عباد الله، إنَّ يومكم هذا يوم فضيل وعيد جليل، رفع الله قدرهُ وأظهر، وسمَّاه يوم الحجِّ الأكبر.
في هذا اليوم خطب رسول الله خطبةً جامعة رسم فيها قواعد الدين، وعظَّم فيها حرمة المسلم في دمه وماله وعرضه، وذكَّر فيها بحقوق المرأة ومالها وما عليها وأوصى فيها بالحقِّ والعدل، وشدَّد في الدماء حتَّى قال : ((لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض))، وقال : ((إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))، ثمَّ قال : ((ولقد تركت فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله))، ثمَّ أشهد اللهَ تعالى والمسلمين على أنَّه قد بلَّغ. ونحن نشهد أنَّه ـ بأبي هو وأمِّي ـ قد بلَّغ وأدَّى ونصح.
معاشر المسلمين، في هذا اليوم يجتمع الحجاج بمنى يستكملون مناسكَ الحجِّ، ويتقرَّبون إلى الله عزَّ وجل بالعجِّ والثجِّ، يحيون سنَّة نبيِّ الله إبراهيم بإهراق دماء الهدي والأضاحي في هذا اليوم العظيم.
فلقد ابتلاه ربُّه سبحانه، فأمره بذبح ولده إسماعيل ليُسلم قلبَه لربِّه، ولا يكون فيه شركة لغيره، فإنَّ العباد لهذا خلقوا، وبه أمروا، أن يوحِّدوا الله فلا يعبدون من دونه شيئًا غيره، فامتثل إبراهيم أمر ربِّه طائعا، وخرج بابنه مسرعا، وقال: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]. قال ذلك لا متوقِّفًا ولا متفكِّرًا، فاستسلما للقضاء المحتوم، وسلَّما أمرهما للحيِّ القيوم، فلمَّا تلَّه للجبين، وأهوى إلى حلقه بالسكين، أدركته رحمة أرحم الراحمين: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:104، 105]، وأتي بكبش من الجنَّة فذبحه فداء ولده.
فأحيا نبيُّنا محمَّد هذه السنَّة وعظَّمها، فأهدى في حجَّته مائة بدنة، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله. وضحَّى في المدينة بكبشين أملحين أقرنين، كما رواه مسلم من حديث عائشة.
فبادروا ـ معاشر المسلمين ـ إلى إحياء سنن المصطفَين الأخيار، ولا تكونوا ممَّن بخل وآثر كنز الدرهم والدينار على طاعة الملك الجبَّار العزيز الغفَّار.
فيا معشر من وسَّع الله عليهم، ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فمن كان منكم يحسن الذَّبح فليذبح أضحيته بيده، فإنَّها سنَّة نبيِّكم، كما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك.
ومن كان منكم لا يحسن الذَّبح فأناب غيره فلا حرج عليه، ولكن لا يعطي الجزار من أضحيته شيئًا، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علي بن أبي طالب قال: أمرني رسول الله أن أقوم على بُدَنه وأن أتصدَّق بلحومها وجلودها وحِلالها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئًا. زاد مسلم في روايته: ونحن نعطيه من عندنا.
ويستحبُّ التسمية والتكبير عند ذبحها، فعن أنس بن مالك أنَّ رسول الله ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمَّى وكبَّر ووضع رجله على صفاحهما. رواه البخاري ومسلم.
ويستحبُّ لأهل البيت أن يأكلوا من أضحيتهم، وأن يتصدَّقوا منها، وليس لذلك قدر محدود، كما يجوز لهم أن يدَّخروا منها، فإنَّ حديث النهي عن ادِّخار لحوم الأضاحي قد نسخه أحاديث أخر؛ منها قوله : ((كلوا وادّخروا وتصدَّقوا)) رواه البخاري ومسلم.
وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال: ذبح رسول الله أضحيته يعني بمكَّة ثمَّ قال: ((يا ثوبان، أصلح لي لحم هذه))، فلم أزل أُطعمه منه حتَّى قدم المدينة، وقال جابر: كنَّا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخَّص لنا النبيُّ قال: ((كلوا وتزوَّدوا))، فأكلنا وتزوَّدنا. رواه البخاري ومسلم.
وصلَّى الله على نبيِّه وسلَّم.
|