أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد اختار الله لأمة الإسلام منهجها وبيّن لها طريقها، فهي وسط بين الأمم، وطريقها هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ [البقرة:143]، فهي أمة الوسطية، ودينها وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسطِ بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيّع له فالغالي فيه مضيّع له، هذا بتقصيره عن الحدّ، وهذا بتجاوزه الحدّ، وإن التزحزحَ عن هذا المنهج الوسط يعتبر افتراءً على الله في حكمه، واستدراكًا عليه في شرعه، وإن وسطية الإسلام وسماحته لا تؤخذ من العقول البشرية، ولكنها تؤخذ من النصوص الشرعية، وإن دين الإسلام والمتمسكين به بعلم برآء من الانحراف عن الوسط، سواء الجانحِ إلى الغلو، أو الجانحِ إلى التقصير. والذي ينحرف عن هذه الوسطية بغلو أو جفاء، لم يتمسك بالإسلام بكماله، وهو غير ممثل له، وإنما يمثل نفسه.
أيها المسلمون، ولَئن كانت الأمة قد عايشت صورًا من الغلوّ والتطرف في عصور سلفت، فإن أشد أنواع التطرف ما عاشته الأمة في عهودها وعقودها هذه الأخيرة، حيث تطرَّفَ التطرُّف إلى طرَف الطَّرَف، ولئن كانت الضوضاء قد علت وعلا ضجيجها عن التطرف أخيرًا فإن وجود التطرف حقيقة لا مرية فيها، ولكن قبل ذلك إن التطرف سابق للضجة التي أثيرت حوله بكثير، عانت الأمة من التطرف، وعانت من ثمار التطرف، ذلك أنه شجرة خبيثة، إذا نمت نمت معها أشواكها الحادة، ومن أشواكها الحادة العنف واستباحة الدماء.
ولا شك أن القتل والتفجير والترويع الذي يستهدف أمن المجتمعات المسلمة واستقرارَها عملٌ يتنافى مع أحكام الشريعة التي جاءت بعصمة دماء المسلمين والمستأمنين، ويخالف مقاصد الشريعة التي جاءت بحفظ الدين والنفس والمال والعرض، ولذلك فإنا نُدين التفجيرات التي حصلت هذا الأسبوع، ونؤكِّد على خطورتها على دين من يقوم بها قبل خطورتها على غيره؛ فإن المسلم لا يزال في فسحة في دينه ما لم يصب دمًا حرامًا.
ولقد أصدرت هيئة كبار العلماء بيانًا ضافيًا في هذا الموضوع، وبينت أن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرّم لا يُقرّه دين الإسلام، وتحريمه جاء من وجوه: 1- أن هذا العمل اعتداءٌ على حرمة بلاد المسلمين وترويعٌ للآمنين فيها، 2- أن فيه قتلاً للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام، 3- أن هذا من الإفساد في الأرض، 4- أن فيه إتلافًا للأموال المعصومة.
وكل ذلك تم بيانه بالأدلة الشرعية القطعية من الكتاب والسنة، وبينت الهيئة أيضًا أن هذا العمل كما أنه محرم شرعا فإن فيه ذريعة لتسلّط الأعداء على الأمة الإسلامية من كل جانب، وبينت أن أعداء الإسلام يفرحون بالذرائع التي تبرر لهم التسلط على أهل الإسلام وإذلالهم واستغلال خيراتهم، فمن أعانهم على مقصدهم وفتح على المسلمين وبلاد الإسلام ثغرًا لهم فقد أعان على انتقاص المسلمين والتسلط على بلادهم، وهذا من أعظم الجرم.
ثم حثت الهيئة على العناية بالعلم الشرعي المؤصّل من الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة، وأوصت بالعناية بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وحثت شباب المسلمين على إحسان الظن بعلمائهم والتلقي عنهم، لأن أعداء الدين يسعون للوقيعة بين شباب الأمة وعلمائها وبينهم وبين حكامهم حتى تضعف شوكتهم وتسهل السيطرة عليهم، فالواجب التنبه لهذا.
ثم ختم علماؤنا الأجلاء بيانهم بالوصية بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وبسؤال الله أن يصلح حال المسلمين، وأن يجنب بلاد المسلمين كل سوء ومكروه.
إخوة الإسلام، وما جاء في بيان هيئة كبار العلماء من أحكام وتحذيرات هو ما يعتقده عموم المسلمين في هذه البلاد ولله الحمد، وهو المعتقد السائد في الصحوة الإسلامية المباركة بجميع أطيافها ومؤسساتها، وهو الذي ينتشر في أوساط الصالحين في المدارس وحلق القرآن، وهو الذي تعالت به نداءات الدعاة قبل وقوعه في بيان الجبهة الداخلية وغيرها. وهذا الفكر الوسط المعتدل هو الذي تقوم عليه مناهج التعليم في هذه البلاد المباركة.
معاشر المسلمين، وإذا نشأ في المجتمع فكر نشاز فإنّ أهل الوسط والاعتدال من العلماء والدعاة ومن تبعهم هم أشدّ الناس شعورا بالمسؤولية، وأحرصهم على علاجه بالمنهج العلمي الرصين، والذي يستشعر الواقع ويستشرف المستقبل بعيدًا عن أساليب المعالجة السطحية والتي تعتقد أن حلَّ المشكلة ينتهي عند إدانة الحدث وشتم المنفّذين ونشر صورهم وتواريخ ميلادهم وصور منازلهم وتجريدهم من إنسانيتهم فحسب، ثم كيل التهم يمينا وشمالاً.
إن هذه المشكلة قد استعصت على كثير من الدول لما أقصي المعتدلون عن حلها، وتركت بأيدي أناس متطرفين من الجهة الأخرى، استعصت المشكلة لما تركت بأيدي العلمانيين وأهل النفاق؛ ذلك أن علاج هذه الأحداث ليس فرصة للمباهاة والكبرياء ونيل ثناء المسؤولين وشكرهم، فجسامة الحدث وضخامته أكبر من ذلك كله.
ومع أن هوية المنفذين لم تحدّد بعد إلا أنه على فرض صحة رواية وسائل الإعلام فإن أول وصية في علاج ظاهرة التطرف والغلو في الدين أن يتولى علاجها المعتدلون الناصحون، والذين يعرفون أن الغلو في الدين هو الخروج عنه بالزيادة فيه أو الخطأ في فهمه ونحو ذلك، وليس غلوًّا الأخذُ بالدين على منهج الوسطية والاعتدال، ويؤكد أهمية هذا العلاج أن كثيرًا من الكتّاب والإعلاميين والساسة يتعاملون مع الغلوّ بدون فهم صحيح لحقيقته، بل يرى كثير منهم في التمسك بالدين غلوًّا، ولذلك نجد من ألصق سبب التفجيرات في المناهج الدينية وخطب الجمعة والدعاة والتعليم الديني وحلقات القرآن، ولم يُبْق هؤلاء شيئًا مما يتّصل بالدين لم يتهموه بأنه سبب التفجير.
وإن من المقطوع به عقلاً وحسًّا أن المناهج الدينية لها في مجتمعاتنا عمر طويل، يتجاوز السبعين عامًا، هو عمر التعليم النظامي، وأن تعليم القرآن الكريم لم ينقطع في بلادنا وفي أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي منذ نزوله وإلى يومنا هذا، ومع ذلك ـ ومع وجود هؤلاء الغربيين في بلادنا على مدى أكثر من سبعين عامًا ـ لم يحدث ما حدث تجاههم من وقائع التفجير من قبَل أناس من أبناء هذه البلاد إلا في الأعوام المتأخرة، مما يؤكد أن هذه الوقائع طارئةٌ، ولا ترتبط أسبابها بأمر يتّصل بالمناهج أو العلماء أو بطبيعة هذه البلاد؛ وإنما بالوقائع الخارجية، فهي تستهدف جنسية معيّنة هي الجنسية الأمريكية على وجه الخصوص، ولأسباب تتّصل برؤية هؤلاء للسياسة المعادية للمسلمين من قبل هذه الدولة التي بالغت في الوقوف ضد مصالح المسلمين مع تأييد مفضوح لليهود.
إخوة الإسلام، ولو تُرك علاج هذه القضايا الكبيرة بيد هؤلاء الذين يرون في تعاليم الدين غلوًا وتطرفًا ويريدون تمييعها أو إزالتها فإن التطرف سيزداد بلا شكّ؛ لأنهم سيحاربون هذا المجتمع في أعزّ ما يملك وهو دينه وعفاف نسائه ومناهج تعليمه، ولذلك نستطيع القول: إن كثيرًا من الصحف والكتّاب مارسوا في الأسبوع المنصرم عداءً حقيقيًا للمجتمع، حتى رأينا بعض الأقلام المغرضة تعبر من الحديث عن نقد الغلوّ والتطرف الديني إلى نقد الدين ذاته، وتعبر من نقد بعض الجماعات المتطرفة إلى نقد الصحوةِ الدينية بعامة، وتعبُر من نقد بعض مظاهر الغلو إلى نقد شعائر الدين الظاهرة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرّضوا ولاة الأمر على كل ما يعرفون من معالم الدين، ولذلك فإن المتعيّن على جميع المسلمين حكامًا ومحكومين أن لا ينخدعوا بهذه المكيدة التي تحاول تبرير محاربة التديّن في البلاد بحجّة محاربة الغلو؛ فإنّ الغلو في مجتمعنا بحمد الله قليل الحجم، ومن الظلم أن يسحب الحكم على الكثرة التي تمثل تيار الاعتدال.
الوصية الثانية في علاج هذه الظاهرة: عدم استخدام العنف بمفرده؛ ذلك أن الواضح من تجربة معالجة الغلو في العصر الحديث أن العنف لم يجدِ فيها شيئًا، بل كان سببًا لظهور تيارات غلوّ أخرى، والوسيلة الأنفع في ذلك هي الحوار، وهي الواردة عن النبي وابن عباس، فلقد حاور النبي ذا الخويصرة وقال له: ((ويحك، من يعدل إن لم أعدل؟!))، وكذلك حاور ابن عباس الخوارج فرجع منهم ألفان. ولا شكّ أن أسلوب الحوار في هذه المشكلة هو من أنفع الأساليب؛ ذلك أن نور الحقّ ساطع وبرهانه قاطع، وهو يعلو ولا يعلى عليه، وهو الذي يعالج المشكلة من جذورها؛ لأن العنف مظهَر للفكر، ولا يمكن إزالة الفكر بإزالة مظهره فقط.
الوصية الثالثة: تعزيز ما من شأنه إزالة أسباب هذا الغلو كنشر عقيدة السلف ونشر العلم الشرعي ونشر المنهج الشرعي في الاستدلال والاستنباط، ذلك أن السمَة الغالبة لكثير ممن يغلو في دين الله جل وعلا هي الجهل بعقيدة السلف ومنهجهم في الاستدلال، ولذلك قال النبي في صفة الذي اعترض على قسمته: ((إن من ضئضئ هذا قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)) رواه البخاري، فذكر من أبرز مظاهر الغلاة عدم فهم القرآن، ولو قرؤوه بألسنتهم فهم لا يتفقهون فيه، ولا يعرفون مقاصده، وهذا يجعلهم يأخذون آيات نزلت في الكفار فيجعلونها على المؤمنين، كما قال ابن عمر رضي الله عنه.
وهذا يقودنا إلى الوصية الرابعة وهي إحياء دور العلماء؛ ذلك أن غياب العلماء عن الساحة في كثير من الأحيان هو من ضمن أسباب الغلو المبني على الجهل، ولذلك فإن الوصية المبذولة هي الاهتمام بإعادة دور العلماء، ويتولى مسؤولية ذلك بشكل رئيس ثلاث فئات:
الفئة الأولى: العلماء أنفسهم، وذلك بالإخلاص لله عز وجل، والقيام بواجبهم تجاه ولاة الأمر بالمناصحة، وتجاه عموم المجتمع بالتربية والتوجيه، وتجاه فئة الشباب بالتربية والعناية، والبعد عن كل ما يخدش مقام وكرامة العلماء من الحرص على الدنيا والتكالب عليها، ومن ضعف الالتزام بأوامر الدين.
الفئة الثانية: ولاة الأمر، وذلك بأن يصدِّروا العلماءَ ويستشيروهم ويأخذوا برأيهم في جميع أمور الدين دون انتقائية، ويوكِلوا إليهم مهمّة معالجة مظاهر الانحراف.
الفئة الثالثة: المجتمع والشباب بشكل خاصّ، وذلك بأن يأخذوا من العلماء ويأتمروا بأوامرهم وفتاواهم الشرعية.
وإذا تحقق دور العلماء في المجتمع فإن المجتمع سيكتسب حصانة من مظاهر الانحراف ووقاية من مشكلة الغلو وغيره من المشكلات.
أسأل الله أن يحفظ هذه البلاد من كل سوء ومكروه وسائر بلاد المسلمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
|