أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد أمر الإسلام بالمحافظة على ضروراتٍ خمس، وشدّد في المحافظة عليها، ورتب على انتهاكها حدودًا في الدنيا وعقابًا في الآخرة، ألا وإن هذه الضرورات التي حفظها الإسلام مال المرء وعقله ونفسه ودينه وعرضه، فهذه الأمور تكفلت الشرائع السماوية في أحكامها بحفظ مصالحها، وحرمت كل ما يضر بها، وجاءت شريعة محمد مؤكدة لذلك، مرسّخة له بتعاليمها، وهو أمر مستقر في فطر الناس، متعارف عليه، ولكن هذا قد يغفل عنه في أعمال نشأ البعض عليها وحظيت بالدعم والدعاية الإعلامية الكبيرة، والتي غرت كثيرين وسلبتهم أموالهم وأضرت بأبدانهم وأديانهم، إرباحًا لهذه الشركات العالمية التي لا تريد إلا المال ولا يهمها ما حدث للناس بعد أن تسلبهم أموالهم.
إخوة الإسلام، إن هذا الأمر منطبق تمامًا على حال بعض الناس مع تلك المادة الخبيثة وهي الدخان، وإن الذي دعاني للكلام في هذا الموضوع هو الإيضاح لقطاع كبير من المجتمع يتلقّون الدعاية المتواصلة من الشركات ووسائل الإعلام، ويرون ما توحي به الفضائيات والأفلام من الرجولة في المدخّنين والتفهّم لمعاني الحب والمثل الرقيقة، في الوقت الذي صمتنا فيه عن التحذير والبيان لنقارع الحجة بالحجة والدعاية الفارغة بالبيان العلمي الصحيح.
لقد انتشر الدخان في قطاع كبير من المجتمع، ولا يخلو أحد إلا وهو يعرف قريبًا أو صديقًا في العمل ونحوه من المدخنين، وأكثر من يقع تحت غائلته فئة الشباب لما يتركب في أنفسهم من حب الاستطلاع والكشف عن الأمور التي حُذّروا منها، وتستغل ذلك شركات تصنيع التبغ فتزيد الجرعات من مادة النيكوتين والذي يسفر عن زيادة مستويات الإدمان من قبل حديثي السن وخاصة المراهقين، فيستمرون عليه بعد التجربة إدمانًا عليه، وهنا يقعون في حبائل هذه الشركات التي أغرتهم بالدعاية أولاً، ثم سلبت أموالهم وأهدرت صحتهم.
أيها المسلمون، إن من قواعد الإسلام العامة في المأكل والمشرب أن الله أحل لعباده الطيبات التي تعود عليهم بالنفع، وحرم عليهم ما خبث طعمًا أو رائحة أو ضررًا، وأصل ذلك قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـئِثَ [الأعراف:157]، ولا يجوز للإنسان أن يتناول شيئًا ثبت عند الأطباء قديمًا وحديثًا أنه مضر بالصحة ضررًا بالغًا، فإن المسلم لا يملك نفسه، وإنما حياته ملك لله الذي وهبه إياها، ولا فرق بين من يقتل نفسه بوسيلة عاجلة ومن يقتلها بسمّ بطيء، فكلاهما يودي بحياة الإنسان عاجلاً أم آجلاً، وأصل ذلك قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰنًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وقال تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ثم إن المال نعمة من الله تستوجب الحفظ، فلا ينفقه إلا في الأوجه المشروعة، ففي ضياع المال ضياع لثروة الأمة ودعم لهذه الشركات التي تتاجر بهذه المواد الخبيثة، وأصل ذلك ما ثبت عن الرسول أنه نهى عن إضاعة المال.
أيها المسلمون، لقد عرِف التدخين منذ زمن بعيد وتحديدًا في القرن الخامس عشر الميلادي، وعرفت مادته ومكوناته في أمريكا تحديدًا، وكان سكان أمريكا الأصليون وهم الهنود الحمر يستعملونه بعدة وسائل، فهم يمضغونه أو يستنشقونه أو يضعونه في لفائف ليدخنوها، وهي السجائر المعروفة اليوم، ثم انتقلت هذه العادة من أمريكا إلى أوروبا، وانتشرت في أنحاء المعمورة، وأنشئت لها المعامل الآلية التي تنتج في اليوم الواحد ملايين اللفائف، فارتفع معها الاستهلاك ارتفاعًا هائلاً، وظهرت طرق جديدة لاستعماله منها طريقة الغليون والنرجيلة التي تعرف بالشيشة، وكذلك الشمة وهي مخلوط من الرماد والتبغ.
وقد أدرك الأطباء خطورته وأضراره منذ زمن مبكر، وأطلقوا الصيحات تلو الصيحات في التحذير منه، وتتابعت البحوث في ذلك، وكان لهذا أثره على الدول التي حاولت أن تحدّ منه بفرض الضرائب عليه دون أن تقوم بمنعه طمعًا في المصلحة المادية الكبيرة من ورائه، وأما شركات التبغ فهي تخصّص في موازناتها نصيبًا هائلاً للدعاية بوسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وتشتري من بعض الأطباء ضعاف النفوس ضمائرهم ليكتبوا أبحاثًا في التقليل من شأن الأضرار التي تقال في التدخين. ونتيجة لهذه الدعايات فقد سرت عادة التدخين بين جميع الأعمار والأجناس، وإن كانت نسبتها ترتفع بين المراهقين.
إخوة الإسلام، وإذا أردنا التعرّف على أضرار التدخين فإنا نعرّج أولاً على المكونات التي يركب منها، فهو يحتوي على العديد من المركبات الكيميائية، والتي تسبب الكثير من الأمراض، وأهم مركباته النيكوتين وهو مادة كيميائية سامة حيث وجد أن 60 مِلِجرام منها قادرة على قتل إنسان بالغ لو أعطيت له دفعة واحدة عن طريق الوريد. ويحتوي ثانيًا على غاز أول وثاني أكسيد الكربون والذي ينتج عن احتراق التبغ، وكذلك احتراق الورق الملفوف به السجائر وهو ضار جدًا.
وإذا عرفنا هذه المكونات المضرة بالصحة فبإمكاننا أن نقسم ما ذكره الأطباء من الأضرار في الدخان إلى أربعة أقسام بحسب الجهاز المصاب:
فللتدخين أضرار على الجهاز القلبي حيث يزيد في ضربات القلب، ويزيد الذبحة الصدرية، ويحدث اضطرابات في الدورة الدموية في الأطراف، ويحدث عن هذا الجلطات المؤدية إلى البتر أحيانًا والغرغرينا ونحوها، وهذا ما نشاهده نحن في أطراف المدخنين من الإحمرار أو الدكونة الشديدة مما يدل على هذه الاضطرابات.
وللتدخين أضرار على الجهاز التنفسي، فهو يسبب سرطان الرئة حيث سجلت الإحصائيات أن نسبة الوفيات به عالية جدًا بين المدخنين إذا قورنت بنسبة الوفيات بنفس المرض عند غيرهم، وحوادث السرطان هذه تتزايد بازدياد عدد اللفائف المدخنة يوميًا، كما يسبب سرطان الحنجرة، ويزيد في أمراض الحساسية والربو وضيق التنفس.
وللتدخين أضرار على الجهاز الهضمي، فهو يسبب سرطان الفم والبلعوم والمريء والبنكرياس، ويزيد من قرحة المعدة والإثني عشر، ويسبب حموضة المعدة.
وللتدخين أضرار على الجهاز العصبي، فهو يسبب الاكتئاب والقلق والخمول والكسل واعتلال المزاج واضطرابات النوم وضعف الشهية والتوتر وسرعة الانفعالات، وهذه الأضرار العصبية ظاهرة جدًا على المدخنين، وليسمح لي المدخنون بالصراحة في هذا الأمر فنحن رأيناهم أسرع الناس غضبًا وأكثرهم نزقًا وأجرأهم على المعاصي، وهذا ما يفسر قول العامة عن الدخان أنه بداية فساد المرء، وهذا ما يفسر وقوع المدخن بعد ذلك في الخمر أو المخدرات، فنحن لا نعلم مدمنًا على الخمر وهو لا يدخن، ولا نعلم مدمنًا على المخدرات وهو لا يدخن، فالدخان هو العتبة الأولى في بوابة السكر والخمور والمخدرات، وهذه المخدرات هي الولد الشرعي للدخان، وهذا الدخان هو البداية دومًا لنهايةٍ بالإدمان على المسكرات والمخدرات، فهذا ما يشهد عليه الواقع، وهذا ما يزيد من خطورة الدخان الذي يبدأ به الشاب عبثًا، ثم ينتهي به إلى أمور لا تحمد عقباها.
ولذلك نقول: كما أن للدخان أضرارًا صحية فله أضرار كبيرة على دين المرء وعلاقته بربه، فهو شرب لأمر خبيث منهي عنه، وهو يفسد العقل ويقطع الوقت ويشغل عن الصلاة ويؤذي المساجد برائحته، ثم هو عائق كبير عن صيام رمضان، بل إن بعض المدخنين يترك ركنا من أركان الإسلام وهو الصيام بسبب هذا الدخان، ورأينا أناسًا من المسلمين يدخّنون في نهار رمضان، فتأمل كيف أدى به هذا الدخان الذي استصغر أمره إلى هذه المصائب العظيمة والأخطار الجسيمة على دين المرء، يقول تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ [المائدة:91]، فذَكر الله تعالى من أسباب تحريم الخمر والميسر الصدّ عن الذكر وعن الصلاة، وهذه العلة تتحقّق في الدخان، فإن شاربه في العادة يهرب عن حلق الذكر والقراءة ويألف اللهوَ والباطل عادة، وهو غالبًا السبب الرئيسي لبعد كثير من المدخنين عن حضور المساجد والصلاة مع جماعة المسلمين، وما كرّه الخير للعبد فهو شرّ، وكذلك فهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار، فهذا يكون سببا لما هو أكبر منه وهو تعاطي المخدرات، نسأل الله السلامة.
إخوة الإسلام، وللدخان أضرار اجتماعية، فلا يمكن لرب الأسرة المدخن أن ينهى أولاده عن ذلك، بل غالبًا تكون ذريته على منواله وأسوأ، ويعاقب غير المدخن بالتدخين السلبي الناتج عن مجالسة هؤلاء المدخنين واستنشاق دخانهم، وهو أشد خطورة من الدخان الأصلي.
فإن شارب الدخان يسيء إلى مجتمعه، ويسيء إلى كل من جالسه وصاحبه، بحيث ينفخ الدخان في وجوه الناس، فيخنق أنفاسهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجو من حولهم من غير خجل ولا حياء، ولا يفكر في وخيم فعله، ولو أن إنسانا تنفس في وجه هذه المدخن أو امتخط أمامه كم يكون تألمه واستنكاره لهذا الفعل؟! وهو يفعل أقبح من ذلك بمُجالِسه، فنفخ الدخان في وجوهِ الناس أعظم من ذلك بأضعاف.
وللتدخين أيضًا أضرار اقتصادية حيث سيكون سببًا في ضياع المال الذي نهانا الرسول عنه، والأثرياء لا يضرهم البذخ في شرائه وإن كانوا يؤثرون على الاقتصاد العام للأمة، بعكس واقع الفقراء الذي رأينا وسمعنا عن بعضهم عندما يقتِّرون على أنفسهم وأولادهم في النفقات الضرورية لتوفير نفقات التدخين، وهذا أول العقوبة على هؤلاء.
بل يمكن أن يقال: إن التدخين ليس له حسنة واحدة يمكن أن تقال فيه، بل على العكس فكله مضار كما ذكرنا، والتدخين في الحقيقة هو أحبولة غربية لملء جيوب هذه الشركات، وبعض المدخنين يقول: الدخان أمر عادي ليس بحرام أو لا يقدح في المروءة، ولو رأى أحدنا إماما أو واعظا أو رجلا من أهل القدر والرفعة يشرب الدخان لاستنكر هذا الفعل ولشهّر به في المجالس ويقول منتقِدا: رأيت الشيخ فلانا يشرب الدخان! وما ذاك إلا لأنه ليس من مقام المروءة ومكارم الأخلاق، ومن رأى مجالس المدخنين ومن يرتادها ومجالس الصالحين ومن يحضرها يعرف الفرق.
إخوة الإسلام، ولو أردنا التعرف على أسباب انتشار التدخين فإنا نذكرها للحذر منها:
وأولها: وسوسة الشيطان، والأول مكرَّرًا أيضًا: رفقاء السوء، فهم الذين يدعون إليه في الغالب، وإلا فإنه لا يدعو إلى نفسه.
ثالثًا: التقليد الأعمى وحب الاستطلاع، وهنا ندعو الشباب أن يكون استطلاعهم فيما يفيد من العلم والأخبار وتاريخ الأمم والدول، لا أن يكون محصورًا فيما يفسدهم.
رابعًا: عدم الوعي الكافي بأضراره وحكم الشرع فيه.
خامسًا: ضعف الوازع الديني.
سادسًا: وسائل الإعلام والتي توحي بأن التدخين من الرجولة والفتوة ونحوها.
أسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم لسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
|