أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فإن من اتقى الله كفاه، ومن توكل عليه ولجأ إليه حماه، ومن اعتصم بغيره أذلّه وأخزاه.
أيها الإخوة في الله، أيها الصائمون، أيها المسبّحون، حديثنا اليوم، حديث غير متوقّع لكم، ألفتم الحديث في مثل هذا الشهر عن الصيام وأحكامه، والقرآن وآدابه والقيام والدعاء، ولكن حديثنا اليوم عن داء عُضال، فتّاك مدمّر للأفراد والمجتمعات، إنه حديث عن مرض سيطر على الكبير والصغير، والجاهل والمتعلّم، والعاقل والمجنون، والسفهاء وشيوخ القبائل، إلا من رحم الله.
إنه بلوى لم يسلم منها حتى الفقير، يصيح ويشتكي الفقر، وما أفقره إلا هو، عديمٌ نفعه، بطيء قتلُه، كم فتك من إنسان، وأصاب الكثير بالإدمان. يموت بسببه مليونان ونصف المليون كل سنة في أنحاء العالم، قال عنه جماعة من العلماء المتخصصين في الغرب: "إنه عاملٌ قاتل للبشرية أكثر من المجاعات والحروب والكوارث".
وأنت ـ أخي الصائم ـ في شهر كريم وموسم مبارك، أنت الآن في عبادة لو تعرف أجرها لتمنيت الموت لو قبلها الله منك. إنك الآن ـ أخي ـ في بيت الكريم الوهّاب الذي لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، وهو رب الأربا، ومسبّب الأسباب وخالق خلقِه من تراب.
أخي الصائم، إنني أخاطب فيك اليوم إيمانك، وأحدّث فيك قلبك الحيّ الذي استجاب لأمر الله بالصلاة والصيام، تركتَ الطعام والشراب ابتغاءَ مرضاة الله. إنني أخاطبك اليوم بالذّات؛ لأنك ذو عزيمة ثابتة وصبر قويّ.
أقف معك اليوم وفي هذا الشهر المبارك الذي أسأل الله أن يوفقنا وإياك فيه لتوبة نصوح. نعم، لقد أجّلت الحديث عن هذا الموضوع منذ زمن طويل، حتى جاءت هذه الأيام الفاضلة، فلأحدثك عن هذا البلاء الذي ابتليت به، إنه الدّخان والتدخين.
نعم أيها الإخوة الكرام، إن لم يكن حديثنا عن التدخين في رمضان فمتى يكون؟! إن لم يكن في شهر الصبر والمصابرة والجهاد والمجاهدة، فقل لي بربك: متى يكون؟! إن لم يكن حديثنا مع إخواننا المدخنين في شهر رمضان الذي يزداد فيه إيمانهم وتقوى عزيمتهم فمتى يكون إذًا؟! فرمضان فرصة عظيمة، إنه مدرسة للتربية على التقوى، إنه فرصة حُرِمها كثير من الناس، إما بموت أو مرض أو ضلال.
نعم أيها الأخ الصائم، نحن في شهر لم يعرف بعض المدخنين أو أغلبهم حرمته، ولم يقدروه قدره. فيا عجبًا لصائم أمسك عن الطعام والشراب وما أحلّ الله طيلة النهار، ثم هو يفطر أوّل ما يفطر على الدخان. ويا عجبًا ثم عجبًا لصائم نوى الصيام والتقرّب للملك العلاّم، وآخر سحوره سيجارة دخان، يختم بها ما أكل وشرب من الطيبات.
أيها الصائم، هل التدخين يرضي الله؟! سؤال لا أظن مدخنًا يجهل جوابه، ولكن وقفة معك يا من ابتليت به.
قل لي بربك واصدق في جوابك: في أيّ حزبٍ تضع الدخان؟ أمع الطيبات أم مع الخبائث؟! لا أشك وأنت عاقل مدرك ورجل رشيد إلاّ أن تقول: إنه من الخبائث.
إذًا أخي، أما علمتَ أو قرأتَ قول الله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].
ثم أسألك سؤالاً آخر وأجبني بصدق: هل في التدخين من فائدة؟! لا أريد فوائد، إنما فقط أريد فائدة واحدة، سواءً في دينك أو دنياك أو صحتك أو مالك؟ إن الجواب معروف.
والنبي يقول: ((لا ضرر ولا ضرار))، ويقول: ((من تحسّى سمًا فقتل به نفسه فسمّه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) حديث صحيح.
نعم، كلّنا وأنت أوّلنا تعرف أن التدخين سبب لأمراض السرطان بجميع أنواعه، وأمراض القلب والرئة، ومضعفٌ للقوى، ومهلك للخلايا، ومدمّر للشرايين.
وأسألك سؤالاً ثالثًا عن مالِك: المال الذي تملك مال من؟ من الذي أنعم به عليك؟ أليس الله؟! أليس هو القادر على أخذه من بين يديك؟! إذًا فلم تستعمله فيما يسخطه ويغضبه؟! ووالله ـ وأنت تعلم ـ إنه لن تزول قدماك يوم القيامة حتى تسأل عن مالك: من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟ فبماذا تجيب ربك إذا سألك وسيسألك؟ أتقول: يا رب، أنفقت مالي في هذا الخبيث؟! ما أخجله من جواب وما أسوأه من ردّ.
ثم لأقف معك وقفة اقتصادية، فكم تشرب في اليوم؟ علبة واحدة، ولنفرض أن قيمتها ثلاثة ريالات إذا كانت من الأنواع الرديئة. أتدري ـ يا أخي ـ كم تنفق في السنة على هذا الوضع؟ أكثر من ألف ريال، والبعض ضعف هذا المبلغ. إنك لا تدري أنك تنفق في عشرين سنة ما يقارب الثلاثة والأربعون ألف ريال، كلها في الدخان. أليس هذا المبلغ مهرًا لزوجة، أو قيمةَ شراءٍ لسيارة وبدون أقساط؟! هذا المال ألستَ أنت أولى به وأبناؤك وأهلك؟! هذا منك أنت فقط، فكيف بالآخر والثالث؟! كم مدخن في مجتمعنا؟ لنفرض على أقلّ تقدير أنهم لا يتجاوزون الثلاثة ملايين، مع أنهم أكثر بكثير، فكم في اليوم يكلفهم الدخان، إنه يكلفهم يوميًا تسعة ملايين ريال، وفي الشهر مائتان وسبعون مليون ريال، وفي العام الواحد فقط ينفقون ثلاثة آلاف ومائتان وأربعون مليون ريال، ميزانيات دول. كلّ هذا المبلغ الهائل في عام واحد فقط، أين يصبّ؟! إنه يصب في خزائن أعدائنا ونحن نشعر أو لا نشعر. إننا ـ يا مسلمون يا صائمون ـ نمكّن لليهود والنصارى في أرض المسلمين.
بل ويساهم المسلمون الراكعون المصلّون الصائمون أصحاب البقالات والتموينات في بيع هذا الخبيث، ويدعمون اقتصاد الأعداء، ويدمّرون اقتصاد وقوة المسلمين، أتعلمون أن شركات التبغ الكبرى يمتلك معظمَها اليهود، ويصنّعون يوميًا عشرة آلاف مليون سيجارة، أي: بمعدل سيجارة لكل فرد على ظهر البسيطة يوميًا. إنهم ينفقون أموالهم، بل وقد يخسرون، ولكنهم يعوّضون تلك الخسائر بزيادات كبيرة في المبيعات على ما يسمى بدول العالم الثالث، والذي نشكّل فيه نحن المسلمين أغلب سكّانه.
إن من يتعاون مع هذه الشركات اليهودية الصهيونية لهو من دعاة الفساد والضلال، إن من يبيع هذه المواد السامة من دخان وجراك وشيش ومعسّل ونحوها إنما يروّج لما يقتل المسلمين ويقضي عليهم، وهو عدوّ لكل مسلم؛ إذ كيف يرضى مسلم مؤمن أن يبيع لأخيه ما يضره ولا ينفعه؟! كيف يروّجها ويأكل ثمنها؟! ثمنها حرام وسحت، ((وأيما جسد نبت على سحت فالنار أولى به)).
إنها مسؤولية عظيمة كلنا عنها مسؤولون، ولذا أفتى علماؤنا الأجلاء بحرمة بيع الدخان أو شرائه أو إيجار محلات بيعه، ويا عجبًا لمحلات لا يباع فيها إلا الدخان، تجمع الخبث والنتن، وانتشرت محلات بيع الجراك والشيش ونحوها وأحيانًا بأسماء نساء. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل من مسلمين لا يعيش الواحد منهم لدينه وأمته، بل همّه جمع المال من أي طريق حلالٍ أو حرام.
أخي الكريم، أيها الأخ المبارك، ما هو وضع جسدك؟ لماذا اسودّ وجهك وشفتاك؟ بل لماذا احمرّت عيناك واصفرّت أسنانك؟
أخي، لماذا رائحتك دائمًا كريهة؟ ولماذا ثوبك دائمًا مخرّق؟ بل وأبناؤك يتضايقون منك. لا، بل وزوجك تكره قربك. لماذا يتضايق المصلّون من الصلاة بجانبك؟ أما سألت نفسك هذه الأسئلة؟! كلّ ذلك بسبب هذا الدخان. و((الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم))، قاله عليه الصلاة والسلام لمن أكل ثومًا أو بصلاً، وهما مما أحلّ الله.
يا شارب التنباك ما أجراكـا من ذا الذي في شربـه أفتاكـا
أتظن أن شرابه مستعـذب أم هل تظن بـأن فيه غذاكـا
هل فيه نفع ظاهر لك يا فتى كلا فما فيـه سـوى أذاكـا
ومضرة تبدو وقبح روائـح مكروهة تـؤذي به جلساكـا
وفتور جسم وارتخاء مفاصل مع ضيق أنفاس وضعف قواكا
أو حرق مال لم تجد عوضًا له إلا دخانًا قـد حشـا أحشاكا
آثرته وتركت جهـلاً غيره تبّا لمـن قـد آثـر التنباكـا
ورضيت فيه بأن تكون مبذرًا وأخو المبذر لم يكـن يخفاكـا
يكفيك ذمًّا فيه أن جميع من قد كـان يشربه يـودّ فكاكا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
|