أما بعد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
حضرت معن بن زائدة الوفاة وخشي أن يتفرّق أبناؤه من بعده فقال لهم: أُريد من كلّ واحد منكم أن يأتيني بعصا، فأحضروها، فأخذ من كل منهم عصًا وأمسكها وقال لصاحبها: اكسرها فكسرها بكل سهولة، فقال لهم: ليأتيني كل منكم بعصا، فأحضروها، فجمعها وقال لكل منهم: أكسرها فما استطاع. وقد أراد بذلك نصيحتهم بطريقة غير مباشرة وبوسيلة تعليمية واضحة وملموسة ومحسوسة. وقال بعد ذلك لهم: يا أبنائي، كونوا كرجلٍ واحد، لا يستطيع عليكم أحد، وأما إذا تفرقتم فسوف يستطيع القضاء عليكم أي إنسان، ثم أنشد:
كونوا جميعا يا بني إذا اعتـرى خطبٌ ولا تتفرقوا آحـادا
تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرًا وإذا افترقن تكسرت آحادا
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الله تعالى لنافذ قدرته ولبالغ حكمته خلق الخلق بتدبيره، وفطرهم بتقديره، فكان من لطيف ما قدر ومن بديع ما دبر أن خلقهم محتاجين، وفطرهم عاجزين، ليكون بالغنى منفردا، وبالقدرة مختصًا، حتى يُشعرنا بقدرته أنه خالق، ويعلمنا بغناه أنه رازق، فنذعن بطاعته رغبة ورهبة، ونُقر بنقصنا عجزًا وحاجة. ثم جعل الإنسان أكثر حاجة من جميع الحيوان، لأن من الحيوان ما يستقل بنفسه عن جنسه، والإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه، واستعانته صفة لازمة لطبعه، وخلقة قائمة في جوهره، ولذلك قال سبحانه وتعالى: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، يعني عن الصبر عما هو إليه مفتقر، واحتمال ما هو عنه عاجز. ولما كان الإنسان أكثر حاجة من جميع الحيوان كان أظهر عجزًا، لأن الحاجة إلى الشيء افتقار إليه، والمفتقر إلى الشيء عاجز عنه. قال بعض الحكماء المتقدمين: استغناؤك عن الشيء خير من استغنائك به. وإنما خص الله تعالى الإنسان بكثرة الحاجة وظهور العجز نعمة عليه ولطفًا به ليكون ذُل الحاجة ومهانة العجز يمنعانه من طغيان الغنى وبغي القدرة، لأن الطغيان مركوز في طبعه إذا استغنى، والبغي مستول عليه إذا قدر، وقد أنبأنا الله تعالى بذلك عنه فقال: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7]، ثم ليكون أقوى الأمور شاهدًا على نقصه وأوضحها دليلاً على عجزه.
ولما خلق الله الإنسان ماس الحاجة ظاهر العجز جعل لنيل حاجته أسبابًا، ولدفع عجزه حِيلاً، دلّه عليها بالعقل، وأرشده إليها بالفطنة، قال تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، قال مجاهد: "قدر أحوال خلقه، فهدى إلى سبيل الخير والشر". وقال ابن مسعود في قوله تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]: (يعني الطريقين: طريق الخير، وطريق الشر). ولذا وجب على بني الإنسان الإخاء، ويتعين عليهم الاصطفاء، ويجب أن يميل المسلم لأخيه المسلم وإن كانوا مختلفين في الآراء ومتباينين في الأفكار، فإن بني الإنسان على طبقات مختلفة وأنحاء متشعبة، ولكل واحد منهم حال يختص بها في المشاركة، وثلمة في الناس يسدها في المؤازرة والمضافرة، وليس تتفق أحوال جميعهم على حدّ واحد، قال بعض الحكماء: الرجال كالشجر؛ شرابه واحد وثمره مختلف، فنظم الشاعر:
بنـو آدمَ كالنبـتِ ونبت الأرض ألوان
فمنهم شجر الصندل والكافور والبـان
ومنهم شـجر أفضل ما يحمل قطــران
قال المأمون: :الإخوان ثلاثة طبقات: طبقة كالغذاء لا يُستغنى عنه، وطبقة كالدواء يُحتاج إليه أحيانًا، وطبقة كالداء لا يُحتاج إليه أبدًا".
وأنت أيها الأخ الحبيب، يا من أنت واحد من هذا المجتمع المسلم، يهمك ما يهمّهم، ويشغلك ما يشغلهم، فتسعد بفرحهم، وتحزن لبؤسهم، كن مع إخوانك من أبناء هذا المجتمع يدًا بيد، لكي تكون القلوب مجتمعة والآراء متحدة، فيحصل النجاح لكل عمل، ويكون التحقيق لكل أمل، وأنت ـ أيها الأخ الكريم ـ قد اندرجتَ تحت سلك هذا المجتمع المتعاون، وقد عُددت فردًا من أفراده وابنًا من أبنائه، لك ما لهم، وعليك ما عليهم، فمجتمعك ما هو إلا قريب أو جار، قد ربط بينهم رابط الدين والنسب والأصهار والأخوة والمروة والجوار، فتجدهم على الخير يحملونك، وعن الشر يردعونك، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، وأبناء قريتك هم أول من بك يفرحون، وعليك يحزنون، وفيك يواسون، فهم أول من يستقبلونك ويفرحون ويستبشرون بمجيئك إلى هذه الدنيا، وهم أول من لك يودّعون، وعلى فراقك يحزنون، فتغسلك دموعهم، وتحنطك جفونهم، وتحملك قلوبهم، فإذا توفاك الله قاموا بغسلك وتكفينك، وصلوا عليك ودعوا لك بالثبات، وسألوا الله لك الرحمة والجنة، وأن يجمعهم بك في الجنة، فتتذكر وإياهم ذكرياتكم في الأيام الخالية، وأنتم جالسون تحت شجرة طوبى في الجنة، ويحملونك إلى قبرك على رقابهم، كل منهم يسابق ليحمل جنازتك، ويقوم بواجبك، وفي القبر أنزلوك على مهل، واختاروا لك موضعًا طيبًا وسهلا، ثم بالتراب أكرموك وستروك ودفنوك، ورجعوا وقد انخلعت منهم القلوب، وذرفت منهم العيون، وتصدعت منهم الرؤوس، يا لها من أُخوة قوية، ويا له من رباط متين، فهم لك في الشدة والرخاء، وفي السراء والضراء.
إن الرجال إذا مـا أُلجئُوا لجـؤوا إلى التعاون فيما جل أو حزبـا
لا تعـدم الهمة الكبرى جوائزهـا سيان من غلب الأيام أو غُلبـا
وكل سعي سـيجزي الله ساعيـه هيهات يذهب سعي المحسنين هبا
وأنت واحد منا ونحتاج إليك، ليكتمل العقد، فكن عنصرًا فعالا، وصفّ مع الرجال، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4].
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما نُجْحُ الأمور بقـوة الأسـباب
فاليـوم حاجتنا إليك وإنمـا يُدعى الطبيب لشدة الأوصاب
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|