أما بعد:
فقد كان رسول الله – - يسلك في دعوته الناس أساليب شتى، ومن ذلك ذكر القصص الواقعية الصحيحة، فقد كان رسول الله – - يذكر لأمته من قصص الأمم السابقة ما يكون فيه عبرة لمن يعتبر، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ذلك أن لذكر القصص الواقعية أثرا لا ينكر، وسلطانا بالغا على النفوس.
ونقف – أيها الإخوة في الله – مع قصة من قصص الأمم السابقة قصها علينا رسول الله – -؛ لنعتبر بما فيها، فقد جاء في الصحيحين. عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – - يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا (أي: لا أقدم في الشراب قبلهما أحدا)، فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت ان أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي (أي يصيحون من الجوع)، فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه. فقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج. وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).
عباد الله: تأملوا هذه القصة العظيمة، هؤلاء الثلاثة عرفوا الله في الرخاء فعرفهم الله في الشدة، وهكذا كل من تعرف إلى الله في حال الرخاء واليسر، فإن الله تعالى يعرفه في حال الشدة والضيق والكرب فيلطف به ويعينه وييسر له أموره. قال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا .
فالأول من هؤلاء الثلاثة ضرب مثلا عظيما في البر بوالديه، بقي طوال الليل والإناء على يده لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله، ولا أن ينغص على والديه نومهما حتى طلع الفجر فدل هذا على فضل بر الوالدين، وعلى أنه سبب لتيسير الأمور وتفريج الكروب، وبر الوالدين هو أعظم ما يكون من صلة الرحم وقد قال النبي – -: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)) متفق عليه. وهذا جزاء معجل لصاحبه في الدنيا يبسط له في رزقه ويؤخر له في أجله وعمره، هذا غير الجزاء الأخروي المدخر له في الآخرة، وقد عظم الله تعالى شأن الوالدين حتى أنه سبحانه نهى الابن عن أن يتلفظ عليهما بأدنى كلمة تضجر كما قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا .
وحتى أن الرسول – - جعل صلة الرجل أهل ود أبيه من أبر البر فقد جاء في صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – - قال: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه))، وفي المقابل حذر الإسلام من عقوق الوالدين بل جعل ذلك من أكبر كبائر الذنوب فقد جاء في الصحيحين، عن أبي بكر – - قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا. قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال، ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)). وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة – - قال: قال رسول الله – -: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه. قيل: من يا رسول الله؟! قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما او كليهما ثم لم يدخل الجنة))، قال أهل العلم: وفي الحديث دليل على أن بر الوالدين عند كبرهما وضعفهما بالخدمة أو النفقة أو غير ذلك سبب لدخول الجنة، فمن قصر في ذلك أرغم الله أنفه.
عباد الله: إن بعض الناس لا يبالي بشأن بر والديه بل تجده إما عاقاً لهما في القول أو الفعل أو تجده معرضا عنهما ألا فليعلم أن الإعراض عن الوالدين حتى ولو لم يسئ إليها هو في الحقيقة عقوق لهما.
أخرج الطبراني في المعجم الصغير: (( أن رجلا جاء إلى النبي – - فقال: يا رسول الله! إن أبي أخذ مالي، فقال النبي – -:اذهب فائتني به، فأتاه فنزل جبريل – عليه السلام – على النبي – - فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه، ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ سأله النبي – -: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على عماته أو خالاته أو على نفسي فقال النبي – - دعنا من هذا وأخبرنا عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي قال: قل وأنا أسمع، قال: قلت:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمّل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدا للخلاف كأنه بردّ على أهل الصواب موكل
وحينئذ قال له النبي – -: ((أنت ومالك لأبيك)).
عباد الله: وثاني هؤلاء الثلاثة في القصة رجل ضرب مثلا بالغاً في العفة الكاملة، حين تمكن من حصول مراده من هذه المرأة، التي هي أحب الناس إليه، ولكن عندما ذكرته بالله تركها، وهي أحب الناس إليه، ولم يأخذ شيئا مما أعطاها. جاء في الصحيحين في حديث السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله أن من ضمن هؤلاء السبعة: ((رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)).
ما أعظم الفرق بين هذا وبين من يسافر لبلاد الدعارة والمجون! لأجل ان يزني بالعاهرات المومسات والعياذ بالله، ألا فليعلم أولئك الذين يسافرون لتلك البلاد أن الله – عز وجل – رقيب عليهم، ولا يخفى عليه خافية، فهو مطلع عليهم في هذا البلد، وفي تلك البلاد، وليعلموا بأنهم على خطر عظيم، إن لم يتوبوا إلى الله تعالى، يقول الله – عز وجل -: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما .
ويكفيك قبحا للزنا النظر للعقوبة الشرعية المترتبة عليه في الدنيا، فحد الزاني البكر جلد مائة، وأن يغرّب عن موطنه سنة كاملة، وأما إذا كان محصنا – أي متزوجا – فحده القتل لكن على صفة فظيعة غليظة، وهي: الرجم بالحجارة حتى الموت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات، والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|