أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، في شهر ربيع الأول اجتمعت ثلاثة أحداث، وهي مولد النبي ، وهجرته إلى المدينة، ووفاته.
ولا ريب أن كلا منها كان حدثا مهما في حياة المسلمين، لكن بعض المسلمين وللأسف يجعلون حدث المولد أهم الأحداث الثلاثة، بل ويعتبره بعضهم أهم أحداث السيرة النبوية قاطبة.
والحق أن ميلاد النبي حدث مبارك، حيث أشرق النبي على الأرض بمولده، ولكن هذا الحدث ليس له تميز عن سائر ولادات الناس لو لم يبعث ويرسل عليه الصلاة والسلام.
والحدث الأهم من ولادته هو هجرته التي أوجدت لنا المجتمع المسلم والدولة المسلمة التي استمرت قرونا طويلة، وقدمت للإنسانية حضارة فريدة على مر الزمن، ولأهمية هذا الحدث أرخ به عمر بن الخطاب رضي الله عنه والمسلمون بعده التاريخ الإسلامي.
والحدث المهم في سيرة النبي هي وفاته؛ لأن وفاته ليست كوفاة سائر الناس، ولا كسائر الأنبياء، فبموته انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد، في اليوم الثامن من ذي الحجة نزل الحبيب المصطفى بمنى فخطب في مائة وأربعة وأربعين ألفا من المسلمين، في حجة الوداع، قال فيها: ((أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم، وحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون))، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يشير بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد)).
ولما فرغ من خطبته نزل عليه قول الله تعالى: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]. وعندما سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.
ثم خرج ليلة مع غلامه أبي مويهبة إلى البقيع فاستغفر لهم، وقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وخيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة))، فقال أبو مويهبة: بأبي وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: (( لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي عز وجل والجنة)).
وفي يوم الاثنين آخر أيام شهر صفر شهد عليه الصلاة والسلام جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه واشتدت حرارته، فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت: وارأساه! فقال النبي: ((بل أنا وارأساه، وما ضرّك لو مِتِّ قبلي فغسلتُكِ وكفنتُكِ وصليتُ عليكِ ودفنتُكِ))، فقالت: لكأني بك ـ والله ـ لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرسّت فيه ببعض نسائك، فتبسم رسول الله .
وفي يوم الأربعاء ارتفعت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع، ثم أحس بخفة فدخل المسجد وهو معصوب الرأس، حتى جلس على المنبر فخطب الناس فقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وقال: ((لا تتخذوا قبري وثنا يعبد))، ثم قال: ((من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه)). ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، ثم قال: ((إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده))، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
وفي يوم الخميس أوصى عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم.
ومع ما كان عليه من شدة المرض إلا أنه كان يصلي بالناس جميع الصلوات، فصلى بالناس صلاة المغرب من يوم الخميس، وعند العشاء زاد ثقل المرض، فلم يستطع الخروج إلى المسجد.
تقول عائشة رضي الله عنها: فقال النبي : ((أصلّى الناس؟))، قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟))، قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟))، قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام.
وفي يوم الأحد أعتق عليه الصلاة والسلام غلمانه، وتصدّق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وكانت درعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من الشعير.
وفي يوم الاثنين بينما المسلمون في صلاة الفجر وأبو بكر يصلي بهم، فإذا برسول الله يكشف ستر حجرة عائشة فينظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم وضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله ، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
إنها النظرة الأخيرة، نظرة الوداع وهو يبتسم ويضحك رضًا وسرورًا بثبات أصحابه على الحق، إنها البسمة الأخيرة التي لن يراها صحبه وأحباؤه بعدها في الدنيا.
إنها طلة الفراق، فلن ينعموا برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا بعد اليوم أبدًا، نظرة وداع يلقيها رسول الله على أصحابه، نظرة من سيد الخلق أجمعين، وحبيب رب العالمين، نظرة مودع لم يبق من عمره إلا ساعات قليلة، فيودع هذه الدنيا التي ذاق فيها من العذاب ما لم يذقه أحد، وصبر على ذلك.
عباد الله، يا أهل الجهاد والرباط، لقد كان سبب مرض النبي مؤامرة اليهودية حين دست له السُمّ في طعامه الذي دعته إليه، فأكل رسول الله منها، وأكل القوم فقال: ((ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتني أنها مسمومة))، ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وطفق الوجع يشتد عليه ويزيد، وهو يقول لعائشة: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)). والأبهر: عرق في الظهر متصل بالقلب، فإذا انقطع لم تبق معه حياة.
ثم أوصى الناس فقال: ((الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم))، كرر ذلك مرارا.
قال عبد الله بن مسعود: لما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا، فدمعت عيناه.
وبدأ الاحتضار، فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نِعَم الله عليّ أن رسول الله توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته؛ دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله ، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتدّ عليه وقلت: أليِّنه لك، فأشار برأسه أن نعم، فليّنته فاستنّ به كأحسن ما كان مستنا، وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)). وما إن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى))، كررها ثلاثا، ثم مالت يده ولحق بالرفيق الأعلى.
إنا لله وإنا إليه راجعون. مات الشفيق الرحيم بأمته، مات شمس الحياة وبدرها، مات الداعية الناصح، مات صاحب القلب الكبير الذي وسع المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصغير والكبير.
مات من كان للأيتام أبا وللأرامل عونًا وسندًا، مات مَهرَب الفقراء والمساكين وملاذ المعوزين المحتاجين، مات الإمام المجاهد، مات نبي الأمة وقدوة الخلق، مات خير البشر وأحب الخلق إلى الله، مات الذي نعمت برؤياه الأبصار وتشنفت بسماع جميل حديثه الأسماع والآذان.
إنها المصيبة العظيمة، وكل مصيبة دون مصيبتنا بموته تهون، فبموته عليه الصلاة والسلام انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوات، وبموته ظهر الفساد في البر والبحر، وتذكُّر ذلك تسلية وعزاء للمصائب يقول : ((يا أيها الناس، أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)).
نعم أيها الناس، إن تذكُّر النبي وما حل بنا بفقده هو أعظم مصيبة.
فاصبر لكل مصيبة وتجلّد لها واعلم بأن المرء غير مخلّـد
فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد
عباد الله، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة رسوله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|