أمّا بعد: فيا أيّها الناس، إنّ المرءَ المسلمَ وهو يحيَا على أرضِ الإسلام وبين مجتمعاتِ الإسلام ليتعلّق برقبته وذمَّتِه تُجاه مجتمَعه وأمَّتِه حقوقٌ وواجبات، كما أنّ لهم عليه حقوقًا وواجبات. ثمّ إنَّ تحصيلَه في أداءِ حقِّ الغير أمرٌ لا مناصَ من مراعاتِه؛ بجلب كلِّ ما يوصِل إلى هذه الحقوق ودفع أو رفع كلِّ ما يخدِشُها أو يخِلُّ بها.
وهذه الحقوق في مجموعها تبدَأ من أقربِ الناس إليه لتصلَ إلى مَن لا يقلُّ شأنًا عنهم، فعليه حقوقٌ تجاه والديه اللّذين ربَّياه صغيرًا وآنساه كبيرًا، وكذا حقوقٌ تجاه زوجِه وأولاده وصحابته، يُضاف إلى ذلكم تلك الحقوقُ العظيمة تجاهَ ولاةِ أمره الذين ولاَّهم الله عليه وعلماءِ أمَّتِه الذين هم ورثةُ الأنبياء.
إنه مهما تقلَّب المرءُ بين هذه التحصيلات فإنما هو يتنقَّل من حقٍّ إلى آخرَ مثلِه، غير أنّ نزغَاتِ الشياطين وهنّاتِ بني آدم وغفلاتِهم التي لا يسلم منها مسلِم ولا يكاد لهي تعتري المرءَ بين الحين والآخر، فقد تزلُّ به القدم وتتعثَّر به الدّابَّة، فيخطِئُ الهدفَ ويُحدِث الثّلمة وإن لم يَعصِب عينيه، ثُمَّتَ يحتاج في النهوضِ من مثلِ هذه الكبوةِ إلى مراجعةٍ للحقّ وتجرُّدٍ عن الهوى وتصحيحٍ للهدف وللوسَائل الموصلةِ إلى ذلكم الهدف. وإنّ مثلَ هذا ليحتاج إلى شجاعة وإقدامٍ وإيثار للآجل على العاجل؛ إذ كلُّ بني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطّائين التوّابون.
إنّ الوقوعَ في الزللَ خطأ ظاهر، غير أنّه ليس هو العَيبَ كلَّ العيب، وإنما العيبُ والشَّين في منادَمَة الخطأ والإصرارِ عليه والاستنكافِ عن الرجوع إلى الحقّ إذا أخذتِ المرءَ العزّةُ بالإثم بعد اتِّضاح معالم الحقّ وسطوع شمسِه. ثمَّ إنّ التوبةَ من الخطأ والزّلل والرجوعَ عنه بشجاعةٍ وإقدام لهو المحمدةُ الحقّة والشجاعة المتمكِّنَة والنجاةُ من المغبَّة الآجلة قبل العاجلة.
ولو سَبرنا سِيَر العلماء والمجتهدين عبرَ التأريخ في التراجُع عن الخطأ وفي التحضيض على الرجوع إلى الحقّ لرأينا من مثلِ تلكم الشجاعةِ أشياعًا وأشياعًا، فهؤلاء الأئمّةُ الأربعةُ كلُّ واحدٍ منهم يؤكِّد بقوله: إنَّ أيَّ قولٍ له يخالف كتابَ الله وسنةَ رسوله فهو بريء منه ومتراجعٌ عنه إلى ما صحَّ به الخبر وقام عليه الدليل، وقد جاء مِن بعدهم في الأمّة مشاهيرُ قد أخطؤوا الطريقَ وزلَّت بهم القدَم في اجتهاداتٍ خالفتِ القولَ الحقّ، فأبرزَهم الخوفُ من الله المثمرُ الشجاعةَ في الرجوع إلى الصواب وإعلان ذلك على الملأ حتى صارَ تراجُعُهم عن الخطأ حروفًا مسطَّرةً بمدادٍ يشِعُّ بأنوار الفرَح بالتزام الحقِّ والتراجُع عمّا يخالفه، وقد كان الواحدُ منهم قبلَ تراجُعه يرى أنه قد تناهى به الاجتهادُ إلى غايةٍ ما بعدَها له مذهبٌ، فلما تلاقَى هو وخطؤُه وعايَن قُبحَه وشناعتَه تيقّن أنه إنما كان يلهو ويلعب، وقد قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله لعبد الله بن وهب رحمه الله: "يا عبدَ الله، لا تحملنَّ الناسَ على ظهرِك، وما كنتَ لاعبًا به من شيء فلا تلعبنّ بدينك".
وقد كان من أشهرِ من أعلَن رجوعَه إلى الحقّ والالتحاقَ بركبه الإمامُ المشهور بابن قتيبة رحمه الله، فقد أعلن ذلك وسطَّره، ومِن بعده أبو الحسن الأشعريّ رحمه الله الذي نشأ على مذهبِ الاعتزال أربعين عامًا، ثم أعلن على الملأ رجوعَه إلى الحقّ والدليل وتبرَّأ ممّا سِوى ذلك. ومثلُهُ أبو المعالي الجوينيّ وأبو حامدٍ الغزاليّ وأبو الوفاء بن عقيل وابن القيّم وغيرهم كثير، لم يمنعوا أنفسَهم الاعترافَ بالزّلَل والرجوعَ إلى الحقّ عند ظهوره، بل إنهم رجعوا بالتُّهمةِ على أنفسهم لأنّ كتابَ الله وسنّة رسوله لا يهدِيان إلاّ إلى الحقِّ، وأمّا رأيُ الإنسان فقد يرى الحقَّ وقد يرَى الباطل، ثم إنَّ مراجعاتِهم تلك لم تكن يومًا ما حِطَّةً لهم ولا منقَصة، بل كانت رِفعةً ومنقبة وحظًّا وتوفيقًا؛ لأنّ الحقَّ ضالّةُ المؤمن، أنّى وجدَها أخذ بها، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا عُرِف مقصودُ الشريعة سُلِك في حصوله أوصَلَ الطُرُق إليه".
أيّها الناس، إنّنا حينما نقول مثلَ هذا الكلام لنؤكِّدُ حاجةَ المسلمين إلى النّصح والتناصُح والبحث عن الحقِّ والصوابِ والتعاون الحثيثِ على لمِّ شمل المجتمع وردمِ أيِّ هُوّة تُفتَح دونَه على حين غِرّة. وإنّ ما يقع في هذه الأيام من جعل البلادِ المسلمة عَرصاتٍ لإهراقِ الدماء المعصومةِ التي حرّمها الشارعُ الحكيم وما يعتري تلك العَرَصاتِ من افتياتٍ على ولاةِ الأمر والعلماءِ والإخلالِ بالأمنِ والترويع والإرباك لهو من الخطورةِ والإنذار بالشرّ ما لا ينبغي الغفلةُ عنه أو تجاهُلُه أو تلفيقُ المسَوِّغاتِ له، بل يجِب التحريض على ردمِ هذا البركان الهائجِ وإيقافِ ذلكم النّزف بكلِّ وسيلةٍ متاحةٍ؛ إذ لا قبولَ لمثل ذلك تحتَ أيِّ مبرِّرٍ كان؛ لأنّ الحقّ أحبُّ إلى المنصِف من كلِّ أحد. ثم إنّ الرابحَ الوحيدَ من هذا كلِّه هو العدُوُّ المتربِّص والحاسِد الشامِت، فضلاً عن كونِ خيوط هذه التصرُّفات نسيجًا من نسيجِ العلوّ، والذي يستعمل في نفاذِه الأَغرارَ من بني أمَّتنا من أجل سِلب أمنِ المجتمَع والعَبَثِ بمقدَّراتِه بكلِّ ما تعنيه الكلمة. وكفى بالأمر خطورةً ما قاله النبي : ((أوّلُ ما يُقضَى به بين الناسِ يومَ القيامة في الدّماء)) رواه البخاري ومسلم.
ألا إننا مِن على هذا المنبر المبارَك لنناشِد كلَّ من مَدَّ يدَه في هذا الإناءِ الملوَّث أن يتّقيَ الله في المسلمين، وأن يرجِعَ إلى هديِ السلف في سلوكِه وفِكره، وأن يأخذَ بهديِ علماء الأمّة الربانيِّين أين تيمَّموا، وأن يسلُكَ في الدرب يمنةً فما الدربُ ذات شمال، ليوقِن كلُّ معاقرٍ لهذه الأفعالِ المرفوضة أنّه بمثلِ هذا الفعل يؤخِّر يومَ النصرِ ولا يقدّمه، وأنّ الحصاةَ التي يقذِف بها ويظنُّها انتصارًا إنما هي في الحقيقةِ تفقَأ العينَ ولا تقتلُ الصيد. فاللهَ اللهَ في الأوبةِ الصادقة والتوبةِ النصوح وقبولِ الحقّ وعدمِ الاغتمام به؛ لأنَّ الاغتمامَ بالصواب غِشٌّ في المغتَمِّ نفسِه، وسوءُ نيّةٍ بالمسلمين، ومن كرهِ الصوابَ من غيره ونصر الخطأ من نفسه لم يُؤْمَن عليه أن يسلبَه الله ما علَّمه ويُنسيَه ما ذكَّره، وقد قال ابن القيم رحمه الله: "لقد ذمَّ الله تعالى من يردُّ الحقَّ إذا جاءَ به من يُبغضُه ويقبلُه إذا جاء به من يُحبُّه، فهذا خلُق الأمّةِ الغضبيّة" أي: اليهود، وقد قال بعضُ الصحابة رضي الله عنهم: (اقبل الحقّ ممّن قاله وإن كان بغيضًا، ورُدَّ الباطلَ على من قالَه ولو كان حبيبًا).
ألا فليتَّقِ اللهَ أولئك المتهوِّرون المجازِفون بأنفسِهم ومجتمعِهم إلى ما لا تُحمَد عقباه، ولينظُروا بعَين البصيرة ليتَّضحَ لهم مواقعُ الخللَ فيما أقدموا عليه، وليعلَموا أنّ حالَهم يصدُق عليها قولُ ابن القيم رحمه الله بأنّهم كمثَل عُميانٍ خلَوا في ظُلمةٍ لا يهتَدون سبيلاً، فتصادَموا بالأكُفِّ والعصِيّ، فلا ترى منهم إلا مشجوجًا أو مفجوجًا أو مقتولاً، وقد يتسامَعُ عميانٌ أمثالُهم فيلِجون الظلمةَ كسابقيهم، فلا يزداد الصياح إلا عويلاً.
ألا فليعلم كلُّ والجٍ لهذا الكهفِ المظلِم ـ عبادَ الله ـ أنه سيكون أسيرَ خوفٍ وقلَقٍ وتوجُّسٍ وفرَق، كثيرَ الرَّوع والالتفات، تضيقُ عليه الواسعةُ بما رحُبَت، وتضيق عليه نفسُه التي بين جَنبيه، إنه يرقُب العقوبةَ كامنةً له عند كلِّ أفُق، وهذا مصداقُ قولِ النبيّ : ((لا يزال المؤمن معنِقًا صالحًا ما لم يُصِب دمًا حرامًا، فإذا أصاب دمًا حرامًا بلَح)) رواه أبو داود وأصله عند البخاري، ومعنى ((معنِقًا)) أي: مسرِعًا في طاعته منبسِطًا في عمله، ومعنى ((بَلَح)) أي: انقطَع بسببِ الإعياء والتعَب فلم يقدِر أن يتحرّك.
فهل بعد هذا يعقِلُ أولئك ويفكِّر كلُّ واحدٍ منهم في حالِ والده ووالدتِه حينما تأخذهما الحَسَراتُ كلَّ مأخَذ وهما اللّذان ربَّياه صغيرًا، يستنشِقون ألمَ صنِيعِه المقيت وشذوذه الكالح؟! ألا يفكِّر في زوجه وأولادِه الذين يخشى عليهم الضياعَ من بعده والأسى من فقدِه؟! ألا يشعُر بأنَّ زوجتَه أرملةٌ وإن كان حيًّا وأنّ أولادَه أيتامٌ وإن كان له عِرقٌ ينبض؟!
ألا فلله دَرُّ أبي الزّناد عبد الله بن ذكوان وهو من علماء السلف إذ يقول معرِّضًا بأمثال هؤلاء: "ولو لزِموا السننَ وأمرَ المسلمين وتركوا الجدالَ لقَطَعوا عنهم الشكَّ وأخَذوا بالأمر الذي حضّهم عليه رسول الله ورضيَه لهم، ولكنهم تكلَّفوا ما قد كُفُوا مؤنتَه، وحملوا على عقولهم من النّظر في دين الله ما قصُرت عنه عقولهم، وحُقَّ لها أن تقصُر عنه وتحصُر دونه، فهنالك تورَّطوا".
يبدَ أنَّ إحسانَ النيّة في الرجوع إلى الحقّ ـ عبادَ الله ـ لهو مدعاةٌ للتوفيق والخروج من المآزق بيُسر وسهولةٍ مع ثباتٍ على الطريق المستقيم، فالله جل جلاله قد وعَد مَن هذه حالُه بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشّيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
|