يقول الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
في هذه الآيةِ الكريمة أمَر الله المؤمنين بطاعتِه وطاعة رسولِه ، وطاعته تعالى تتمثّل بالانقياد إلى شرعه وحكمه والاستسلام لقضائه وقدره واتّخاذ الإسلام عقيدةً وعملا وسلوكا ومنهج حياة، وطاعة الرسول تتمثل باتباع سنته واتباع أمره واجتناب نهيه، وصدق الله العظيم إذ يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، ويقول أيضا: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
كما تتمثل طاعة الله وطاعة رسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقول كلمة الحق وعدم مجاملة الأشرار المفسدين في الأرض والنفاق لهم والتمسّح بأذيالهم والسير على خطاهم وتزيين الشرّ والسوء لهم. فإذا تحقّقت طاعة الله ورسوله على أرض الواقع قولا وعملا لا ادعاءً ولا رياء بطلت أسباب النزاع والشقاق والخلاف التي أعقبت الأمر بالطاعة وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.
فما يتنازع الناس إلا حين تتعدّد جهات القيادة والتوجيه، وحين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجّه الآراء والأفعال والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسولِه انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة.
أيها المؤمنون، فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كلّ صاحب وجهة نظَر يصرّ عليها مهما تبين له وجهة الحقّ فيها، وإنما هو وضع الذات والمصالح الذاتية والمنافع الدنيوية والمصالح الشخصية في كفّة ووضع الحقّ في كفة أخرى.
وهذا التعميم بطاعة الله ورسوله في كلّ موقع وحال هو من عمليات الضبط والنظام التي لا بد منها في المعركة وغيرها، إنها طاعة القيادة العليا فيها التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها، وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرّد طاعة تنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا تسير على شرعه ونهجه، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلا، والمسافة كبيرة كبيرة.
وأما طاعة الله فهو الصفة اللازمة في كل ميدان، في ميدان النفس أو في ميدان القتال. الصبر على طاعة الله ورسوله والصبر عن معصيتهما ومخالفة أمرهما والصبر على أذى الظالمين والدجالين والمنافقين والمشعوذين والانتهازيين والنفعيين والمضلين. وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وهذه المعيّة من الله تعالى هي الضمان للصابرين بالفوز والغَلبة والفلاح في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون، إن الوحدةَ والتوحيد رباط وثيق لا تنفصم عراه ولا تنفكّ عقدته، فالوحدة أشبه بصرح شامِخ متماسك، لن يوهِنَه ضربُ المعاول، أو يفتّت أوصاله هبوب الأعاصير، فهو أبدا صلب منيع.
والتوحيد مدخل لهذا البناء وسُلّمُه، فلا يرتقي أحد إلى البناء إلا عن طريق مدخله ومصعده، وما البناء الشامخ ـ أيها المؤمنون، سوى الإسلام الذي جمع الله بتعاليمه بين القاصي والداني والأبيض والأسود والعربي والأعجمي، وأوقف السادة إلى جانب العبيد صفّا واحدا متآلفا لا متخالِفا ولا متنافرًا كما، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
والتوحيد هو الكلمة التي دخل بها المسلمون في دين الله أفواجا، كلمة الإخلاص: "لا إله إلا الله"، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
أيها المؤمنون، لقد درج المسلمون في عصورهم الذهبية في ظلال الوحدة والتوحيد إخوة متحابين وأولياء متصافين، لا ينزع الأخ من يد أخيه أو يعرض عنه وينأى بجانبه وهو في حاجة إلى عونه ونصرته والوقوف إلى جانبه ظهيرا ومعينا له، مستهدين في ذلك بهدي القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وحسنِ ولائهم وصدق إخائهم، كما قال ربّ العزة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ومستشعرين قول الرسول : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعض)).
فدانت لهم الدنيا، وكانوا فيها السادة والقادة، وكانت لهم الكلمة والعزة والكرامة والمجد، وأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأضحوا كما وصفهم ربّ العالمين خيرَ أمة أخرجوا إلى الناس.
أيها المؤمنون، ولئن كان هذا واقع المسلمين في أزهى عصورهم فإن العرب والمسلمين اليومَ وقد تتالت عليهم الفتن والمحن والمصائب وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، هم اليومَ في أمس الحاجة إلى التضامن والتعاون على البر والتقوى، ولإشادة مجتمعاتهم وبناء صرح جامعتهم على المبادئ السامية والأخلاق الفاضلة والأمثلة الرفيعة الرشيدة التي خرج بها لنا السلف الصالح في التمسّك والتضامن، فالمسلمون في مختلف أقطارهم وأمصارهم ومواقِفهم في محنةٍ وخطر محدِق بهم، خطر السياسة المرسومة لهم من خصوم الإسلام لتفريق كلمتِهم وتمزيق شملهم والحيلولة دون تضامنهم، لئلا نكون حربا عليهم، ولنكون يدا مسالمة تمتدّ إليهم وترتبط بعجلتهم وتسخَّر لإرادتهم فتورد الهاوية، يحمَل المسلمون على الارتداد عن دينهم بمختلف ألوان الإغراء، ثم يجهِزون عليهم، وصدَق الله إذ يقول: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
أيها المؤمنون، إن الهجوم الصليبي والهجوم الصهيوني لم ينجحا في إضعاف الدولة الإسلامية ومن ثم في القضاء عليها إلا عقب تهيئة الظروف والأحوال لذلك. وكان لتفريق المسلمين فِرَقا وشِيعا ودويلات متدابرة متناحرة ليثيروا بينها النزاع والشقاق لأتفه الأسباب وأحيانا لغير سبب. إن الغريب الدخيل والمستعمِر الغاشم والمحتلّ المتغطرس كلّ أولئك لا يستطيعون دخولَ الحصن المنيع يعيثون فيه فسادا إلا بعد أن ينخروا في جوانبه، ليحدثوا لهم ثغرة يدخلون منها، من أجل هذا كلِّه أصبح العرب والمسلمون بشكل عام والفلسطينيون بشكل خاص في أشد الحاجة وأمسها إلى تضامن عربي وإسلامي كتضامن السلف الصالح؛ ليقطعوا الطريق على أعدائهم المتربّصين بهم الدوائر، وهم بأمس الحاجة إلى وحدة تجمَع شتات قلوبهم وتؤلّف بين صفوفهم التي مزّقها خصوم الإسلام بدسائسهم وأساليبهم الخاصة. هذا إلى جانب الإخلاص في توحيد الله جل جلاله وتخليصه من الشوائب، عندئذ وحين يستظل العرب والمسلمون بظلّ الوحدة والتوحيد ويصبح التضامن العربي والإسلامي واقعا ملموسًا لا قولا معسولا وخيالا يداعب الأذهان ويدغدغ المشاعر والعواطف حينئذ لا يضرّ المسلمين زمجرة العاصفة من أي اتجاه تهبّ عليهم، ولا يؤثر في تضامنهم انقسام من ينشقّ عنهم ويخرج عليهم، صدق ذلك قول رسول الله : ((لا تزال طائفة من أمتي على حقّ ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى تقوم الساعة))، وفي رواية: أين هم يا رسول الله؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
فاتقوا الله أيها المسلمون، وليكن لكم من تخطيط سلفكم الأمجاد خير أسوة في الاستظلال في ظلّ الوحدة والتوحيد، فبالتوحيد والوحدة عزّ الدنيا وصلاح الدين، وما أروع الدين والدنيا إذا اجتمعا معا، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
|