسب هذه الليالي شرفًا ورفعة وفضلاً أن الله اختصّها بليلة عظيمة، ليلة القدر التي عظَّم الله سبحانه قدرها، وأعلى شأنها، وشرفها بإنزال الوحي المبين هذا القرآن العظيم على سيد المرسلين .
إنه كتاب ربنا، هذا الكتاب الذي بين أيدينا إنه النعمة الباقية والمعجزة الخالدة والعصمة الواقية والحجة البالغة والدلالة الدامغة، وهو شفاء لما في الصدور، والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزْل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، منزه من الخطأ والزلل، صالح في كل مكان وزمان، لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
فهذا القرآن العظيم اختار الله لنزوله أشرفَ الأزمان وأعظم الشهور، وأفضل الليالي وهي ليلة القدر، إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]، إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
ومن خصائص هذه الليلة أن فيها يفرق كل أمر حكيم، إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:3، 4]، أي: في هذه الليلة يفصل من للوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها .
ومن فضائل هذه اليلة أنها خير من ألف شهر، والعبادة فيها تفضُل عبادة ألف شهر خلت من ليلة القدر، فهي ليلة عظيمة البركات كثيرة الخيرات، تضاعف فيها الحسنات، ويستجاب فيها الدعوات، لِما يتنزل فيها على العباد من عظيم المنح الربانية وجليل النفحات الإلهية، إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1].
وإن من صدق إيمان العبد ودلائل توفيق الله له أن يغتنمَ هذه الليالي المباركة، بجلائل الأعمال الصالحة، وأنواع العبادة والطاعة، والتذلل بين يدي الله عز وجل، والإنابة إليه، أملا في إحراز فضل ليلة القدر ونيل بركاتها، فلقد بلغ من عظيم فضلها وجليل ثوابها أن من قامها بنية خالصة وعبودية صادقة كفّر الله عنه ما تقدم من ذنوبه وخطاياه، فقد قال : ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) أخرجاه في الصحيحين.
وقد رغب رسول الله أمته إلى التماس ليلة القدر في ليالي العشر الأواخر، أو السبع البواقي منها، وأنها ترجى في ليالي الأوتار، وأرجاها ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر الكريم، فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي))، وفي لفظ آخر له: ((فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر))، وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله عما تدعو به في ليلة القدر إن هي علمتها، فأرشدها أن تقول: ((اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني)).
وقد كان رسول الله يخصُّ هذه العشر الآواخر من رمضان بمزيد من العبادة، ويضاعف فيها الأعمال الصالحة، ويجتهد فيها بأنواع الطاعات والقربات ما لا يجتهد فيما سواها من الأزمنة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر.
فمن التوفيق والرشاد ونفاذ البصيرة وسداد الرأي أن يغتنم المسلم هذه الأيام الفاضلة واليالي المباركة بالتزود بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على العبادات من صلاة وصيام وقيام، وصدقة وبر وإحسان، وعطف على الفقراء والأيتام، والإكثار من الاستغفار، وإدامة ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فإن ذكر الله تعالى يزكي النفوس، ويشرح الصدور، ويورث الطمأنينة في القلوب، كما قال تعالى: أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
وإن خير أنواع الذكر قدرًا وأعظمها عند الله أجرًا تلاوة كتاب الله الكريم الذي لا يَأتيهِ الباطلُ من بينِ يَديهِ ولا من خَلفِه تنزيلٌ من حَكيمٍ حمِيد. فقد كان من هديه الإكثار من تلاوته في رمضان أكثر من تلاوته في غيره، وكان جبريل يأتيه في رمضان يدارسه القرآن.
وقد أبان عن فضل تلاوة كتاب الله وعظيم ثوابه بقوله: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
والقرآن شافع لك يوم القيامة، ((يأتي القرآن شافعًا لأصحابه يوم القيامة))، فاقرؤوه وتدبروه، في رمضان وفي غيره، ولتكن قراءته في رمضان عظيمة.
أيها المسلمون، ينبغي وخاصة في هذا الشهر العظيم أن تسري عظمة القرآن في نفوسنا، وأن تلين له جلودنا، بعد أن تخشع له قلوبنا، فتلكم الهداية التي أخبرنا الله عز وجل عنها: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]. وكيف لا تقشعر جلودنا وتلين قلوبنا وربنا يخاطبنا ويقول: لَوْ أَنزَلْنَا هَـذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاْمْثَـالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
أيها المؤمنون، إنه من الأسف الشديد أن الكثير من الناس في هذا الزمان قد أصابتهم الغفلة، وقعوا في هجر القرآن، ولربما تجد بعضهم يمرّ عليهم الأسبوع أو الشهر وهم لم يقرؤوا أو لم يسمعوا آية من القرآن، و لقد شكا النبي إلى ربه من هجر القرآن قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَـذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
ومن هجر القرآن هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، فتجد بعضهم يستمع إلى إذاعات الدنيا كلها، ويستمع إلى أنواع منوّعة من الأغاني الساقطة الماجنة، ويحرم نفسه من سماع القرآن في شهر القرآن، وإذا مر بسمعه القرآن أغلق الجهاز أو المذياع كأن القرآن يزعجه أو يذكّره بشيء لا يريده، وتجد البعض الآخر قد يقرأ كل ما يجده من مجلات وجرائد مختلفة، ويحرم نفسه من القراءة في المصحف ولو لآيات قليلة، وبعضهم قد خصوا قراءة القرآن وسماعه في الجنائز فقط، وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَـذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] والله المستعان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|