أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فتقوى الله جماع الخيرات ومعدن البركات.
عباد الله، الحديث عن سيرة المصطفى حديثُ تحبُّه النفوس المؤمنة، وتأنس به قلوب بالإيمان مطمئنَّة، فحبه في شغاف الأفئدة مغروس، وتوقيره مشربة به النفوس، بأبي هو وأمي .
وإن الناظر بعين البصيرة يرى صورًا من سيرته تتبدى أمام الناظرين، وعبرًا من حياته وجهاده تتراءى أمام المعتبرين، وفي مثل أيام هذا الصيف اللافح وشدة الحر وطيب الثمار كانت سيوف الصحابة ظاهرة جلية، وأسنة رماحهم مرفوعة عليَّة، في واقعة من مواقع الجهاد النبوي الميمون، في واقعة من أعسر المواقع وأشدها على صحابة رسول الله ، في واقعة كشفت فيها أستار النفاق وأضحى المرجفون والمخذلون ينفخون التخذيل في التخذيل عنها الأبواق، وضرب الصحابة فيها أعظم دروس الإنفاق.
في واقعة استنهض فيها الرسول عزائم الرجال بحفنات من المال؟! كلاَّ، فوالذي لا إله حق غيره لم يبايعوه على ذلك، وإنما على جنات عدن وطوبى والفردوس وأعظم به من مآل، في واقعة أخذت من القرآن سورة كاملة من سوره الطوال، وبوب فيها البخاري وغيره بابًا كاملاً، وحفلت بها كتب السنة وسطرت أحاديثها ومجرياتها كتب السيرة بافتخار وإكبار، تلكم ـ يا رعاكم الله ـ غزوة القوة، غزوة البلاء غزوة العسرة، إنها غزوة تبوك.
ويعظم الحديث ويحسن عن هذه الغزوة في مثل هذا الزمن الذي تشابكت بأمة الإسلام حلقات من المحن، وتقاذفتها أمواج من الفتن، وصيح بهم من كلّ جانب وتداعى عليهم الأكلة، يجمُل الحديث عن هذه الغزوة في مثل هذه الأوضاع العالمية المتلاحقة التي تكرّس لدى المسلمين جميعًا كل يوم أن رزق هذه الأمة وعزها تحت ظل رمحها وجهادها، وذلتها وصغارها في تركها لجهاد أعدائها وإخلادها لشهواتها ودنياها.
معاشر المسلمين، استقر الإسلام في الجزيرة، وفتحت مكة، وانطلقت الأنوار من الجبال والصحاري، وأخذت الأفواج تلو الأفواج تدخل في دين الله، وتلقى أعداء الله من الروم وغيرهم أنباء تلك الانتصارات وما كانوا عنها غافلين، فصاروا يجمعون جموعهم ويمكرون مكرهم، فكانت بداية التحرش بدولة الإسلام الفتية في واقعة مؤتة، والتي كان سببها قتل مبعوث رسول الله إلى عظيم بصرى، فقابل ثلاثة آلاف من المسلمين مائتي ألف من الروم وأعوانهم، أيّ عزة هذه؟! وأي قوة تلك؟! دولة ناشئة تقف أمام دولة وهي في أوج قوتها.
إن مواجهة الأعداء لا يشترط فيها دائمًا تكافؤ القوى الظاهرية بين المؤمنين وأعدائهم، كفانا قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60]، والنصر بيد الله، يقول عبد الله بن رواحة لأصحابه في غزوة مؤتة: (والله، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور ـ أي: انتصار ـ وإما شهادة)، ولنا في الشيشان عبرة وفي أطفال الحجارة تذكرة.
أيها الإخوة، لم تهدأ ثائرة الروم بعد هذه الغزوة، بل بدؤوا يحشدون الحشود، فهذا هرقل يجيّش جيشًا عظيمًا قوامه أربعون ألف مقاتل، ويجلب معه قبائل من متنصرة العرب، ويعد العدة لغزو المسلمين، فيبلغ رسول الله تلك الاستعدادات والجموع، ويأمر بالخروج إليهم ولم ينتظر حتى يداهموا المدينة، فندب عليه الصلاة والسلام أصحابه وكان الوقت صيفًا بلغ فيها الحر مداه، والناس في عسر من العيش وقلة قد بلغ عند بعضهم منتهاه، وثمر المدينة قد طاب جناه، ولم يكن من عادته إذا همّ بغزوة إلا ورّى بغيرها إلا ما كان من هذه الغزوة، فقد أعلنها وبين وجهتها ليتأهبوا أهبتهم ويأخذوا عدتهم، فإنهم يستقبلون سفرًا بعيدًا ومفازًا شديدًا وعددًا كثيرًا.
وبدأت مظاهر الابتلاء والامتحان تظهِر سوءات المنافقين، ويتجلى بها صدق الصادقين وإيمان المؤمنين، فلقد استجاب المؤمنون لنداء رسولهم ، وضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في بذلهم وعطائهم، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه جاء بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وبألف دينار استرخصها وبذلها عندما لامست أذناه صيحات رسول الله في الصحابة: ((من جهز جيش العسرة فله الجنة، من جهز جيش العسرة فله الجنة))، وأعظم به ـ وربي ـ من مهر، فطالما في سبيل دخولها ركعوا، ولطلبها دعوا وتضرعوا، حتى أكبر رسول الله ما فعل عثمان رضي الله عنه فقال: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وجاء أبو بكر بماله كله وكان أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وأنفق ألفي درهم، وجاء العباس بمالٍ كثير، وتتابع الناس بصدقاتهم بعد ذلك، ورأى فقراء المسلمين ما بذل أغنياؤهم فاشتاقوا إلى أن يبذلوا ويدفعوا، ما اعتذروا بفقرهم، وما تذرعوا بضعفهم، بل قدموا جهدهم من النفقة على استحياء، فهذا أبو عقيل يأتي بنصف صاع من تمر، وهذا أبو خيثمة الأنصاري غاية ما يملك صاعان من تمر، فصاع جعله لعياله والصاع الآخر شارك به في هذه الغزوة.
وهناك آخرون قد بلغوا من الفقر غايته، فهم ضعفاء لا يملكون شيئًا، ولكنهم بذلوا ما بأيديهم، وقدموا ما بوسعهم، فهذا عُلبة بن زيد بن حارثة لم يجد ما يتصدق به فرفع يديه إلى ربه والله يعلم صدقها، فقال: (اللهم إنه ليس عندي مال أتصدق به، اللهم إني أتصدق بعرضي على من ناله من خلقك)، فعندما جاء الصباح أمر رسول الله مناديًا ينادي: ((أين المتصدق بعرضه البارحة؟)) فقام عُلبه فقال الرسول : ((إن الله قد قبل صدقتك)).
وجاءت النساء بما قدرن عليه من صدقات وحليّ وخلاخل وقروط وخواتم، وألقينه بين يدي رسول الله ، آثروا جنة عرضها السموات والأرض على تجملهن وتحليهن.
ويأتي سبعة من صحابة رسول الله من بينهم عُلبة الآنف ذكره ليطلبوا من رسول الله ما يركبون عليه معه في هذه الغزوة، فلا يجد ما يحملهم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون، فيهم قال الله قرآنًا يتلى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92].
رضي الله عن صحابة رسول الله وجزاهم الله خيرًا عن الأمة، وهم كما قال ابن القيم رحمه الله:
أولئك أتبـاع النبي وحزبـه ولولاهم ما كان في الأرض مسلم
ولولاهم كادت تميد بأهلهـا ولكن رواسيها وأوتـادها هـم
ولولاهم كانت ظلامًا بأهلها ولكنهم فيهـا بـدور وأنجـم
مواقف مؤثرة وصور معبرة من البذل والعطاء والجهاد والفداء، كل هذا استجابة لنداء ربهم: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]، وطمعًا في موعود نبيهم: ((من جهز جيش العسرة فله الجنة)).
والذي لا إله حق غيره، إن لفي ذلك عبرة أي عبرة، إنه متى صدق المسلمون مع ربهم ووحدوا صفهم وبذلوا وسعهم غنيهم وفقيرهم فإن الله ناصرهم وبالحق مؤيدهم.
وأين البخلاء بأموالهم والشحيحون بيسير أرزاقهم عن محبة رسول الله ؟! ولكن: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ [محمد:38].
ومع ما مضى من الصور العظيمة إلا أن ثمة أناسًا لم يرقهم ذلك، ألا إنهم المنافقون، فأخذوا يرجفون ويخذلون: لا تنفروا في الحر، فيأتي الجواب من الله سبحانه مباشرة: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81].
ويلمزون فقراء الصحابة في صدقاتهم ويسخرون منهم، يتضاحكون ويقولون: إن الله الغني عن صاع هذا، وما يفعل صاع تمر في قتال الروم، ويستهزئون، الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].
ويأتون بالأيمان الكاذبة ليبدوا أعذارهم بين يدي رسول الله في تخلفهم عن الغزوة، ورسول الله يقبل علانيتهم ويعذرهم، فيعاتبه ربه بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، بل تصل بهم الجرأة لأن يبنوا مسجد الضرار يدبّرون فيه حلقات التآمر على المسلمين، ولكن يأبى الله إلا أن يكشف عوارهم ويظهر خواءهم، وما أشبه الليلة بالبارحة، فها هم المنافقون يرجفون بين المسلمين ويخذلون، لا طاقة لنا بجهاد الأعداء، الأزمنة تغيرت، الأحوال تبدّلت، بل وحتى في جانب الإنفاق والدعوة يحتقرون ويثبطون ويشكّكون، يجيدون فن الكلام، وإذا دعوا للبذل تمنعوا، وإن طلبوا للمشاركة تعذروا وتذرعوا، ولكن صدق الله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا...
|