أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ مِن حكمةِ الله ابتلاءَ عبادِه بالضرّاء والسرّاء، ابتلاءَهم بالسرّاء ليتبيَّن شكرُ النعم، فيظهرَ شكرُ من كان شاكرًا لله، وابتلاءً بالضراء ليظهرَ صبرُ الصابرين الموقِنين الصادقين، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
أمةَ الإسلام، نِعَم الله على العباد عظيمة، وآلاؤه جسيمة، نعمٌ لا يستطيعُ العبادُ عدَّها ولا إحصاءها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53].
أيّها المسلم، أجلُّ النِعَم وأكبرُ النعم نعمةُ الإسلام، فمن هداه الله للإسلام وشرح صدرَه للإسلام فقد أنعم الله عليه بالنعمةِ الكبرى، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
مبعثُ محمّدٍ نعمةٌ أنعمَ الله بها على أهل الأرض قاطبة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
الأمنُ في الأوطان نعمةٌ عظيمة من نِعم الله على عبادِه، ذكَّر الله بها العبادَ ليقابِلوا تلك النعمةَ بشكر الله والثناء عليه: لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [سورة قريش]. إذًا فليقابلوا نعمةَ رغَد العيش ونعمةَ الأمن بعبادة الله وإخلاص الدين لله.
نعمةُ الأمن نعمةٌ من ضروريات الإنسانيّة ومن مقاصد الشريعة. نعمةُ الأمن فيها يعبُد العبد ربَّه ويؤدّي واجبَه، فيها يتعلَّم المتعلِّم، ويدعو الداعي، ويسعى الساعي في كلِّ ما يحقِّق له سعادتَه في الدنيا والآخرة.
بالأمنِ تطمئنّ النفوس وتنشرح الصدور ويتفرَّغ العبادُ لمصالحِ دينهم ودنياهم، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57].
نعمةُ الأمن عَرف قدرَها الكُمَّل من البشر وهم أنبياءُ الله، يقول الله عن صالحٍ عليه السلام وهو يذكِّر قومَه هذه النعمةَ ويحذِّرهم من الاستخفاف بها: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:146-152]. وأبونا إبراهيمُ عليه السلام عندما فرغ من بناءِ البيت دعا لسكّانه بتلك الدعوات: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]، فبدأ بنعمةِ الأمن لأنَّ بحصوله يتحقَّقُ الخير بتوفيقٍ من الله.
أيها المسلم، بم يتحقّق الأمن؟ إنّ الأمنَ في الأوطان يتحقَّق بعبادة الله والخضوع له والقيام بشرعه، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
كيف نحافظُ على هذا الأمن؟ نحافظُ عليه أولاً بشكر الله على هذه النعمَة بقلوبنا، بألسنتِنا، بجوارحنا، أن نتصوَّرَ عظَمَ هذه النعمة ونعلَم عظمةَ من تفضَّل بها وجادَ بها وهو ربّنا جل وعلا، فنرفعَ الشكرَ والثناءَ لربِّ العالمين على هذه النعمة، نعتقدها في قلوبنا، وأنها من الله فضلاً وإحسانًا وجودًا وكرمًا، فنقابلها بشكره، وشكرُه يزيد النِّعَم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
نأخذُ على يدِ كلِّ من يريد زعزعةَ هذه النعمة وتكديرَها، نأخذ على يده حتى لا يتمادى في شرِّه وطغيانه، فإنَّ تركَ أولئك كفرٌ بهذه النعمة التي أنعمَ الله بها، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53].
أمةَ الإسلام، بلادُكم بلَدُ العقيدة الصافيةِ ولله الفضل والمنّة، بلدٌ ظهرت فيها شعائر الإسلام، وحُكِّمت فيها شريعة الإسلام، بلدُ العلم والتعلُّم، بلد الخيرات، بلدٌ آوت فئاتٍ من المسلمين، عاشوا في ظلِّها في أمنٍ واستقرار وطمأنينة، بلدٌ يفِد إليها الحجّاج والمعتمرون فيجدون حرمًا آمنا، رغدًا سخاءً في كلِّ نعمة، فضلٌ من الله ورحمة. بلدٌ هيَّأ الله له قيادةً ترعى شأنَه، نسأل الله لها المزيدَ من التوفيق والهداية والسّداد والعون على كلّ خير.
فيا أهلَ الإسلام، لتكن كلمةُ المسلمين واحدةً وعلى قلبٍ واحد في الدفاع عن هذا الدين وعن تعاليمه الساميةِ والأخذِ على يدِ المفسدين والعابثين والمغرَّر بهم ومن ليس لهم حظّ في العلم والتعلّم.
يا أهلَ الإسلام، إنَّ هناك فِئةً من الناس تريد زعزعةَ أمن هذه الأمّة، ليس غرَضها صحيحًا، ولا هدفها مقبولاً، ولا تصرفاتها إلاَّ دالة على ضررِ أولئك وضعفِ الإيمان أو انعدامه من قلوبهم والعياذ بالله، همُّهم التفجير والتدمير، همُّهم القتلُ والإفساد، غايتهم الخروجُ على الأئمّة وقتل الأمة والسعيُ في الأرض فسادًا.
نِعمُ الله التي يتمتَّع بها الصالحون ويدعو إلى شكرها العلماء المخلِصون ويضيق بها ذَرعًا الحاقدون الكارهون، هؤلاء تغيظهم تلك النّعم، يريدون للأمّة أن تعيشَ في فوضى وبلاء، ويأبى الله والمؤمنون ذلك.
أمةَ الإسلام، تلك فِئةٌ ضالّة مضلِّلة منحرِفة شاذّة عن الطريق المستقيم، تريد بالأمّة كيدًا، وتريد بالأمة ضررًا وفسادًا. إذًا فالواجب على الجميع تقوى الله وتضافر الجهود في سبيل الحيلولة بين أولئك وما يريدونه بالأمّة من بلاءٍ وفساد.
إنَّ الأمّةَ إذا عرفتِ الأمرَ وتدبَّرت حقيقةَ أولئك فلم يبقَ شكّ ولا ارتيابٌ في أنَّ أمرَ هذه الفئة واضحٌ للملأ، وأنه الإفساد والإضرار والسعي في الأرض فسادًا وتحقيقُ مطالب أعداء الإسلام وتسهيل المهمّة لهم، هكذا يقصدون، قومٌ غُرِّر بهم، وقومٌ تلاعب بهم الأعداءُ حتى جعلوهم وَقودًا لهذه الفتنة، وإنَّ المسلمَ ليكون حَذِرًا يقظًا، لا يغترّ بكلِّ رأيٍ وبكلّ فكر يفدِ إليه من غير أن يمحِّصه ويضعَه في الميزان العادل، فيعرف حقائقَ الأمور.
كم من مدَّعي الإصلاح والصَّلاح، وكم من مدَّعي الخير، والله يعلم ما وراء ذلك، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206].
قومٌ ضلَّ سعيهم، وزيَّن لهم الشيطان الباطلَ فرأوه حقًّا، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
قتلُ الأبرياء بلا سبب، سفكُ دماءِ رجالِ الأمن بلا سببٍ يدعو إليه، وإنما هو الحِقد الدَّفين ومحاولةُ إلحاق الأذى بالأمة، ولكنّ الله بالمرصاد لكل من يريد الشرَّ والبلاء، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43].
إنّ الأمةَ يجب أن تكونَ حذِرةً، وأن تأخذَ عبرةً من هنا وهناك، كم من أناسٍ يعيشون في فوضى وبلاء، عجزوا أن يحقِّقوا لمجتمعاتهم أمنًا، خيراتٌ في الأرض وخيرات متعدِّدة، لكن والعياذ بالله أُلبِسوا شيَعًا وصار بعضهم عدوًّا لبعض.
إنَّ الفردَ المسلم يَدين لله بالمحبَّة لهذا الدين وأهله ومولاةِ المسلمين ودفعِ الأذى عنهم بكلِّ مستطاع، ومَن يرضى بالأذى للمسلم فإنَّ ذلك مخالفٌ لتعاليم الإسلام، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
إنَّ سفكَ الدماء كبيرةٌ من كبائر الذنوب، عظيمةٌ من العظائم، جريمة من الجرائم، لا يستحلُّ دمَ امرئ مسلم إلاَّ من فارقَ الإيمانَ والعياذ بالله، فإنَّ المؤمنَ حقًّا يعظِّم دماءَ الأمة ويحفظها، و((لا يزال العبدُ في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا))، ولا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يسفِك دمًا حرامًا.
فليتَّق اللهَ أولئك، وليتوبوا إلى الله من جُرمِهم، وليندَموا على ما مضى، وليعزموا أن لا يعودوا إلى تلك الجرائمِ والخطرات، وليعلَموا أن اللهَ مُجازٍ كلاً بما عمل، وأن أوّلَ ما يقضي به بين العباد من حقوقهم الدماءُ يوم القيامة، أوّل ما يُنظَر في العباد في قضاياهم يومَ القيامة الدماء، فحافظوا ـ رحمكم الله ـ على أرواح أمَّتكم، وصونوا بلادَكم، واحذروا من أولئك المفسدين، وإياكم أن تكونوا أعوانًا لهم أو متعاطفين معهم أو مسوِّغين لهم فعلَهم أو متأوِّلين لهم، فإنَّ الأمرَ واضحٌ جليّ لا يرتاب فيه مسلم، أنّ هذا إفساد وفسادٌ، وليس لهم أيّ مبرِّر ولا تأويل، ولكنه الخطأُ الواضح والجُرم الكبير.
نسأل الله أن يحفَظَ بلادَ المسلمين من كلِّ سوء، وأن يعيذَنا وإيّاكم من الشرّ والفساد، وأن يمنحَنا الاستقامة والثباتَ على الحقّ، وأن يعيذنا من زوال نعمته ومن تحوُّل عافيته ومن فُجاءة نقمته، وأن يهديَ ضالّ المسلمين ويبصِّر جاهلَهم ويوقِظ غافلهم ويدلَّهم على الخير والهدى، إنّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|