أما بعد: فإن المال لا يطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة لما يضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنه وسيلة، والوسيلة تحمد أو تعاب، بمقدار ما يترتب عليها من نتائج حسنة أو سيئة.
المال كالسلاح، والسلاح في يد المجرم يقتل به الآخرين, ولكنه في يد الجندي قد يدفع به عن وطنه أو يحرس به الأمن في بلده، فليس السلاح محموداً أو معيباً لذاته، والمال كذلك، وقد قال الله تعالى في المال وما يسوق لأصحابه في الدنيا والآخرة من خير أو شر، قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ [الليل:5-11].
والمال كما يكون زينة الحياة ييسر مباهجها، ويقرب شهواتها، فقد يكون كذلك سياج الدين وضمان بقائه، ومدد تسليحه وحماتيه، وقد قال الله في وصف المال والبنين: ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا [الكهف:46]، وقال كذلك في قيمة المال والبنين لإحراز النصر، ورفع الشأن، قال: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6].
فتنتصر الأمم بالمال والبنين، وتنهزم كذلك بالمال والبنين يوم يكون مالها أداة ترف، ويوم يكون مصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون أبناؤها طلاب ملذة، وأحلاس لهو ولعب.
وللإسلام موقف من المال نحب أن نشرحه، فإن بعض المثقفين الجدد يظنون أن الدين تحدث في العقائد أو في العبادات، وأن حدوده شرقاً وغرباً تنتهي بالعقائد والعبادات، أما حديثه عن المال والاقتصاد فإن هذا الحديث مستغرب منه ومستكثر عليه، وما درى أولئك المثقفون الجدد من ضحايا الغزو الثقافي الاستعماري العالمي، ما درى هؤلاء أنهم ينتمون إلى دين ما ترك خيراً إلا أمر به ولا شراً إلا نهى عنه، ولا مصلحة تقرب العباد إلى الله إلا أكدها، ولا مضرة تصرف الناس عن ربهم إلا أبعدها وندد بها وبإرتكابها.
والإسلام ينظر إلى المال من نواح عديدة، والناحية التي نتحدث عنها اليوم نريد أن نتدبرها بأناة لأنها تفرق بينه وبين بعض المذاهب الاقتصادية السائدة في الدنيا.
الإسلام يضمن أو يبيح ويقر حرية التملك، ويعتبر حق التملك حقاً له قداسته ومكانته، ويعتبر أن الجور على هذا الحق أو توهينه في المجتمع ليس من شأن المسلمين، ولا هو من مسالك الأتقياء، لكل إنسان الحق المطلق في أن يكتسب بكد يمينه، وعرق جبينه ما يقيم به معايشه، وما يصون به مروءته، وما يربي به ولده، وما يحفظ به عرضه، لكل إنسان الحق كاملاً في هذا.
والله عز وجل يأبى أي عدوان على حق التملك أو اجتياح لحقوق الناس المالية دون سبب مشروع، فيقول جل شأنه: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ [النساء:29]، ويقول جل شأنه: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
ويقول جل شأنه: وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَـٰماً [النساء:5]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)).
وكما أن العدوان على الدم والعرض منكر لا يقبل، فكذلك العدوان على المال، وفي خطبة الوداع بين النبي عليه الصلاة والسلام ما ينبغي لحقوق الناس المالية من قداسة فقال بعد أن تساءل: أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ قال: ((فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا)).
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقف على ممر الناس إلى طريق الجهاد ويقول: ((أيها الناس من كان يعلم أنه إذا مات في هذا الوجه وعليه دَين لا يدع له قضاء فليرجع فإنه لن يصيب أجراً بجهاده)).
أي أنه يقول للمدين: قبل أن تجاهد سدد الدين الذي عليك، ربما خرجتَ فمتَّ، دون أن تدع تركة تكفي سداد دينك، فتلقى الله وأنت مدين، وهكذا كان المسلمون يحترمون حق التملك.
لكن الإسلام الذي احترم حق التملك أثقله بالقيود، وقبل أن نقول ما هي القيود التي أثقل الإسلام بها حق التملك، أريد أن أشرح شرحاً عقلياً السبب في أن الإسلام احترم الملكية الخاصة، ورفض ما تبنته بعض النظريات القديمة والحديثة من شيوع المال ورفض الملكية الخاصة لأنه يحترم حرية الإنسان، ولما كان حق التملك جزءاً من الحرية الإنسانية فإن الإسلام لم يصادره، والله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان ليكون عبد أحد، وإنما خلقه ليكون عبد ربه وحده جل شأنه، ومن حق الإنسان أن يكون حُراً، ومن تمام حريته أن يمتلك، هذا سبب.
وسبب آخر أن تشمير الأموال وزيادة الإنتاج إنما يكونان بالملكية الخاصة، فإن صاحب المال الذي يعلم أن يده عليه وحقه فيه يسهر على حمايته، ويفتنُّ في إبعاد الآفات عنه، ولكنه يوم يعلم أن هذا المال ليس له، وأن زيادته لن تعود عليه فإنه لا يبالي زاد أم نقص، وإن بالى فإن دوافعه إلى حفظه ستكون أضعف من دوافعه النفسية يوم يكون المال ملكاً له.
وقد ثبت عن طريق التجربة أن المال الخاص أنمى وأقدر على المضي في سلم الترقي والزيادة من أي مال عام!! هذه هي الأسباب، وهناك أسباب أخرى جعلت الإسلام يحترم الملكية الخاصة.
ومع احترام الإسلام للملكية الخاصة فإنه أثقل هذه الملكية بالقيود ولعل أول هذه القيود وأجدرها بأن ينبه إليه أن الإسلام لا يحترم الملك الخاص إلا إذا كان من وجه صحيح ومن طريق مباح.
أما أن يكون التملك من ربا، أو من احتكار، أو من غصب، أو من قمار، أو من احتيال، أو من أي باب من أبواب السُّحت فإن الإسلام يرفض هذا التملك رفضاً باتاً، بل يرى أن المرء إذا كسب ثوباً من حرام فصلى فيه لم تقبل صلاته، وإذا نمى جسمه من سحت فإلى جهنم: ((لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به)).هكذا قال رسول الله .
وفي الأرض الزراعية بالذات يقول: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقه من سبع أرضين)).
أول ما يقيد الإسلام الملكية به أن يقول لك: أبصر جيداً القرش الذي تكسبه أمن حرام هو أم من حلال؟ فإن كان من حرام فلا حق لك فيه، وما يجوز أن تستبقيه، بل يجب أن تتركه فوراً، فإذا كسبت من حلال، فللإسلام هنا توجيهات:
التوجيه الأول: أن لا تظن نفسك المالك الأصيل لهذا المال، بل تشعر أن المالك الأصيل له هو ربك الذي خوّلك وملكك ومنحك وأعطاك!! وأنت لست إلا صاحب يد عارضة عليه، ومن فضل الله عليك أن جعل يدك في هذا المال تعطي نفسك، وتعطي غيرك، والمالك الأول هو رب العالمين.
وهذا المعنى هو الذي أكده القرآن في قوله جل شأنه: وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7].
سئل أعرابي كان في قطيع غنم يملكها ... سئل: لمن هذا القطيع؟ كان جواب الرجل: هو لله عندي!! وهذا جواب سديد، فلا تظن نفسك بالتملك قد أصبحت مالك الملك لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ [الشورى:49].
فاعتبر نفسك مستخلفاً، وهذه النظرية ـ نظرية الاستخلاف ـ تجعلك تدقق فيما تنفقه على نفسك أو على غيرك، أي ليست حريتك مطلقة، فأنت مراقب في تصرفك، مراقب من صاحب المال الذي وظفك فيه، المال مال الله، هذه ملاحظة.
الملاحظة الثانية: أن الإسلام يطلب من أبنائه أن يكونوا أصحاب همم، فكسب المال عندهم يخضع لتصرف الهمة الكبيرة، قد يكون المال قريباً منك، ولكن لا ينبغي أن تأخذه من أيسر سبيل وتقعد.
عندما عرض على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يتملك وأن يعيش على فضل أخيه، كان جواب عبد الرحمن: لا، دلوني على السوق.
وبهذا الخلق استطاع المهاجرون أن يزاحموا الاقتصاد اليهودي في المدينة المنورة، وأن يجعلوا المال إسلامياً، وهذا شيء له خطورته في كسب النصر للدين نفسه، فإن الاقتصاد يوم تعبث به أيدي من لا ملة لهم ولا شرف فإنهم يسخرونه في ضرب الملة السمحة.
ومن هنا اعتبر أن يد المعطي هي اليد العليا، الله هو الأعلى، ويد المعطي يد عليا، والآخذ يده دنيا، ولأن تكون أسداً تأكل الثعالب من فضلاته أشرف من أن تكون ثعلباً تأكل من فضلات الناس.
ولذلك كان الإسلام شديد الحض على أن ينطلق المؤمنون في المشارق والمغارب يكسبون رزقهم، ويطلبون فضل الله في فجاجه المبعثرة هنا وهناك، أو المخبوءة تحت طباق الثرى، وهذا سر قوله جل شأنه: وَلَقَدْ مَكَّنَّـٰكُمْ فِى ٱلأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ [الأعراف:10]، وقوله جل شأنه: هُوَ ٱلَّذِى أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلاعْنَـٰبَ وَمِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرٰتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى ٱلأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:10-14].
والمدهش أن البحر المسخر للناس يستخرجون منه اللحم الطري أعجز أهل الأرض في استخراج سمكه هم المسلمون.
إن أمتنا في الحقيقة معطوبة في صميمها لأنها فقدت الكثير من حسها الدقيق بالدين والدنيا معاً.
احترام الإسلام حق التملك، ييسر للناس أسباب التملك كما سمعتم: هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ ٱلأرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61].
ومع ذلك يجيء من ينتسب إلى العلم الديني، وهو جهول يجب طرده من ميدان العلم والدين معاً، يروي عن رسول الله أنه بعث بخراب الدنيا لا بعمارتها.
وما أكثر الأكاذيب التي تشاع باسم الإسلام، والتي جعلت المسلمين يعيشون في الدنيا على فضلات الأقوياء، وبذلك أصبحت أيديهم الدنيا ... وفي الوقت نفسه أصبح دينهم في المرتبة الدنيا، لأنه ما ينتصر دين بغير دنيا، كيف تنصره إذا كنت فارغ اليد؟ كيف تحميه إذا كنت فقيراً لا ثروة لك؟ كيف ... كيف ..؟
فإذا ملكت من حلال فإن الإسلام يوجب عليك أموراً، أول ما يوجب الإسلام فريضة الزكاة، وهي فريضة ليست هينة، ولو أن المسلمين أخرجوا زكاة أرصدتهم وأموالهم وتتبعوا بها ثغرات المجتمع وعورات الناس لأراحوا الأمة من بلاء كثير.
ولقد حدث أيام الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكان أميراً عادلاً وخليفة راشداً، حدث ببركة العدل، وبركة الإيمان والتراحم أن الزكاة أخرجت في أفريقيا، أي في مصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، ومراكش، خرجت الزكاة فلم يوجد لها من يأخذها في هذه الأقطار الرحبة كلها، لأن الله أغنى الناس بعدل عمر، فماذا صنع عمر؟ أمر بأن يُشترى بالزكاة عبيد ويحررون بمال الزكاة، واعتبر ذلك مصرفاً بنص الآية: وَفِى ٱلرّقَابِ [التوبة:60].
إن الخير الكثير يمكن أن يتحقق إذا وجدت فيه نية التراحم والعطاء، ووُجد القصد الذي يستهدف وجه الله بما يعطي وبما ينفق، وقد قاتل الإسلام من أجل الزكاة، وكان قتاله فيها حاسماً، ولعله أول قتال ظهر في تاريخ البشرية.
كان الناس يتقاتلون لأمور كثيرة، ولكن أول جيش ظهر في تاريخ الإنسانية يحارب ليرغم الأغنياء على إخراج الحق المعلوم للفقراء والمساكين ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قد تكون الزكاة حداً أدنى، فإن المجتمع ربما ظهرت له حاجات، وهنا على الناس أن ينفقوا، وهنا يجيء دور الصدقة، وهو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم الناس في مجتمع المدينة المنورة كيف يتعاونون ويتراحمون: ((من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع بخامس أو سادس)) وفي الحديث أيضاً: ((من كان معه فضل ظهر فليعُد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)) قال أبو سعيد: ((فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في الفضل)).
وفي حديث رواه أبو داود قال رسول الله : ((تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها، يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيراً منه، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله)).
إن النبي عليه الصلاة والسلام طبق على نفسه هذه القضية، فعندما كانوا يسيرون إلى (بدر)، والمسافة بين بدر والمدينة المنورة أكثر من مائة كيلو متر، كانوا يتعاقبون، كل ثلاثة على جمل، وكان الرسول واحداً من ثلاثة فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فخجل من مع رسول الله أن يمشي وهم يركبون، فقالوا: يا رسول الله، اركب أنت ونمشي نحن، فرفض .. وقال: ((ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا أغنى منكما عن الأجر)).
لست بأغنى منكما عن ثواب الله .. الخطوات في سبيل الله لها أجرها، وأنا فقير ـ وهو رسول الله ـ إلى هذا الأجر، هذه هي طبيعة الكبار، طبيعة النفس الكبيرة!!.
وما قرره الإسلام في هذا جاءت به مكارم الأخلاق في بلاد العرب من قديم .. ومما نحفظه من شعر حاتم يقول:
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخهـا فأردفه فإن حملتكمـا فذاك وإن كان العقاب فعاقب
القلوص: الناقة .. وإن كان العقاب فعاقب: أي إن كانت تضعف عن حملكما معاً فتعاقبا عليها .. أي أنت تسير وتعقبه وهو يركب ثم يعقبك .. وهكذا.
ومما يعرف في تاريخنا العربي الأدبي ـ ولكن العصر الحديث لا يعرف هذا ـ أن شاعراً اسمه عروة بن الورد يقول مخاطباً آخر، ويبدو أن الآخر كان بديناً قوياً، يقول:
إني امرؤ عافي إنائـي شركةٌ وأنت امرؤ عافـي إنائـِك واحـدُ
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجــهي شحوب الحق والحقُ جاهد
أقسِّمُ جسمي في جسـوم كثيرة وأحسو قَراح المـاء والماءُ بـاردُ
ومعنى الأبيات الثلاثة يقول الرجل لصاحبه أنت تهزأ بي لأن شحوب الحق أجهدني، والحق قد يجهد أصحابه، إذا كنت تهزأ بي فالسبب واضح، إني امرؤ طبقي شركة بيني وبين غيري، أما أنت فتنفرد بطبقك تأكله وحدك.
هذه المعاني أو هذه الآداب لو كانت في أوربا أو أمريكا لكتبت بماء الذهب كما يقولون.
وقيل: هذا تراثنا من أنضر صور الاشتراكية، وهذه كلمة ضقت بها من كثرة ما لوثت من تطبيقات رديئة، ومما اكتنفها من لصوصيات خبيثة.
إن عندنا في الإسلام نظماً اجتماعية لا نظير لسموها وشرفها، يقول ابن حزم في كتابه (المحلى): "ولكل مسلم الحق في بيت يأوي إليه ويصونه من الحر والبرد وعيون المارة".
لو قال هذه الكلمة كلب من كلاب الشيوعية لطوَّفت الدنيا على أن هذا المبدأ يعطي الناس كراماتهم المادية والأدبية، ويجعل لكل إنسان بيتاً، لكن قائل الكلمة فقيه مسلم مسكين!! فقيه مسلم ليس له أهل .. ليس له ورثة .. ليس له رجال يحتضنون مواريثه!! فقيه مسلم .. هذا عيب الكلمة .. وهكذا الدنيا.
صح ما قيل: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإن أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
إن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد فريد، وليس شيئاً مجلوباً من شرق أو غرب ؛ لأنه ناضح من وحي السماء، ومن كتاب الله وسنة رسوله ، وقد تحدث فقهاؤنا عن التسعير، والمعروف أن الإسلام يعتبر التجارة حرة، ويتدخل في التسعير للضرورة، ولكنه عندما يسعر، وهو دين فقه وتشريع لا أظن أحداً ممن درس الفقه الروماني، أو الفقه الفرنساوي، لا أظن أحداً قرأ أن هناك تسعيراً للخدمات الاجتماعية والأدبية، لكن في كتاب (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) لابن القيم، وجدت تسعير الخدمات، وهو ما يطبق الآن في البلاد الراقية.
ففي انجلترا يُضرِب العمال لأنهم يرون أن جهدهم ينبغي أن يباع لصاحب العمل بجنيه، وصاحب العمل يرى أنه ما يساوي غير نصف جنيه.
فالتسعير للجهد، للمواهب، للنواحي العلمية والفنية، للشهادات والإجازات العلمية، هذا التسعير من تحدث فيه؟
وجدت أن فقهاء المسلمين تحدثوا فيه، ويمكن لأي هيئة قضائية محترمة أن تسعر الجهد المبذول، المواد التي يستهلكها الناس في ضروراتهم.
إن الإسلام دين خصب، وفيه من النصوص في الكتاب والسنة ما يؤسس اقتصاداً له ملاحمه المتميزة، وله آثاره المباركة، وعندما نرفض وصفاً يستجلب من الخارج فنحن إنما نقدم بدله من تراثنا الأصيل ما يغني.
الآفة أن بعض الناس لا يعرف هذا التراث، ولذلك لا يعرف الأصالة لأمتنا، ولذلك هو بجهله حرب عليها، ودققوا النظر فإن بعض الصحف تريد أن تطبق العلمانية، أي مبدأ العيش بلا دين، وهي تسعى إليه بالكلمة بالصورة، بالالتفاف والدوران كي تهيء النفوس لهذا.
ونحن نريد أن نلفت النظر إلى أصالتنا، وإلى أن لدينا من لبنات البناء ما يمكن أن نقيم به مجتمعاً صلباً، واقتصاداً ناجحاً، وليس من الضروري أن نتسول من شرق أو غرب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
|