أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. بالتّقوى تُنال الخيراتُ، وبالتّقوى يُنال العِلم، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282].
وبعد: أيّها المسلمون، بعد بداية مواسِمِ الدّراسة تكثُر الأطروحاتُ التعليميّة والتنظيرات التربويّة، ويستنفِر الجميعُ للحديث والمساهمة في هذا الجانب، وما ذاك إلاَّ لإدراكِ النّاس ما للتّربية والتّعليم من أهمّيةٍ بالغة وأثرٍ فاعل في بِناء الأجيال وإعداد المجتمعات. ولقد كانت عنايةُ الإسلام فائقةً في هذا المضمار من أوّل حرفٍ نزل به الوحيُ من القرآن على رسول الأنام : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]. كما توافرتِ النصوصُ عن إمام المربّين قولاً وتطبيقًا في جانب التربية حتى تغيَّرت حياةُ الأعراب الجفاة عبدَةِ الأوثان في سنواتٍ قليلة، فأصبحوا قُدوةَ الدنيا وقادةَ العالم، وخلَّدوا سِيَرًا لا زال شذا عِطرِها يفوح ونورُ هُداها يُقتَبَس إلى يومِنا هذا.
أيّها المسلمون، لا يخفى على عاقلٍ فضلُ العلم المقرونِ بالتربية الصالحة، فبه يعبد المسلم ربَّه على بصيرة، وبه يعامِل الناسَ بالحسنى، وبه يسعَى في مناكبِ الأرض يبتغي عند الله الرزقَ، وبالعلم تُبنى الحضارات وتُبلغُ الأمجاد ويحصُل النماءُ والبناء. العلمُ يُجلِس صاحبَه مجالسَ الملوك، وإذا اقترن بالإيمان رفعَه الله في الدنيا والآخرة، يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. وإذا كان العلم مجرَّدًا من التربيّة خواءً من المبادِئ فهو وبالٌ ونقمة؛ ولذا ارتبطتِ التربية بالتعليم والعِلم بالعمَل والمفردات بالمبادِئ والسلوك، ففي القرآنِ العظيم آياتٌ تتلَى إلى يوم الدين فيها أدَبُ الحديث وأصولُ العلاقات الاجتماعية وبِرّ الوالدين والعِشرة الزوجية والعلاقات الدولية في السِّلم والحرب، بل فيه أدبُ الاستئذان وأدبُ النظر، واقرؤوا إن شئتم سورةَ النساء والأنفال والحجُرات والنور. أما السنّة والسيرة فعالَمٌ مشرِق بالمُثُل والتربية، ويكفينا مثالاً حديث ابنِ عباس رضي الله عنه قال: كنت رديفَ رسولِ الله يومًا فقال: ((يا غلام، إني أعلِّمك كلمات، احفَظ الله يحفَظك، احفَظ الله تجِده تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمَعوا على أن يضرّوك لم يضرّوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّت الصحف)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.
إنّه أوّلُ ما ينبغِي ترسيخه في قلوبِ الناشئةِ وتُرسَى عليه قواعدُ التربية، عقيدةٌ صحيحة وربطٌ للنَّشء بالله ومراقبَتِه واليقين والتوكّل عليه، عندها يصبِح المؤمن ذا همَّة وعزيمةٍ وقوّةِ إرادة، لامتلاءِ قلبِه بالإيمان واليقين، فيُرجى منه النّتاج، وتتحقَّق منه الآمال، وهذا سرُّ امتداحِ الله تعالى لخِيرة أنبيائِه بأنهم أولو العَزم من الرسل. وقد نبَّه الفقهاء رحمهم الله إلى أنَّ القائدَ والوالي للمسلمين ينبغي أن يكونَ من أولي العزمِ من الرجال أي: علوِّ الهمّة وقوّة العزيمة والشجاعةِ النابعة من الإيمان، ومنه يعلَم أيضًا سرُّ اهتمام الأعداء بتدجين الشعوب وإغراقهم في الشّهوات وتلبيسِ عقيدتهم لإحباطِ عزائمهم ثمّ استرقاقهم.
أيّها المؤمنون والمؤمنات، إنَّ الأبَوَين المستحقَّين للدّعاء هما من أحسن التربيةَ، وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وفي الحديث: ((إذا ماتَ ابن آدم انقطَعَ عملُه إلاَّ من ثلاث)) ومنها: ((ولدٍ صالح يدعو له)) رواه مسلم.
إنَّ مهمّةَ تربيةِ الأولاد مهمّةٌ عظيمة، خصوصًا في هذا الزّمنِ الذي تَلاطمَت فيه أمواجُ الفتن واشتدَّت غربةُ الدين وكثُرت فيه دواعي الفساد، حتى صار المربِّي مع أولاده كراعِي الغَنَم في أرضِ السّباع الضارية إن غفَل عنها أكلَتها الذئاب.
أيّها المربّي مِن أبٍ وأمّ ومعلِّم ومعلّمةٍ، اعلم أنَّ خيرَ القلوب أوعاها وأرجاها للخيرِ ما لم يسبِق إليه الشرّ، وأولى ما عُنِي به الناصحون ورغِب في أجره الراغبون إيصالُ الخير إلى قلوبِ أولاد المسلمين لكي يرسَخَ فيها وتنبيهُهم على معالم الدّيانة وحدودِ الشريعة وترويضُهم عليها، وهذه والله وظيفةُ الأنبياء، وقد أخبر النبيّ كما في سنن التّرمذيّ أنّ الله وملائكتَه وأهل السموات والأرض ليصلّون عل معلِّمِ الناس الخير، وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ قال: ((من دعَا إلى هدًى كان له مِنَ الأجرِ مثل أجورِ من تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)). فهنيئًا لك إذا أخلصتَ نيّتك واحتسبتَ أجرَك عند ربّك. كما أنّ على المربّين من المعلّمين والوالدَين العنايةَ بجانب القُدوة، فإنّ قدرةَ المتعلّم على الالتقاط والاقتداء بوعيٍ أو بدون وعي كبيرةٌ جدًا، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
وإذا قال المنظِّرون: إنّ التربيةَ والتعليم عمليّةٌ تكامليّة، فما دورُ الآباء والأمّهات في هذا التكامل؟ وما دور وسائِلِ الإعلام في التربية والتوجيهِ والنّصح والتعليم؟ وهل أدّى الأمانة من أيقظَ ابنَه للمدرسة وأهملَه في صلاة الفجر أو العصر؟! وهل رعى المسؤوليّةَ من جلب الفضائيّاتِ والمفسِدات لبيتِه في تناقضٍ صريح مع مقوّمات التربية التي تجاهِد المدرسةُ في إرسائِها وبنائها؟!
إنّه لم تعدِ التربيةُ اليومَ مقتصرةً على مقاعدِ الدراسة، فمع التطوّر الهائل والانفتاحِ المذهِل لوسائل الإعلام والاتّصال أصبحنا في وقتٍ ينازعنا غيرُنا في تربية أجيالنا، خصوصًا إذا كان واقعُ هذه الوسائل والفضائيُّ منها خاصّة إثمُه أكبر من نفعه، وهدمُه للقِيَم والعقائد ظاهرٌ لكلِّ ناظر. تبذَل الطاقاتُ والإمكانات وتصرَف الجهود والأموال للتربية والتعليم، بينما الفضائياتُ تهدِم وتفسِد وتفتِك، وكأنّها في حربٍ مع الدّين والقِيَم، ليُستَنبَتَ جيلٌ في هذه المستنقعاتِ قد شرِب من هذا الكدر، أفلا يستدعي ذلك وقفةً من أصحابِ القرار وحرّاس الفضيلة والمعنيِّين بالتربيةِ لأجل حمايةِ المجتمع، خصوصًا إذا كانت هذه الوسائلُ مملوكةً ومدعومَة ممن ينتسِب للإسلام والمسلمين؟! وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، والأمر بالوقايةِ للوُجوب، ومن لم يقِ يُسأَل كما في الحديث: ((كلُّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته)).
أيّها المربّون، أنتم مؤتَمَنون على تربيةِ أجيالِنا وإعدادِ أولادِنا وتوجيهِ مستقبَلنا في تطويرٍ وتجديد ومواكبةٍ للجديدِ مع الأصالةِ والثباتِ المستمَدّ من شريعة الإسلام، نعَم الأصالةُ والتميُّز المستمِدّةُ منهجَها من الكتابِ والسنَّة، الهادِفةُ إلى تعبيدِ الناس لربِّ العالمين والولاءِ لهذا الدّين وتنشئةِ المواطنِ الصالحِ المنتِج الواعي السَّالم من شطَطِ التفكير ومَسالِك الانحرافِ. إنّ مبادئَ الإسلام الثابِتَة المرِنةَ كانت الانطلاقةَ الصحيحة للحضارةِ الإسلامية التي باركَها الله على أهلِ الأرض جميعًا، وما ضعُفت إلاَّ حينَ كانت المنطلقات غيرَ شرعيّة في تنكُّر للدّين أو تحجُّر لا يتحمَّله الإسلام.
أيّها المسلمون، كلُّ أمّة تنشِئ أفرادَها وتربّيهم على ما تريد أن يكونوا عليه في المستقبَل، إذًا فالتربيّةُ والتعليم في حقيقتِه هو صناعةُ الأجيال وصياغةُ الفكر وتشكيلُ المجتمع وتأهيلُه وتوجيهه، وكلُّ الأمم والدوَل مهما كانت غنيّةً أو فقيرة متقدِّمةُ أو متخلّفة تدرِك هذا الجانبَ، وتسعى بما تستطيعُ لترسيخِ مبادئِها وأهدافِها عن طريقِ التربية والتعليم، وتعتبر ذلك من خصوصيّاتها وسيادتِها وسماتها التي لا تساوِم عليها، ومنه ندرِك أنَّ استيرادَ التربيةِ من أمّةٍ أخرى بكلِّ عُجَرها وبُجرها خطيئةٌ كبيرة وتبعيَّة خطيرة، تعني نشأةَ جيلٍ مغيَّب عن تراثِه وتاريخِه مقطوعِ الصّلةِ بعقيدته ومبادئه، مسخًا بلا هويّة يسهُل قيادُه بل واستعبادُه. وهذا لا يعني هجرَ الإفادة مِن تجارب الأمم، فالحكمة ضالّة المؤمِن أنّى وجدَها فهو أولى بها، إلاَّ أنه من الخلطِ والتّضليل فرضُ العَلمنَة بحجّة التطوير أو إقصاءُ الدين لمواكبة العلم كما بُليت بذلك بعض بلادِ المسلمين، وفي قولِ الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] دليلٌ على أنّ العلومَ النافعة هي المقرِّبة إلى الله ولو كانت من علومِ الدنيا، وذلك باصطِباغها بصِبغة الإيمان والتقرُّب بها إلى الله وخِدمةِ دينه ونفعِ المسلمين وعمارةِ الأرض كما أراد الله، في توازُنٍ وشُمول ووسطيّة واعتدالٍ، فتُعمَر الدنيا والآخرة.
أمّا إذا تجرَّد التعليمُ وأهدافه من الإيمان فأضحَتِ الوسائل والمقاصِد مادّيةً بحتة فهو الوبالُ والشقاء، وهذه حضارةُ اليوم شاهِدٌ حيّ على هذا النتاج، فشقِيت أمَمٌ بصِناعاتها واختِراعاتها، وأصبح التّسابُقُ في وسائِلِ الدمار لا في العَمَار والاستقرار، وأضحَى الظلمُ والطغيان وسرقةُ الأوطانِ هو شعار أقوَى الدّوَل وأظهرِها في الحضارة المادية، وها هي فلسطينُ والعِراق تدمَّر قُراها وتُسفَك دماها برعايةِ مبادئ الحضارةِ الزائفة، وما الفخرُ في بناياتٍ تعانِق السّحابَ إذا كانتِ الأخلاق والفضائل مدفونةً تحثها في التراب؟! وما الرّبح في كثرةِ المتعلِّمين إذا غُيِّبتِ المبادئ والحقائِق وصودِرَ الدين وشُغِل العامّة بالشّهوات واللّهَثِ وراءَ المادّة الجافّة في غفلةٍ عن الآخرة؟! وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6، 7].
عبادَ الله، إنَّ من الحقِّ والعدلِ أن نفخرَ بأنّ المناهجَ الدراسيةَ في بلاد الحرمينِ الشريفين من أفضلِ المناهِج في عالمنا الإسلامي رغمَ وجهات النظَر الغريبة التي تطرَح أحيانًا لتغييرِ المسارِ الآمن، إلاَّ أنَّ التميُّزَ والأصالة لزالت سمةً تجب المحافظةُ عليها مع التطويرِ المثمِر والسّعي للأفضل، فأرجاءُ الفضاء فسيحةٌ للتحليقِ، ولكن يجِب أن تكونَ القواعد والمنطَلَقات ثابتةً راسخة وفي نفسِ الوقت آمِنة.
وأخيرًا، فإذا كان هذا الزمنُ زمنَ صِراعٍ حضاريّ وعقائدي بين الأمم وضغوطاتِ لعولمةِ الفِكر وعلمنةِ التعليم فإنّ من علامةِ إخلاص ووعيِ القائمين على المناهجِ في بلاد المسلمين مواجهةَ هذا التحدّي والعناية بالمنطلقات والأسُسِ العقدية والفكرية الصحيحةِ حين بناءِ المناهج أو تطويرها. وإذا كان ولاةُ الأمر في هذهِ البلاد وفّقهم الله يبذلون ويحرِصون ويوجِّهون ويتابِعون فإنَّ الواجبَ على المربّين والمتربِّين عمومًا أن يكونوا على قدرِ المسؤوليّة في القيام بهذا الواجِبِ العظيم لأجلِ مستقبَل مضيءٍ بإذن الله بالعلمِ والهدَى والعطاءِ والبناءِ في ظلِّ دوحة الإيمان الوارفة.
حفِظ الله بلادَنا وبلادَ المسلمين عزيزةً بدينها آمنةً بإيمانها سابقةً لكلِّ خير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52، 53].
بارَك الله لي ولكُم في الكتابِ والسّنّة، ونفعنا بما فيهما منَ الآياتِ والحِكمة، قد قلتُ ما سمِعتم، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم.
|