أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فتمسّكوا بها قولاً وعملاً، وعضّوا عليها سرًّا وجهرًا.
عبادَ الله، إنّ دينَ الإسلام دينٌ تضمّنت أحكامُه ما يكفل إصلاحَ هذه الحياةِ وقيامَها على أكمل الوجوه وما يتضمّن إقامة مجتمعٍ مثاليّ يتراحم أبناؤه ويتعاونون على مشاقّ هذه الحياة، لذا جاءت عنايتُه بعلاج مشاكلِ الفقر بما لم يسبِق له نظير، لا فيما يتعلّق بجانبِ التربية والتّوجيه، ولا فيما يتعلّق بجانب التّشريع والتنظير، ولا فيما يتعلّق بجانب التّطبيق والتّنفيذ.
وفي الوقتِ الذي ترى الدّراسات الاجتماعيّة والاقتصادية أنّ مشكلةَ الفقر معضِلة اجتماعيّة عجَز العالم المعاصرُ عن حلّها والقضاء عليها فإنّ علاجَ الفقر في الإسلام له في القرآن العناية البالغةُ، وله من السّنة الاهتمامُ البارز، بل إنّ الدراساتِ المنصِفةَ تثبت بكلّ برهان ساطعٍ أنّ الإسلام عالجَ مشاكلَ الفقر بالعلاج الجذريّ الأصيل المُقامِ على بنيانِ العدل ومبدَأ التكافُل الاجتماعيّ بنظامٍ متعدّد الأوجهِ متينِ الأسُس راسِخِ القواعِد شامِل الإصلاح.
ومِن هنا جاءت فريضةُ الزّكاة في الإسلام، فريضةٌ معلومة من الدّين بالضّرورة، فرضيتُها ثابتة بالآيات القرآنيّة والسنّة المتواترةِ وإجماعِ الأمّة كلِّها، يوصَم بالفسق من منعَها، ويُحكم بالكفر على من أنكرَ وجوبَها.
الزّكاة شعيرة كبيرةٌ وعبادة عظيمة، فريضةٌ دوريّة منتظِمة، دائمةُ الموارد مستمرّة النفع والمقاصِد، فريضةٌ مقاصِدها إغناء الفقراء وذوي الحاجات إغناءً يستأصِل شأفةَ العوَز من حياتِهم ويُقدِرهم على أن ينهَضوا وحدَهم. هي حقٌّ للفقراء في أموالِ الأغنياء، ليس فيها معنًى مِن معاني التفضُّل والامتِنان، وليست إحسانًا اختياريًّا، إنّما فريضةٌ تتمتّع بأعلى درجاتِ الإلزامِ الخلُقيّ والشرعيّ، يقول ربّنا جلّ وعلا: تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْقُرْءانِ وَكِتَـٰبٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النمل:1-3].
معاشرَ المسلمين، الزّكاة سببٌ للنّجاة من كلّ مرهوب، وطريقٌ للفوز بكلّ مرغوب فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ لاَ يَصْلَـٰهَا إِلاَّ ٱلأَشْقَى ٱلَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ [الليل:14-18]. وسيّدنا وحبيبُنا ونبيّنا محمّد يقول موجِّهًا للأمّة: ((اتقوا الله ربَّكم، وصلّوا خمسَكم، وصوموا شهرَكم، وأدّوا زكاةَ أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنّة ربّكم)) صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي.
إخوةَ الإيمان، لقد وجّه الله جلّ وعلا وعيدَه الشديد لمانِعي الزّكاة والمتهاونين فيها فقال: وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، بل وجعلها الله جلّ وعلا أحدَ المقوّمات التي يتميّز بها المؤمن من المنافق: ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة:67]، ونبيّنا حذّر أمتَه من التهاون في الزكاةِ والتساهل في إخراجها بأساليبَ شتّى وتوجيهاتٍ لا تُحصَى، فقد أنذر عليه الصلاة والسلام من التهاون بالزّكاة وحذّر على ذلك بالعذاب الغليظِ في الآخرة، لينبّه القلوبَ الغافلة ويحرّكَ النفوس الشّحيحة إلى الحِرص عليها والاهتمام بشأنها، فقد روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شجاعًا أقرع ـ أي: كناية عن أخبث الحيّات ـ له زبيبتان، يطوّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمَتَيه ـ يعني بشدقيه ـ ثمّ يقول: أنا مالك، أنا كنزك))، ثم تلا النبيّ قوله جلّ وعلا: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ [آل عمران:180].
وروى مسلم في صحيحِه عن النبيّ أنّه قال في الحديث الطويل: ((ما مِن صاحبِ ذهبٍ ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها إلاّ إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فأحمِي عليها في نارِ جهنّم، فيكوَى بها جنبُه وجبينه وظهره، كلّما بردَت أعيدَت له في يوم كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيُرى سبيله إمّا إلى الجنة وإما إلى النّار)) الحديث.
وقد جاءت امرأةٌ إلى رسولِ الله ومعها ابنةٌ لها، وفي يدِ ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها النبيّ : ((أتعطِين زكاةَ هذا؟)) قالت: لا، قال: ((أيسرُّك أن يسوِّرك الله بهما يومَ القيامة سوارين من نار؟!)) قال: فقلعَتهما فألقتهما إلى النبيّ وقالت: هما لله عزّ وجلّ ولرسوله. رواه أبو داود والترمذيّ وهو حديث حسن.
فيا مَن أنعم الله عليهم بالنّعم المتوافِرة وفضّلهم بالأموالِ المتكاثِرة، تذكّروا من يعيشون تحت وطأة البؤس ويقاسون همومَ الحاجة، تذكّروا أنّ مِن أعظم الوِزر وأكبرِ الجرم أن يتناسى أهل الجود والغِنى الفقراءَ الذين لا موردَ لهم والنّساء اللاتي لا عائلَ لهنّ والأيتام الذين لا آباء لهم والمشرَّدين الذين لا سكَن لهم، فدينكم جليّ واضحٌ في أوامرِه الإلزاميّة وتوجيهاته القاطِعة التي تذكّركم بعِظم فريضةِ الزّكاة التي تعتمِد في تنفيذها على القوّة والسّلطان، مع اعتمادها على الضّمير والإيمان، وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ [النساء:77]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أُمرتُم بإقامةِ الصلاة وإيتاء الزكاة، ومَن لم يزكِّ فلا صلاةَ له)، فربّنا جلّ وعلا يقول: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدّينِ [التوبة:11].
معاشرَ الأمّة، إنّ على الأمّة الإسلاميّة أن تدركَ أنّ مِن أسباب خذلانِها وعوامل هزيمتِها تعطيلَ بعض أبنائها فريضةَ الزكاة، فإنّ الله جلّ وعلا يقول: وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَاتَوُاْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلأمُورِ [الحج:40، 41]. ولذا فمِن وصايا السنّة المطهَّرة للمجتمع المسلم التذكيرُ بأنّه متى فشا تركُ الزكاة نُزعت البركات ووقعَت البلايا والمجاعات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما منَع قوم الزكاةَ إلاّ ابتلاهم الله بالسّنين)) رواه الطبرانيّ في الأوسط ورواته ثقات، وعنده أيضًا وعند ابن خزيمة مرفوعًا: ((مَن أدّى زكاة ماله فقد ذهَب عنه شرّه))، وفي حديثٍ آخر: ((ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا)).
معاشرَ المسلمين، إنّكم في شهرِ رمضان، شهر ترقّ فيه الطّباع وتتهذّب فيه النّفوس وتتحرّك المشاعر الطيّبة وتحنو إلى الخيرِ النفوس الخيِّرة.
فيا أيّها الأغنياء الفُضلاء، تذكّروا الأيتامَ والضعفاء والأراملَ والفقراء، فلهم في أموالِكم حقوق مفروضةٌ وواجبات لازمة، أنتم مسؤولون عنها ومحاسَبون عليها، يقول الخليفة الراشد علي رضي الله عنه: (إنّ الله فرض على أغنياءِ المسلمين في أموالِهم بقدر ما يسَع فقراءَهم، ولن يجهدَ الفقراء إذا جاعوا إلاّ بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإنّ الله يحاسِبهم حسابًا شديدًا) سنده جيد.
فاتّقوا الله عبادَ الله، وأدّوا زكاةَ أموالكم طيّبةً بها نفوسكم، تحصّنوا بالزّكاة من شرور أموالِكم، وطهّروا بها دينَكم ودنياكم، خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
فيا مَن أضعفته نفسُه عن إخراجِ ما أوجب الله، ألا تخشى من سَخط الله؟! ألا تخشى أن يعتريَك ما يصيبك في مالِك ويصيبك في بدنك، فيحرمك من لذّة الانتفاع به؟! فنبيّنا يقول: ((تعِس عبد الدّينار، تعِس عبد الدّرهم، تعس عبدُ الخميلة، تعِس عبد الخميصة، إن أُعطي رضِي، وإن لم يُعطَ سخِط، تَعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)) رواه البخاري، وفي الحديث أيضًا: ((ينادى في كلّ صباح ومساءٍ ملكان: اللهمّ أعطِ كلَّ منفقٍ خلفًا وكلّ ممسك تلفًا)) رواه البخاري.
إخوةَ الإيمان، لقد فوجِئ المسلمون في كلّ مكانٍ كما فوجِئ غيرُهم بحدَثٍ جسيم وواقعةٍ عظيمة يشيب الولدان لهولِها ويتصدّع القلب حزنًا لفظاعتها ويعجز القلمُ واللسان عن تصوير مآسيها أو الإحاطة بإدراكِ مضامين ضررِها وشرّها وهول قُبحِها وإجرامها، إنّها ـ عبادَ الله ـ حادثةُ التفجير الواقعِ في الرّياض في ليلةِ الأحد الماضي، والعجَب العُجاب أن يكونَ ذلك في شهرٍ أعلى الله شأنَه وأكرم منزلتَه، لذا فهي حادثةٌ تضمّنت جرائمَ عظمى وقبائح كبرى، نالت ضروريّات الدنيا والدين معًا، وأضرّت بالبلاد والعبادِ جميعًا. إنّها حادثة يجمِع المسلمون على استنكارِها وقُبحها وتجريمها، ويتّفق علماء الأمّة على عِظم جرمِها وكبير وِزرها، ولا غروَ فهي واقعةٌ اجتمع لها من عناصِر المحرّمات القطعيّة كمٌّ هائل، وتضمّنت من أسباب المخالفةِ للوحيَين شيئًا كثيرًا، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا [الأعراف:56]، وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
حادثةٌ ينتظِمها قولُه جلّ وعلا: وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
جنايةٌ لا يقِرّها عقل ولا يؤيِّدها منطقٌ ولا تقرّها شريعة، فرسولنا يقول: ((كلّ المسلمِ على المسلِم حرام؛ دمُه وماله وعِرضه))، ((إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهركم هذا))، ويقول : ((لن يزال المؤمنُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) رواه البخاري.
عبادَ الله، أيّها المسلمون في كلّ مكان، إنّ هذه الحادثةَ قد نالت مِن المسلمين الغافِلين الآمنين، قتَلت وأصابت وأحرَقت وهدّمت وخرّبت، فبأيّ ذنبٍ قُتلت تلك الأنفس؟! وبأيِّ حقّ دُمِّرت تلك المباني؟! ما هو موقِف الفاعلين أمامَ الربّ جلّ وعلا وقد قال لعباده: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! إنّه اعتداءٌ على تعاليمِ الإسلام الحقِّ الذي حرصَ كلَّ الحِرص على حماية الضروريّات الخمس، كيف وقد قال سيّدنا ونبيّنا : ((من حمَل علينا السّلاح فليس منا))، ((من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكة تلعنه))؟!
إنّه عمل تضمّن كلَّ تخريبٍ واشتمل على كلّ فساد، ترويعٌ للمسلمين وقتلٌ للمؤمنين ونقضٌ للمواثيق والعهود، ولقد قال : ((ومن خرج على أمّتي يضرِب بَرّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمِنها ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه فليس منّي ولستُ منه)) عياذًا بالله من ذلك.
كيف موقفُ أولئك المنتهكِين للحرماتِ يومَ يعرَضون على الله وقد حذّرهم بقوله: وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]؟! كيف موقفُ أولئك المقدِمين على قتلِ المسلمين وقد قال النبيّ : ((أكبرُ الكبائرِ الإشراك بالله وقتل النّفس وعقوق الوالدين وقولُ الزور))؟! كيفَ هم وأينَ هم من قولِ المصطفى : ((إذا التقى المسلمان بسيفَيهما فالقاتل والمقتول في النار))، قلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: ((إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه))، فإذا كان هذا الوعيدُ على مجرّد القصد من المقتول، فكيف بمَن تعمّد وقصَد ثمّ فعل؟!
إنّ الإسلامَ شدّد في قضيّة الدماء المعصومةِ وقتلِ الأنفس البريئة، قال عليه الصلاة والسلام: ((كلّ ذنبٍ عسى الله أن يغفرَه إلاّ من مات مشركًا أو مؤمن قتلَ مؤمنًا متعمّدًا))، وفي حديثٍ عند النسائيّ بسند حسن: ((كلّ ذنب عسى الله أن يغفرَه إلاّ الرجل يقتل المؤمنَ متعمّدًا أو الرّجل يموت كافرًا)). بل إنّ الإسلامَ يرى أنّ قتلَ نفسٍ واحدة معصومة أشدّ عند الله جلّ وعلا من زوالِ الدنيا بأسرها: ((لزوال الدنيا أهونُ عند الله من قتلِ رجلٍ مسلم)) رواه النسائيّ بسند حسن.
إنّ هذه الحادثةَ وقعت على أبرياء آمنين، يعيشون موسِمًا طيّبًا، إنّها ليالي رمضان، فيفاجؤون بتلك المصيبةِ العظمى بدون ذَنب ارتكبوه ولا عن جرمٍ عمِلوه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من أمّن رجلاً على دمِه فقتله فإنّه يحمِل لواءَ غدرٍ يومَ القيامة)) رواه ابن ماجه. وإذا كان الأمر كذلك فكيفَ بهذه الأنفسِ التي كانت تعيش في ظلّ أمنِ هذا المجتمع المسلم وأخلاقِ المجتمعِ المؤمن.
إنّ الدماءَ خطرُها كبير، وموقفُ الحساب فيها عسير، فنبيّنا يقول: (( يجيء المقتول بالقاتل يومَ القيامة، ناصيتُه ورأسه بيده، وأوداجه تشخَب دمًا، يقول: يا ربّ، قتلني هذا حتى يدنِيه من العرش)) رواه أحمد بسند قويّ، وفي الصحيحين: ((إنّ أوّل ما يقضى بين الناس في الدماء))، ومِن هنا يوجِز عبد الله بن عمر رضي الله عنه مشكاةَ النبوّة ومدرستَها بقوله: (إنّ من ورطات الأمور التي لا مَخرج لمن أوقعَ نفسَه فيها سفكَ الدّم الحرام بغير حلِّه)، لذا فإنّنا ومِن هذا المِنبر المبارك الطّاهر ننادي من تسوِّل له نفسه مثلَ هذه الأفعال الشنيعةِ أن يخشَوا ربّهم جلّ وعلا ويتّقوا خالقَهم عزّ وجلّ، والله جلّ وعلا يتوب على من تاب وأناب وأصلح وأحسَن، فسيّدنا ونبيّنا يقول: ((من زلّ فليتُب، ولا يتمادَ في الهلكة، إنّ من يتمادى في الجَور كان أبعدَ عن الطريق)).
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا وإيّاكم بالسنّة، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
|