أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل جلاله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
يخبرنا تعالى عن صفاتِ المؤمنين، وأنّ المؤمنين إخوةٌ بعضُهم لبعض، فالمؤمن أخٌ لأخيه المؤمن، جمعتهم أخوةُ الإيمان، وحَّدتهم رابطةُ الإسلام، فهم إخوانٌ في الله متحابّون في الله. تلك الأخوّة تدعو ذلك المؤمنَ إلى أن يحبَّ لأخيه ما يحبّه لنفسه، وأن يكره له ما يكرهه لنفسه.
أجل أيها المؤمن، تحبُّ له ما تحبّ لنفسك، فكلّ أمر تحبُّه لنفسك فأنت تحبُّه وترضاه لأخيك المؤمن، وكلُّ أمر تكرهه لنفسك ولا ترضاه لنفسك فأنتَ تكرهه ولا ترضاه لأخيك المؤمن، وفي الحديث عنه قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)).
أيها الإخوة، هذه الأخوّة الصادقةُ تحمِل المؤمنَ إلى أن يعرفَ حقوقَ أخيه المؤمن، ويؤدِّيَ تلك الحقوق طاعةً لله وتقرُّبًا إلى الله، ليس لرجاءِ مصلحةٍ من أحد، ولا خوفًا من أحد، ولكن الذي يميله عليه أخوتُه الإيمانية في ذات الله، فهو يؤدِّي تلك الحقوق طاعةً لله وقربةً يتقرَّب بها إلى الله.
أيّها المؤمن، حقوقُ المسلم عليك عديدةٌ، فالسعيدُ من عرَف تلك الحقوقَ، وأدّاها على الوجه المرضيّ.
فمن أعظم حقوق أخيك المسلم عليك بذلُ النصيحة لهُ، دعوتُه إلى الله، حثُّه على الخير، السعيُ في إصلاح دينه واستقامة أخلاقه ودعوتُه إلى الاستقامة على هذا الطريق المستقيم. فتلك أعظمُ الحقوق؛ أن تنصحَ أخاك في الله نصيحةً تبتغي بها وجهَ الله، تمحضُ النصحَ.
إن رأيتَه مخالفًا للشرع ورأيتَ في أعماله وتصرفاتِه ما يخالف شرعَ الله فتدعوه إلى الخير، وتنصحه وتوجِّهه وتحذِّره من مزالق السوء.
إن رأيته يصحبُ فئةً منحرفة يُخشى عليه من صُحبتها شرٌّ وبلاء فحذِّره من تلك الرفقة السيئة، وبيِّن له عواقبَ رفقة أصحاب السوء وما تؤدِّي صحبتُهم من البلاء والفساد.
إن رأيتَ أخاك المسلمَ يحمل فكرًا منحرِفًا وآراءً خاطئة مجانبة للصواب فليكُن موقفك منه تحذيره من تلك الأفكار السيئة والآراء المنحرفة، وتبيِّن له وجهَ ذلك، وتسوق له الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسوله، وتخاطبه بكلِّ خطابٍ ليِّن؛ لأن قصدَك استنقاذه وتخليصُه من هذه الأفكار المنحرفة والآراء الشاطّة التي تنافي تعاليم الإسلام.
عندما تشعر أن أخاك المؤمنَ عنده تصوّرات خاطئةٌ وآراء غيرُ صحيحة ونظرات لمجتمعه المسلم لا توافق الصوابَ فلا تدَعه يلجّ في طغيانه ويتمادى في انحرافه، خُذ على يديه بنصيحةٍ ودعوة صالحة وحِكمة ورِفق ولين، عسى أن يقتنعَ منك ويتجنّبَ تلك الآراء والأفكارَ الخاطئة التي لا تعود عليه ولا على مجتمعه بالخير.
عندما تشعر أن أخاك المؤمنَ خدعته دعاياتٌ مضلِّلة وأغواه منحرفون وزيّنوا له الباطلَ بما يضرُّ الأمةَ في دينها وأدنياها وبما يجلب عليها البلاءَ والمصائب فليكن موقفك منه موقفَ الناصح الكاشف لتلك الأباطيل الموضِّح له نتائجها السيئة وما يترتَّب عليها من أضرار على الفرد والجماعة.
عندما تشعر أن أخاك المؤمنَ غير مقتنِع ببعض الأشياء أو أن عنده شكًّا في بعض تعاليم الشريعة، قد خدعته الدعاياتُ المضلّلة، فليكن موقفك منه موقفَ الناصح الموجِّه الذي يوضح الحقَّ ويبيّنه، هكذا فليكن المؤمنون فيما بينهم، تناصحٌ وتعاون ودعوةٌ إلى الخير وتحذيرٌ من أسباب البلاء والانحراف.
أيها المسلم، من حقِّ أخيك المسلم عليك أن تمحض له المشورةَ الصادقة عندما يستشيرك ويستنصحك، فأدِّه مشورةً طيبة ونصيحة مباركةً تعتقدُ أنها الحقّ الذي ترضاه لنفسك.
أخي المسلم، من حقِّ أخيك عليك أن تنصُره إذا وقعت عليه مظلمة، فتكون في صفِّه بالدعوة إلى الخير، وتكون في صفِّه بتوجيهه وتعليمه؛ كيف يتخلّص من تلك المظالم، وكيف يعالج القضايا، فتكون معه إلى أن يحقِّق الله له مطلوبَه بالطرق السليمة.
وإن رأيته ظالمًا غاشمًا فكن ناصرًا له بأن تردعَه عن الظلم، وتبيِّن له نتائجَ الظلم الوخيمة في الدنيا والآخرة، حذِّره من مظالم العباد، حذِّره من دعواتِ المظلومين، وأن دعوةَ المظلوم مستجابة، ((واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
أخي المؤمن، عندما تشعر أن أخاك المسلمَ بينه وبين زوجتِه شقاق ونزاع، وأنت قادر على الإصلاح والتوفيق، فتذكر قول الله: وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، فأصلح بين الزوجين، ووفِّق بينهما؛ لتكونَ من المؤمنين حقًّا.
عندما يبلغك فجوةٌ بين الرجل وأبنائه وأمورٌ بينه وبين أبنائه واختلاف بينهم فبادر بنصيحةِ الأبناء، وحُثِّهم على البر والصلة وتحذيرهم من العقوق، ثم قابلِ الأبَ وحُثّه على الخُلُق الطيب والصبر مع الأولاد وعدم إحداث ما يسبِّب الشقاقَ والنزاع، حتى يعينَ أبناءَه على برِّه والإحسان إليه.
أيها المسلم، من حقِّ أخيك المسلم عليك أن لا تكونَ غاشًّا له عندما تبيعه وعندما يشتري منك، فإياك أن تكونَ غاشًّا له ومدلِّسًا عليه وخادعًا له ومُخفيًا عيوبَ السِّلَع، فإنّ النبي يقول: ((من غشَّنا فليس منّا، والكذب والخداع في النار)).
من حقِّ أخيك المسلم عليك أن يَسلَم أخوك من شرِّ لسانك ويدك، فلا يكن لسانُك مغتابًا له ولا ساعيًا بنميمةٍ بينه وبين إخوانه لقصدِ الإفساد، ولا يكن لسانك يرميه بالعظائم ويتَّهمه بما هو براء منه ويقول عليه إثمًا، فحذّره من ذلك وبيّن له قول الله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
من حقِّ أخيك المسلم عليك أن لا ينال بسبب هفواتِ لسانك أن تقول فيه باطلاً، أو تشهدَ عليه زورًا وبهتانًا، أو تنسبَ إليه ما هو براء منه، فهذا من أعظم حقوقه عليك.
ومن حقِّ أخيك عليك أن يسلَم من يدك، فلا تضربه ولا تُتلف مالَه ولا تخُطَّ بقلمك ما فيه ضررٌ وإيذاء له في الحاضر والمستقبل.
من حقِّ أخيك المسلم عليك إن يكن عندك شهادةٌ له هو غافلٌ عنها لا يعلَم بها ويترتَّب على هذه الشهادةِ حفظُ حقوقه المالية فإنَّ الواجب عليك أن تظهرَها ولا تخفيها، وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283].
من حقِّ أخيك عليك عندما ترى وصيَّته التي يريدُ أن يوصيَ بها أو أوقافَه التي يريد أن يوقِفَها، حينما ترى فيها حَيفًا ومخالفةً للصواب وتفضيلاً للبعض على البعض فخُذ على يده ومُره بالعدل في وصيته وعدم مخالفة الشرع، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182].
من حقِّ أخيك المسلم عليك أن تحفظَ ماله عندما يفقدُه وعندما يغيبُ ماله عنه وينساه، والنبي سأله الصحابيّ عن لُقطة الذهب والفضة قال: ((اعرِف عِفاصها ووكاءها، ثم عرِّفها سنة، فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر فهي له، وإلاَّ فهي مال الله يؤتيه من يشاء)). فأمره أن يعرِف وعاءها ويعرِف ما رُبطت به ويحصِي عددها، ثم يعرِّف عليها حولاً كاملاً في مجامِع الناس وفي وسائل الإعلام تعريفًا عن مفقود وعن نقودٍ مفقودة أو حُليّ مفقود، فإن جاء ذلك الإنسان ووصف ذلك المال أو ذلك الحليّ بأوصافٍ تدلّ على صِدقه ومطابقة الواقع فادفعها له، وإن مضى عامٌ ولم يأتِ لها طالب فهو مال الله ملَّكك الله إياه إلى أن يأتيه من يدَّعيه ويبيِّن صفاتِه على الحقيقة. كلُّ هذا من حقِّ المسلم على المسلم.
من حقِّه عليك ـ أخي المسلم ـ أن تبدَأه بالسلام إذا لقيته، فتقول: السلام عليكم، والنبي يقول: ((لا يحلُّ لمسلم أن يهجرُ أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام)).
ومن حقِّه إذا سلَّم عليك أن تردَّ عليه تحيّته، وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]. فإذا قال: السلام عليكم، فقل له: وعليكم السلام، وإن زدته: "ورحمة الله وبركاته" فقد أخذت بالحظ الأوفر.
من حقِّه عليك عيادتُه في مرضه وزيارته أثناءَ مرضه تضميدًا لجراحه ومواساةً له وإكرامًا له ولأهله، فعسى أن ينتفعَ من زيارتك بنصيحةٍ تُسديها إليه، وتذكيرًا له بحقوقٍ للناس غائبة عنه، وتذكيره بالتَّوبة إلى الله والإقلاع والاستغفار، وتذكيره بالوصيَّة العادلةِ التي لا جَور ولا ظلم فيها.
إن هذه الحقوقَ يفرضها عليك إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ونبينا يقول: ((لا يؤمنُ أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبه لنفسه)).
فأحبَّ الخيرَ لأخيك المسلم، واسعَ له في الخير جهدَك، واكره له ما تكرهُ لنفسك، قِف معه في المواقف العصيبة، فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرَّج عن مؤمنٍ كربةً من كُرَب الدنيا فرّج الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|