أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ الله جلّ جلاله كرَّم بني آدمَ وفضَّلهم علَى كثيرٍ ممَّن خَلقَ تفضِيلاً، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
إنَّ مِن تكريمِ اللهِ لابنِ آدمَ أن جعَله مؤهَّلاً لحَمل تِلكمُ الأمانةِ العظمى التي أبَت عن حملِها عظيمُ المخلوقاتِ السمواتُ السّبع والأرض والجِبال، إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]. لم تمتنِع تلك المخلوقاتُ معصيةً لله، ولكن خوفًا مِن أن لا يقُمنَ بواجب تِلكم الأمانة. حَمَلها الإنسان على ظُلمِه وجهلِه وضَعفِه وعجزِه، ولكن تنوَّع بنو آدمَ في حملِ تلكمُ الأمانة، فالمؤمِنون حمَلوا الأمانةَ ظاهِرًا وباطِنًا، آمنَت قلوبهم وصَدّقت ألسِنتُهم وعمِلت جوارِحهم، والمنافِقون تظاهَروا بحملِها، لكن يعلَم الله أنّ المنافقين لكاذِبون. حملوها ظاهِرًا وهم منكِرون لها في باطِنِ الأمر، وغيرُهم من سائرِ الكَفَرة لم يَقوموا بحقِّ هذِه الأمانة لا ظاهِرًا ولا باطنًا، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:73].
أيّها المسلِم، إنّ مَعنى الأمانَةِ في شريعةِ الإسلام معنًى عَامّ يتضمَّن التكاليفَ الشرعيّة والواجباتِ الإسلاميّة، فالأمانة جزءٌ من إيمانِك، فلا إيمانَ لمن لا أمانةَ له. هذهِ الأمانةُ تكون معَ المسلمِ في معاملَتِه معَ ربِّه، وفي تعامُله مع نفسه، وفي سائرِ التّعامُل مع عبادِ الله.
إنّ اللهَ جلّ وعلا ائتمَنَه على هذا الدّينِ الذي فطَره عليه، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60، 61]. تلكمُ الفِطرةُ التي فطَر الله الخَلقَ عليها، ((مَا مِن مولودٍ إلاَّ يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)). إنَّ توحيدَ الله أمِرَ به العبادُ كلُّهم: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
أيّها المسلم، الأمانةُ تحمِلُها إن كنتَ مؤمنًا صادقًا، فكلّما قُمتَ بِواجبِ هذهِ الأمانةِ دلَّ على صفاءِ قلبِك وتمكُّنِ الإيمانِ مِنك، وكلّما ضعُف أداؤك للأمانةِ دلّ على ضَعفِ الإيمان في القلبِ. يقول أنسٌ رضي الله عنه: إنَّ النبيَّ كثيرًا ما يَقول: ((لا إيمانَ لمن لا أَمانةَ له، ولا عَهدَ لمن لا دِينَ له))، فلا أمانةَ لمن لا إيمانَ له، فاقدُ الإيمان لا يمكِن أن يؤدِّيَ أمانة، فاقدُ الدّين لا يلتزِم عهدًا ولا يفِي بميثاق.
أيّها المسلم، أُمِرنا برعايةِ الأمانةِ وجُعَل المحافظةُ عليها من أخلاق المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، ونبيُّنا يجعَل مِن صفاتِ المنافقِ خيانتَه للأمانةِ فيقول: ((آيةُ المنافقين إذا حدّث كذب، وإذا وعَد أخلف، وإذا ائتُمِن خان)).
أيّها المسلِم، هذه الأمانةُ مسؤوليّة كلِّ فردٍ منَّا نحوَ نفِسه وتعامُله مع ربِّه وتعامُله مع عِبادِ الله. أمانةُ الفَرد مع الفردِ، أمانةُ الفردِ مع المجتمَع، أمانة ملقاةٌ على المجتمَع عمومًا؛ لأنّ هذا الدّينَ أمانةٌ في أعناقِ الأمّة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أيّها المسلِم، فأمانتُك فيمَا بينَك وبينَ اللهِ إخلاصُك التَّوحيدَ للهِ، إفرادُك اللهَ بالعبادةِ، قَصدُك التقرُّبَ إلى الله، عِلمُك الحقّ أنه لا ينفعُك عمَل إلاّ إذا ابتغيتَ به وجهَ الله والدارَ الآخرة، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]. أمانةٌ بينَك وبينَ اللهِ فيما أمَرك به مِن الأوامِر وفيما نهاك عنه مِنَ النواهي، فترعَى لتلكم الأمانةِ حقَّها.
الصلوات الخمس ائتمِنتَ على طهارتها، كما ائتمِنتَ على أدائها، فطهارتها أمانةٌ في عنقك، إن أخللتَ بشيءٍ منها كنتَ خائنًا لشيءٍ من أمانتِك. رأَى النبيّ بَعضَ أَصحابه تَلوح أعقابهم لم يصِبها الماء فنادى: ((ويلٌ للأعقاب من النار)).
أنتَ مؤتمَنٌ على صلواتِك الخمس مِن حيث الوقتُ، فتؤدّيها في الوقتِ الذي شَرعَ الله فيه أداءها، ولا تؤخّرها تكاسُلاً وتهاوُنًا فتكونَ من الخاسرين، مؤتمَنٌ على أركانها وواجباتها وجميعِ متطلَّباتها لتكونَ ممن أدّى الصلاةَ على الحقيقة.
زكاةُ مالك أمانةٌ في عنُقك، واللهُ سائلك عن ذلكِ يومَ لِقاه، فإن أَحصيتَ المالَ وعَرفتَ قدرَ الزّكاة وراقبتَ الله في ذلكَ فأخرجتَ زكاةَ أموالكَ كاملةً تامّة ثمّ أوصَلتها إلى مستحقّيها دِيانةً وأمانةً كنتَ ممن أدّى أمانةَ هذه الزكاة.
صومُك لرمضانَ أمانة وسرٌّ بينك وبين ربّك، لا يطَّلع عليه إلاّ الله، فالسّعيد من حفِظَ صومَه في سِرِّه وعلانيته، ولذا عظُم فضلُ الصيام وقال الله فيه: ((كلُّ عمَل ابن آدم له؛ الحسنةُ بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)).
أمانةُ الحجِّ بأن تؤدّيَ شعائرَه كما أمَرك ربّك، وكما شرَع لك نبيّك .
أيّها المسلم، الأبَوان أمانةٌ في أعناقِ الأبناء والبنات، لا سيّما بعد كِبَر سنّهما وضَعف قوّتهما وعجزهما عن القيام بشؤونهما، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]. فإن أدّيتَ الأمانةَ ورعيتَ البرَّ والإحسانَ كنتَ من المؤمنين، وإن خُنتَ تلك الأمانة وأعرضتَ عن الأبوين أو أهملتهما أو ضيَّعتهما أو عهِدتَ بهما إلى غيرك تخلُّصًا منهما وزُهدًا فيهما لم تؤدِّ تلك الأمانة الصّادقة.
رحمُك أمانةٌ في عنُقك، في الصّلةِ التي أمرك الله بها وحذّرك من قطيعةِ رحمك. جارُك أمانة عندك و((لا إيمان لمن لم يأمَن جاره بوائقَه)).
أخي المسلم، الأبناءُ والبَناتُ أمانةٌ في أعناقِ الآباء من حيث التربيةُ ومن حيثُ النفَقَة ومن حيث الرعايةُ ومن حيث القيام بالواجب وحِفظُ إيمانهما وكرامتِهما، فالأبناء والبناتُ أمانة في أعناقِ الآباء والأمّهات، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. فمن ضيَّع الأبناء والبناتِ فقد خان أمانتَه، إن فضَّل بعضهم على بعض، إن أهمل التربيةَ، إن لم يقبلِ الكفء للفتيات، إن ردَّ الأكفاء ولم يقبلها أو زوَّج من لا كفاءةَ له كان من الخائنِين في تلكم الأمانة.
أيّها المسلم، نفسُك بين جنبَيك أنت مؤتمَن عليها، قد حذّرك الله من قتلِ نفسك: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، وفي الحديث: ((من قتَل نفسَه بشيءٍ عذِّب به يومَ القيامة)).
أنت مؤتمَن في تعامُلك مع عبادِ الله، أمانة تتعلَّق بالبيع والشّراء، فأربابُ البَيعِ وتجّارُ السِّلَع أمَناء على ما يعرِضونه من سِلَع، فإن كانوا أهلَ أمانةٍ صَدَقوا فيما يقولون وصدَقوا فيما يعرِضون، وإن كانوا أهلَ خِيانة غَشّوا ودلَّسوا وافترَوا الأباطيلَ والأكاذيبَ، وكلّ هذه من الخيانةِ، ((ومن غشنا فليس منَّا)).
أيّها المسلم، أنت مؤتمن على ما عُهِد إليك من مسؤوليّة وما ائتُمنتَ عليه من واجباتِ، لتؤدّيَ واجبَ المسؤولية أداءً صادِقًا بِصِدقٍ وأمانة وبُعد عن التفريطِ والخيانة.
أنت مؤتمَنٌ على ما ائتُمنتَ عليه من أسرارٍ وأمور لا بدَّ من إخفائها، فإن أفشيتَ شيئًا منها كنتَ من الخائنين.
وأعظمُ الخيانة الكذبُ على الله الكذبُ على رسول الله في تحليلِ الحرام أو تحريم حلال أو الفُتيا بغير وجهٍ شرعي، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
المحقِّقون في القضايا على اختلافِها هم أمناءُ فيما يحقِّقون وفيما يرفَعون من تقاريرَ، فإن كانوا أهلَ صِدق وأمانة كانت تقاريرُهم وكتاباتهم واضحةَ المعالم اتّقَوا الله فيما يقولون، وإن كانوا أهلَ خيانة مالت بهمُ الأهواء وافتروُا الكذبَ وأخفَوا الحقائق.
كلّ مسلم على عمَل وعلى مسؤولية فالله سائِله عما استرعَاه، ((ما مِن عبدٍ يسترعيه الله رعيّةً فيموت وهو غاشٌّ لرعيّته إلاَّ حرّم الله عليه الجنّة)).
إنّ أداءَ الأمانةِ مسؤوليّة كبيرةٌ تقوم بها النفوس الطيّبة النفوسُ الأبيّة النفوسُ التي تخاف اللهَ وتتّقيه، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
الحقوقُ في ذمّتك أنت مؤتَمَن عليها ولو خفِيَت على أهلِ الحقوق والله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]. وإنّ الأمّةَ إذا أدّتِ الأمانةَ حقًّا وقامتِ بواجِبِها حقًّا دلَّ على صَلاحِ الأمّة وسموّ أخلاقها وعلوّ كرامَتها.
نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم منَ المحافظين على الأمانة ِالمؤدِّين لها كمَا يرضَى الربّ عنّا جلّ وعلا.
أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
|