أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد قصَّ الله تعالى علينا أخبار الأمم السابقة والعواقبَ الوخيمة التي انتهوا إليها حين شاعت فيهم الانحرافات والمخالفات، دون أن يرفع أحد منهم رأسًا أو يقول كلمة لأولئك الذين يستعجلون أيام الله لأنفسهم ولأممهم، فقال تعالى: لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرٰءيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]. وعندما نقلب صفحات التاريخ وأحداثه نجد أن أممًا وحضارات سادت ثم بادت، وحينما نتعمّق في البحث عن أحوال هذه الأمم نجد أن الفساد وأهله هم الذين قضوا على تلك الأمم، وعاثوا في الأرض فسادًا، وأشاعوا الفاحشة، وأرخصوا القيم العليا في الوقت الذي غُفِل عنهم ولم يؤخذ على أيديهم، وهكذا تتحلّل الأمم وتسترخي وتفقد حيويتها، فتهلك وتطوى صفحتها.
وكان من نعمة الله على أمة الإسلام أن قرّر لها في شرعتها ما هو سبب بقائها واستمرارها، ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله من الخصائص والمميزات التي تفردت بها هذه الأمة عن سائر الأمم الكافرة الضالة عن سواء السبيل، يقول تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل عمران:110]، وقال تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان، بل لا بد من قيام سلطة الأمر والنهي على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية وصيانة أخلاق المجتمع الخيّرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة،برأيه وبتصوره زاعمًا أن هذا هو الخير والمعروف والصواب.
أيها المسلمون، إن كل مجتمع مهما بلغ من الفضل والرقي لا يستغني عن شريحة فيه تتمثل فيها المثل العليا لذلك المجتمع، تحفظ عليه وجوده المعنوي المتمثل في عقيدته وأخلاقه وضوابط علاقاته.
وإن هؤلاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يملكون من التوهّجِ في أرواحهم والحيويــةِ في نفوسهم ما يجعل همَّ مجتمعِهم همَّهم الأكبر، فيسعَدُ بهم ذلك المجتمع؛ إذ يحفظون علـيه توازنه واستقامته وشروط استمراريته، رفعوا عن الأمة الإثم، وحموها من الزيغ، وتمثلوا الفرض الكفائي، وقادوا سفينة الأمة إلى بر النجاة والأمان؛ حيث الأعراض مصانة والخمور مراقة والمعاكسون مقموعون والأمن مستتبّ، يقول رسول الهدى : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)) رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير.
واسألوا ـ إخوة الإسلام ـ من وقع في أيدي الآمرين بالمعروف من الفتيات وهنّ على حالة منكرة: كيف انتشلوهن من بحور الظلمات؟ كيف صانوا أعراضهن؟ كيف أنقذوهن من براثن الكلاب المسعورة التي لا ترحم؟ لم يكن منعُهن من التبرج في الأسواق تعدّيًا عليهن، بل صيانة لهن وحفاظًا عليهن، واسألوا الشباب: كم تائب تاب على أيديهم؟ وكم ضائع اهتدى بسببهم بعد الله؟ وكم حائر أخذوا بيده إلى الطريق القويم؟ كم مدمن للخمر ضربوا على يديه حفاظًا على دينه وصحته؟ وكم تارك للصلاة أرجعوه إلى بوتقة الدين؟ وقل مثل ذلك في المروجين والمتشبهين وغيرهم، ومع ذلك ـ إخوة الإسلام ـ كثير من الناس لا يعلم فضلهم عليه المتجلي في أمنه وصيانة أهله وعرضه وصيانة أمته من العقوبة العامة.
وعلى كل حال فقد جرت سنة الله في الابتلاء أن تلقى هذه الفئة الطيبة الخيرة المُحَارَبة دائمًا، وتلقى الأذية والعنت، وما ذلك إلا لأنها تسير في الاتجاه المضاد لأهل الشهوات والأهواء الذين يمكن أن نسميهم بـ(المختزلة) حيث يقصُرون هموم البشرية كلّها في همّ واحد هو همهم، ويتجاوزون رغبات الخلق ومصالحَهم مهما عظمت إلى رغباتهم ومصالحهم هم، فإذا تحقّقت لهم رغباتهم فلا همّ لهم بما يحدث للأمة بعد ذلك. فئة أنانية تضيق ذرعًا بمن يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، تلمزهم وتحطّ من قدرهم، تحيك التهم لهم، تشوّه صورتهم في المجالس، وتريد للمجتمع الفساد كما قال تعالى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]، فهم يريدون أن يطلقوا الغرائز من كل عقال: ديني أو أخلاقي أو اجتماعي، يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، السعار المحموم الذي لا يقرّ معه قلب، ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئنّ معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة، يريدون أن يعود الآدميون قطعانًا من البهائم، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوّة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة، كل هذا الدمار وكل هذا الفساد وكل هذا الشر باسم الحريـة، وهي في هذا الوضع ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة الحيوانية.
وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين منه، وهو يحذّرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات، وقد كانوا يبذلون جهدَهم لرد المجتمع المسلم إلى الانحلال في المجال الأخلاقي الذي تفوّقوا فيه وتفرّدوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف، وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجّهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيميّ الذي لا عاصم منه إلا منهج الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها المسلمون، إن رئاسة الهيئات في هذه البلاد لم تكن تمزح عندما وضعت سفينة النجاة شعارًا لها، ولم تكن أهدافها فراغًا، بل إن نصف الأمن في هذه البلاد قائم عليها، وكثير من الجرائم تحبط على أيديهم.
كم من فتاة قد حفظتم عرضها توصـونها بالليـن أن تتستـرا
كم غافل أرشدتموه إلى الهدى إذ عـاد من بعد الضلالة مبصرًا
يا من إذا نمنـا بثوب أماننـا فتحوا العيون الناعسات لتسهرا
هيئاتنا تـاج على هـاماتنـا أخشـى دونهـم أن لا نمطـرا
معاشر المسلمين، وإنه نظرًا للأخطار التي تهدد الأمة بخلوِّها من هذه الشريحة المباركة التي تأمر بالقسط والتي تعد قلب الأمة النابض وبصيرتها النافذة فإن الله تعالى قرن محاربة هذه الفئة بالكفر به وقتل رسله حيث قال جلَّ وعلا: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُم مّن نَّـٰصِرِينَ [آل عمران:21، 22].
ولاشك ـ إخوة الإسلام ـ إن الوقيعة في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر متوقَّعة من الذين يتبعون الشهوات، ذلك أن كل امرئٍ ينفق مما عنده، وكل إناء بما فيه ينضح، ولا تحتاج المسألة إلى تفكير طويل ولا إلى ذهن ثاقب، يهاجمون الهيئات من غير ذنب جنوه ولا إثم ارتكبوه، وإذا أردتَ أن تتعرّف على أسباب ذلك فاسأل مدمن المخدّرات عن محبّته لجهاز مكافحة المخدرات، واسأل اللصوص وقطاع الطرق عن محبتهم لرجال الأمن الذين يأخذون على أيديهم، وهكذا هؤلاء الموتورون، والذين جثموا على صدورنا من خلال وسائل الإعلام، والذين يطالبون بإعادة النظر في شعيرة من أعظم شعائر الدين، بل من خصائص الأمة ومن ميزات هذه البلاد، وما ذاك إلا لأنها منعتهم من شهواتهم المحرمة، وحالت دون تنفيذ مشاريعهم المشبوهة، هؤلاء هم المتربّصون بأمن هذه البلاد، هؤلاء هم الذين كانوا يظهرون الولاء لحكومة البلاد في أيام الرخاء، فلما هبّت الرياح وجاءت الضغوط الخارجية قفزوا عليها بأقلامهم الثقيلة، وزادوا الكافرين ضغطًا على ضغطهم، وقوة إلى قوتهم، وهم في تصرفهم هذا يرتكبون خيانة عظمى لولاة الأمر، فيجب أن يوقفوا عند حدهم، وأن تسمع الشكوى عليهم، وأن يقوم القضاة باستقبال الدعاوى عليهم، حتى يعلموا أي جرم فعلوا، وأي خيانة عظيمة ارتكبوا.
ومع ذلك نحن لا ندّعي العصمة، ولا ننفي الخطأ عن رجال الحسبة، فالخطأ طبيعة ابن آدم، والمحاسبة على الخطأ أمر طبعي إذا كان ذلك يطبّق على جميع الدوائر الحكومية، وأما أن يتسلّق من هذه الأخطاء على إلغاء الجهاز وتعطيل أعماله فهذا هو الاصطياد في الماء العكر، وهو المحاربة لله ولرسوله، وهو مطالبة بتعطيل آيات من كتاب الله تعالى، ومطالبة للدولة بإلغاء ميزة من أعظم مزاياها، وإذا حصل ضعف في أيّ دائرة حكومية فإن ذلك يعالج بالدعم والتطوير وزيادة الموظفين والمعدات وأجهزة الاتصال، أما من يطالب بالإلغاء فهو غير مؤمن بحاجة الأمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو قادح في قرار إنشائه من الأصل ومعترض على شعائر الله.
نسأل الله أن يوفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لكل خير، وأن ينصر من نصرهم، ويخذل من خذلهم أو حاول كبتهم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
|