أما بعد: عباد الله، يقول المولى تبارك وتعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:29، 30].
عباد الله، نعيش وإياكم اليوم مع نبي الله موسى عليه السلام، لقد قضى موسى الأجل، وظل يرعى الغنم لشعيب عليه السلام عشر سنوات، عمل أجيرًا ليسدّ جوعته، ويعصم شهوته، وما من نبيّ إلا ورعى الغنم، ونبينا رعى الغنم، ولعل في رعي الغنم درسًا لا يُنسى؛ فرعي الغنم يعلّم الراعي الصبر والحلم والأناة، يعلّمه الرحمة بالضعفاء، ويعلّم الحكمة في الحياة.
ومن هنا فإن موسى جلس إلى شعيب عليهما السلام ذات يوم، وبعد أن مرت عشر سنوات، وقال له: ألا تأذن لي أن أعود إلى مصر لأطمئن على حال أمي وأخي؟ الله تبارك وتعالى ألقى في قلبه إلهامًا أن يعود إلى مصر، لأنه على موعد، مع مَن؟ مع حاكم؟! مع رئيس ليدخل في التشكيل الجديد؟! هل سيدرج اسمه في قائمة التشكيل الجديد ليتقن موسى فنّ النفاق؟! إذً على موعد مع مَن؟! اسمع إلى قوله تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40].
ويتحرك الكليم من مَدْين آخذًا طريقه في شبه جزيرة سيناء، ومعه زوجته وولده، وإذا بموسى يُقاسي ثلاث شدائد: الشدة الأولى: ظلمة الصحراء، الشدة الثانية: البرد القاسي، الشدة الثالثة: أن قدماه تاهتا في بحار سيناء. فماذا يفعل؟ وإذا بموسى ينظر على بعد، فيرى نارًا، ثم قال لأهله: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [القصص:29]. لم تكن في الحقيقة نارًا، إنما كانت نورًا، الكليم هناك في جبل المناجاة بسيناء، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:11، 12].
لا إله إلا الله، الله كلم موسى من وراء حجاب، ولكنه ليلة المعراج كلّم نبينا بغير حجاب. موسى يقول لربه: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]، والله قال لنبيه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الانشراح:1]. موسى يقول لربه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، والله قال لحبيبه: وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130]، ويقول له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5].
يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:11-12]، اخلع ما في قدميك إكرامًا وتعظيمًا لملاقاة الملك، إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:12-14].
هكذا بدأ الوحي لموسى عليه السلام، بدأ الوحي بلا إله إلا أنا، وبدأ الوحي على سيدنا محمد بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، لماذا؟ لماذا كانت أول خطوة على طريق الوحي لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا؟ ولماذا كانت أول خطوة على طريق الوحي لنبينا : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ؟ لماذا؟ لأن هناك فرقًا بين من أُرسِل إليه موسى، وبين من أُرسِل إليه سيدنا محمد ، فموسى أُرسِل إلى رجل قال: أنا ربكم الأعلى، وأُرسِل إلى رجل قال: يا أيه الملأ ما علمت لكم من إله غيري. رجل غرّه سلطانه، غرّته قوته، وغرّه جبروته، قال لوزيره هامان يومًا: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ. أراد أن يبني بُرجًا عاليًا، لعله يطّلع إلى الله جل في علاه، لم يجد حوله أحدًا يقول له: لا إله إلا الله، لم يجد حوله أحدًا يقول له: اتّق الله. كلهم زبانية سوء، نفاق وغشّ وخداع، وأنانية الجاهلية.
أيها المسلمون، الفراعنة كثرت في هذه الأيام، إن فرعون موسى كان يستحي أن يعتقل النساء، أما فراعنة اليوم فقد ملؤوا السجون بالنساء والرجال. أحد فراعنة اليوم دخل جنوده ليعتقلوا رجلاً، فلم يجدوه في بيته، ووجدوا زوجته في حالةِ المخاض، فلم يرحموها، وأخذوها مع طفلِها يولوِل ويقول بلسان حاله: ربّ إني مغلوب فانتصر. لا إله إلا الله.
لا تظلمـنّ إذا ما كنت مقتـدرًا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنـام عينـاك والمظلـوم منتبـه يدعو عليك وعين الله لم تنـم
فرعون موسى كان يتفاهم ويتناقش، أما فراعنة اليوم فلا تفاهم ولا نقاش. من قال: الشمس طالعة في النهار، قالوا له: على بصرك غشاوة فنحن بالليل، من قال: لا إله إلا الله كفّروه، من قال: محمد رسول الله كذّبوه، حتى ضاعت الأخلاق، حتى ضاعت القيم والمثل.
وأول بدء الوحي على رسول الله كان بقوله تعالى: اقْرَأْ، لماذا؟ لأن الرسول بُعِث في أمة الجاهلية، أرسل في أمة أمّية، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ [الجمعة:2]، فناسب الوحي أن يبدأ بالعلم والقراءة والدراسة والمعرفة. ديننا هو دين العلم، ديننا هو دين الإصلاح، ديننا هو دين العدالة والأمن والقوة.
عباد الله، شبابنا اليوم أصبحوا يعانون من عُقدة نفسية جراء ذلك، معظم الشباب الآن مصاب بعُقد، ما من يوم يمر إلا ونلتقي ببعض الشباب، واحد كأنّ ساقيه لا تقويان على حمل جسمه، يجلس مُنهارًا باكيًا دامعًا، ماذا يشكو؟ يشكو لأنه إذا فتح الكتاب لا يطيق الدراسة، وإذا أوى إلى فراشه عيناه لا تنام، ما الذي جرى للشباب؟ كنا نرى شبابًا يختلفون إلى المساجد، لا تفوتهم تكبيرة الإحرام وراء الإمام، كنا نرى شبابًا أقوياء في عقيدتهم ودينهم، نرى شبابًا القرآن دستورهم والرسول قدوتهم. فما للشباب أصبح ذابل العود؟! ما للشباب أصبح يائس النفس؟! ما للشباب أصبح حائر اللب؟! أي شيء جرى لشبابنا في هذه الأيام؟!
شبابنا يُحارَبون من وسائل الإعلام، البيوت أصبحت لا يُقرأ فيها القرآن، ولا نجد فيها من يذكر الله، كتب الجنس أصبحت تباع علنًا، وسائل اللهو في كل مكان، فتيات كاسيات عاريات، أُسَر تسهر في الغي والضلال طوال ساعات الليل، الحفلات الساهرة والفراقيع المدمّرة، وبنفس الوقت وطن يباع ويشترَى ويقال: "فليَحيَا الوطن". رجال يضحّون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ورجال يبيعون حياتهم وكرامَتهم للشيطان، عجبًا لنا في هذه الأيام.
عباد الله، لم نسمع أنّ واحدا من أصحاب رسولنا الكريم أُصيب بالاكتئاب، أتدرون لماذا؟ لأن الرسول أقام في نفوسهم مملكة الرضا، يقول فيها : ((ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس))، والاكتئاب لا يستطيع أن يقتحم مملكة الرضا أبدًا. كان الواحد منهم ينام على جوع، وليس في بيته شيء، ومع ذلك كنت تسأله كيف حالك؟ فيقول لك بلسان الرضا: أنا في سعادة، لو علمت بها الملوك لجالدتنا عليها بالسيوف. وهو لا يجد قُوت يومه!!
عباد الله، مشاكلنا يتلخص حلّها بكلمة واحدة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35].
العودة إلى الله يا شباب المسلمين، لا تقنطوا من رحمة الله. قبل أن تناموا حصّنوا أنفسكم بقراءة القرآن، حصّنوا أنفسكم بقراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
ولقد جاءني شاب بلغ اليأس به مبلغه، قلت له: يا أخي، قبل أن تنام اقرأ المعوذتين، قال لي: وما المعوذتان؟ لم يسمع عنهما، لم يسمع أنّ في القرآن سورتين تسمّيان المعوذتين: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]!!
يا لله ويا للمسلمين، أين قُرّاء القرآن؟! وأين علماء الإسلام؟! الشباب حائر لأن أولياء الأمور ما أرشدوهم إلى شيء يرضي الله تعالى، لأنّ العلماء ابتعدوا عن دروس العلم.
أيها المؤمن، مَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].
أيها المعرض، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
يا عباد الله، اتقوا الله، وأخلصوا قلوبكم لله، افتحوا قلوبكم لله، استعينوا بالله واصبروا، لا تنسوا ذكر الله، أصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
لما فتح أمير المؤمنين عمر بلاد كِسرى وجاءته الرسالة بالتّهنئة خَرّ ساجدًا لله، وبكى بكاء مريرًا، قالوا: أتبكي يا أمير المؤمنين وقد نصرك الله؟! قال: أبكي خشية أن تفتح عليكم الدنيا، فينكر بعضكم بعضًا، وينكركم أهل السماء.
فلا داعي ـ أيها المؤمنون ـ إلى الاحتفالات الغربية العجيبة، لا داعي للإسراف والتبذير؛ لأن الفرحة إنما تتمّ بعودة المسجد الأقصى، الفرحة محلّها القلب، يوم تصطلِحون مع الله فهذه هي الفرحة الكبرى. قيل للإمام الحسن البصري رحمه الله: أيّ الأيام عندك عيد؟ فقال: كلّ يوم لا أعصي الله فيه هو عيد.
عباد الله، كان لابن سيرين ابنة تعبدت فأقامت في مُصلاّها فترة من الزمن، وكانت تحيي الليل كله، فإذا كان وقت السحر نادت بصوت محزن: إليك قطع العابدون دجَى الليالي، يستبقون إلى فضل مغفرتك، وإلى رحمتك، فبك ـ يا إلهي ـ أسألك لا بغيرك، أن تجعلني في زمرة السابقين، وأن ترفعني في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء وأعظم العظماء وأكرم الكرماء، يا كريم. ثم تخر ساجدة فيسمع لها وجد، ثم لا تزال تبكي وتدعو حتى يطلع الفجر.
|