أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، واخشَوا ربَّكم خشيةَ من يعلَم أنه يَعلمَ السرَّ وأخفى.
عبادَ الله، إنَّ الربَّ جلّ وعلا أخبرَ في كتابه أنَّ الناسَ ينقسِمون إلى قسمين:
قسم صالح مُصلح قد رضيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًّا ورسولا، وصفَهم ربُّهم بأحسنِ الصفات، وأنزلهم رفيعَ الدرجات، فقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:63-70]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108].
غايةُ الإسلام هي إصلاحُ الإنسانِ بعبادة الله تعالى وحدَه لا شريكَ له، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. وغايةُ الإسلام أيضًا إصلاحُ الأرض بتوحيد الله تعالى وإقامة الحدود وحِفظِ الدماء والأموال وحِياطتها وحراستها وتعزيز الأمر بالمعروف ومحاربة كلِّ منكَر وفحشاء، مع العناية بعمارَة الأرض عمارةً تعينُ الإنسانَ على مهمَّته التي خُلِق لأجلها.
وقد وَعد الله مَن أصلحَ في هذه الحياة الدنيا بأنّه لا يخافُ ممَّا يُقدِم عليه بعدَ الموت ولا في مستقبَل حياته، ولا يحزَن على ما خلَّف وراءه من الذريَّة، وأنَّ له الجناتِ العلى، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35]، وقال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام:48]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170].
وقد أصلحَ الله تعالى الأرضَ بإرسال الرسُلِ وإنزال الكتب وبأتباعِ الرسُل عليهم الصلاة والسلام، فالانحرافُ عن طريقة الرّسُل إفسادٌ في الأرض، والله تعالى يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف:85]، ولكنَّ الإنسانَ المفسِد غيََّر وبدَّل وتمرَّد وعصَى، واتّبَع خطواتِ الشيطان، فأفسد في الأرض بالشركِ وسَفكِ الدماء المحرَّمة والعدوانِ على المال المعصُوم والزنا والفواحشِ والمحرَّمات وظُلم الأبرياء، فكان جزاءُ المفسدين في الأرض الخزيَ في الدنيا والآخرة، وعقوبةُ المجرمين أشدُّ العقوبة وأنكى النكال.
وهذا الصنف الثاني من الناس هم المفسدون في الأرض، وقد جعل الله عقوبتَهم في الآخرة جهنَّم وبئس المصير، قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
والعجبُ كلَّ العجَب أنَّ هؤلاء المفسدين في الأرض إذا نُصِحوا وطُلب منهم الرجوعُ إلى الحقّ والتمسُّك بالخُلُق والتوبة إلى الله أصرّوا على ما هم فيه من الإفساد في الأرض، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
وهذا السلوكُ علامَةُ فتنةِ القلب وانتكاسِه والعياذ بالله، قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].
وأما عقوباتُ المفسدين في الأرضِ في الدنيا المحاربين لله ولرسوله فقد بيَّنها الله تعالى في قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
وإنَّ ما وقع ظهرَ أمس في الرياض من التدمير والقتلِ للأبرياء عملٌ إجراميّ، بلغ الغايةَ في القبح والشناعة، يحاربُه الإسلامُ أشدَّ المحاربة. وهذا العمل الإرهابيّ البغيض حربٌ على الإسلام والمسلمين، يستهدف الدينَ والأمن والاستقرار ومقوّماتِ حياة المواطنين والمقيمين. وهذا العملُ عينُ الفساد والإفساد والغدْر والخيانة.
وهؤلاء المفسدون في الأرض عمِلوا وحقَّقوا ما عجز عنه الشيطان الرجيم، وما عجز عنه أعداء الإسلام، فهل يرضَون لأنفسهم بهذه المنزلةِ الشِّرّيرة؟! ماذا يريد هؤلاء المفسدون في الأرض بهذا الإرهاب؟! أيريدون الدنيا؟! فالتدمير والتخريب والغدْر والخيانة والخوف يفسد الحياة ولا يُبقي منها على شيء. أم يريدون الآخرة؟! فالجنةُ لا تُنال بقتلِ النفس أو بقتل المسلمين أو غير المسلمين المستأمَنين أو بعصيان الله ورسوله أو عصيان وليَّ الأمر، وهذه أعمالٌ من أعمال أهلِ النار، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وقال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وفي الحديث عن النبي : ((من قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة))، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]. أم يريدون الفوضى ونشرَ الرُّعب وقطيعة الآباء والأمَّهات والأرحام والجيران وتخريب الوطن؟! فليذكروا قولَ الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
وإذا كان هؤلاء المفسدون لا يطيقون البلدَ وما فيه من الإسلام والأمن والاستقرار فليذهَبوا إلى أيّ بلدٍ يريدون، ولينظُروا هل سيجدون بلدًا خيرًا من بلدِهم؟! وإذا كان هؤلاء المفسدون في الأرض المنفِّذون لهذه الأعمال الإرهابية المجرمة يتلقَّون أوامرَهم بلا تفكير في العواقِب الوخيمةِ فهل يرضَون لأنفسهم تعطيلَ نعمةِ العقل؟! وإذا كانوا يتلقَّون أوامرَهم من أحدٍ ما فهل هو عندهم مقدَّم على الله ورسوله ثم على ولاة الأمر؟! وإذا كانوا يتلقَّون أوامرَ بوسائط فهل يأمَنون أن تكونَ هذه الوسائط أبالسة شياطين يدفعونهم إلى هاويةِ جهنَّم ويجعلونهم معاوِلَ هَدمٍ لكلّ المقوِّمات في الدين والدنيا؟! بل نجزِم بأنّ وراءَ هذه الأعمالِ القَذِرة أعتى المفسدين وإن قال بلسانه ما يخدع به المغرورين، قال الله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16].
وإذا كان هؤلاء المفسدون ينفردون بتفسير للقرآن الكريم أو تفسيرٍ للحديث النبويّ لم يعلمه الصحابةُ والتابعون، ولم يعلمْه علماء الأمّة إلى هذا الوقت، فليظهَر هؤلاء المفسدون مِن جُحورهم، وليناظروا الراسخين في العلم في أفكارهم النابتةِ في كواليس الظلمات والسِّرِّيات، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما اجتمع قومٌ سرًّا على أمرٍ مِن أمور الدين إلاَّ كانوا على ضلالة".
يا شبابَ الإسلام، أما تتَّعِظون؟! أما تتفكَّرون؟! أما تعتبرون بما حدث لأمَّةِ الإسلام في تاريخها الطويل من رؤوس البِدَع ومن رؤوس أهلِ الفِتَن؟! وهل قُتِل عثمان رضي الله عنه إلا بمثل هذه البِدَع والأفكار؟! وهل حُورب عليّ رضي الله عنه من الخوارج إلاَّ بهذه الطريق؟! وهل استُحِلَّ ما حرَّم الله من المسلمين إلا بالبدع المضلَّة؟!
وما أعظمَ الشريعةَ الإسلامية وأكملَها حيث جعلت الخروجَ على وليّ الأمر محرَّمًا، ففي الحديث: ((من مات وليس في عُنُقه بيعةٌ مات ميتته جاهلية)). وما أعظمها في حثِّها ووصايتها بأن يكون المسلمُ مع الجماعة، فإنَّ يدَ الله مع الجماعة، قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، أستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|