إنَّ تحريم سبِّ السلطان الفاجر بمنزلة النهي عن سبِّ الشيطان دفعًا لنفخه وشرِّه، لا لحرمة له ولا لكرامة. فكذلك السلطان الجائر لا حرمة له، وقد قال غير واحد من السلف: "لا غيبة لفاسق" روى ذلك ابن أبي الدنيا في الصمت عن إبراهيم النخعي من وجهين.
وإنَّما نهَوا عن سبِّه لما يؤدِّي إليه من الفساد والشرور، وحرمانهم خيره وعدله في الوجوه الأخرى، فإنَّ سبابه مدعاة إلى الزيادة في الطغيان ونقص الخير والعدل.
وقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (ما تلاعن قومٌ قطُّ إلاَّ حقَّ عليهم القول) رواه عبد الرزَّاق والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة والحاكم، وقال أبو إسحاق السبيعي: "ما سبَّ قومٌ أميرهم إلاَّ حرموا خيره" رواه أبو عمرو الداني في الفتن وابن عبد البرّ في التمهيد، وقال أبو مجلز: "سبُّ الإمام الحالقة، لا أقول: حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين" رواه حميد بن زنجويه في الأموال بسند حسن، وقال الوصَّافي: "ذُكر رجلٌ من بني مروان عند أبي جعفر محمَّد بن علي بن الحسن وأنا عنده، فقال: كفَّ عنهم، فوالله لأعمالهم لتسرع فيهم أشدَّ من السيوف المشهرة عليهم" رواه البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح، وقال سهيل بن أبي حزم: سمع محمَّد بن سيرين رجلاً يسبُّ الحجَّاج فقال: "مه أيُّها الرجل! إنَّك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قطُّ أعظمَ عليك من أعظم ذنب عمله الحجَّاج، واعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ حكم عدل، إن أخذ من الحجَّاج لمن ظلمه شيئًا فشيئًا أخذ للحجَّاج ممن ظلمه، فلا تشغلنَّ نفسك بسبِّ أحد" رواه البيهقي في شعب الإيمان، وقال رياح بن عبيدة: كنت قاعدًا عند عمر بن عبد العزيز، فذكر الحجَّاج فشتمته، فقال عمر: "مهلاً يا رياح! إنَّه بلغني أنَّ الرجل يظلم بالمظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم حتَّى يستوفي حقَّه، ويكون للظالم الفضل عليه" رواه ابن المبارك في الزهد، وعن قتادة قال: سبَّ الحجَّاجَ بنَ يوسف رجلٌ عند عمر بن عبد العزيز، فقال عمر: أظلمك بشيء؟ قال: نعم، ظلمني بكذا وكذا، قال عمر: فهلاَّ تركت مظلمتك حتَّى تقدم عليها يوم القيامة وهي وافرة؟! رواه عبد الرزَّاق في المصنَّف.
وقد يحتجُّ بعضهم في هذا المقام بما صحَّحه الحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيِّ قال: ((إذا رأيت أمَّتي تهاب الظالم أن تقول له: إنَّك ظالم فقد تودِّع منهم)) فهذا حديث لا يصحُّ، كما بيَّنه ابن عدي والبيهقي وغيرهما.
وبتقدير صحَّته فلا يتناول السلطان لما ذكر، وللأحاديث الآمرة بالصبر على جوره، وبتقدير تناوله للسلطان فليس في قوله: إنَّك ظالم، ما يدلُّ على مشروعية الإعلان له بذلك جهارًا، ولا أن يقال له ذلك سِبَابًا وتعييرًا، بل غاية ما فيه التصريح بمقتضى حاله من كونه ظالمًا جائرًا. ومع هذه التقادير فالحديث لا يصحُّ كما بيَّنه الحفاظ النحارير.
وأمَّا ما يذكره بعض الناس أنَّ من عادة السلف التعرُّض للأخطار والتصريح بالإنكار، فهذا حيث ينفع ذلك، وحيث كانت الأمراء تقبل منهم وتصغي إليهم، وحيث كانت المصلحة في تقديرهم راجحة، ومع هذا فلم يكونوا ينكرون على أمرائهم بالسبِّ والتعيير.
وعامَّة ما يُروى من الأخبار والحكايات في أنَّهم كانوا يغلظون لهم في الإنكار عليهم فليس بصحيح، وما صحَّ منها فله محامل معروفة، على أنَّ فعل الواحد والاثنين إذا لم يكن هديًا عامًّا للسلف فليس بحجَّة، فكيف إذا كان الهدي العامُّ بخلافه؟!
ثمَّ إنَّه لا يخفى أنَّ الذي يسبُّ السلطان يعرِّض أبويه لأن يسبَّهما السلطان أو أعوانه كما تجري به عادة الفسَّاق عمومًا وذوي السلطان خصوصا، فيكون هو المتسبِّبَ في سبِّ والديه، وقد قال رسول الله : ((إنَّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه))، قيل: كيف يسب والديه؟! قال: ((يسبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبُّ أباه...)) الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وثبت عن النبيِّ أنَّه قال: ((ليس المؤمن باللعان ولا بالطعَّان)) أخرجه الترمذي وأحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح وله شواهد، وقال : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وهذا يعمُّ كلَّ مسلم تقيًّا كان أو فاسقًا، برّا أو فاجرا، من أهل السنة أو من أهل البدع، طالما أنَّهم كلُّهم يشملهم لفظ المسلم، ولا دليل على الاستثناء.
فإذا كان سباب السلطان المسلم فسوقًا فكيف يكون مباحًا؟! بل كيف يكون مندوبًا إليه؟!
ثمَّ الذين غلطوا فوقعوا في شيء من ذلك قد تابوا وندموا وتبرَّموا مما فعلوا، والآثار في ذلك يطول ذكرها.
وحسبكم منها ما جاء عن أبي معبد عبد الله بن عكيم قال: لن أعين على دم خليفة بعد عثمان أبدًا، فقيل له: يا أبا معبد، أعنت على دمه؟! قال: إنِّي أعدُّ ذكر مساوئه عونًا على دمه. رواه الدولابي في الكنى.
وهذا مثل ما كان يحكيه لكم قديمًا بعض الوعاظ أنَّ عمر بن الخطاب خطب فقال: لئن ملت فعدِّلوني، فقالوا له: لو ملت عدَّلناك بحدِّ سيوفنا... ونحو هذا من الحكايات، وهي حكايات باطلة، لا وجود لها في كتب الإسلام بإسناد مقبول.
فلمَّا امتنعت الأمراء عن الإصغاء إلى الناصحين، ورُفعت العصيُّ والسيوف على من يحاول التصدِّي لهم بالإنكار عليهم، امتنع السلف بعد ذلك من الدخول عليهم، لكي لا يضطرُّوا إلى الإنكار عليهم وتكذيبهم.
قال ابن عبد البرّ: "وأمَّا مناصحة ولاة الأمر فلم يختلف العلماء في وجوبها، إذا كان السلطان يسمعها ويقبلها، ولمَّـا رأى العلماء أنَّهم لا يقبلون نصيحًا ولا يريدون مـن جلسائهم إلاَّ ما وافق هواهم زاد البعد عنهم والفرار منهم"، وقال ابن مفلح: "فأمَّا ما جرى للسلف من التعرُّض لأمرائهم فإنَّهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا احتملوهم على الأغلب".
وعن هذيل بن شرحبيل قال: خطبهم معاوية فقال: يا أيُّها الناس، وهل كان أحد أحقَّ بهذا الأمر منِّي؟! قال: وابن عمر جالس، قال: فقال ابن عمر: هممت أن أقول: أحقُّ بهذا الأمر منك من ضربك وأباك على الإسلام، ثمَّ خفت أن تكون كلمتي فسادًا، وذكرت ما أعدَّ الله في الجنان، فهوَّن عليَّ ما أقول. رواه ابن أبي شيبة.
وعن طاوس قال: أتى رجل ابن عبَّاس فقال: ألا أقدم على هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: لا، يكون لك فتنة... رواه عبد الرزَّاق وابن أبي شيبة والبيهقي بسند صحيح، وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبَّاس: آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خفت أن يقتلك فلا، ثمَّ عدت الثالثة فقال لي مثل ذلك، وقال: إن كنت لا بدَّ فاعلاً ففيما بينك وبينه.
وقيل لداود الطائي: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ قال: أخاف عليه السوط، قال: إنَّه يقوى، قال: أخاف عليه السيف، قال: إنَّه يقوى، قال: أخاف عليه الداء الدّفين من العجب. رواه أبو نعيم.
فالسلطان الممتنع من الإصغاء إلى النصيحة، الحامل سوطه وسيفه على من ينكر عليه، قد سقط وجوب الإنكار عليه، بل يحرم إن كان يؤول إلى نشر الفتنة والفساد. ومن قوي على الإنكار فالأدب أن يخلو به ويكلِّمه فيما بينه وبينه سرًّا، بلطف ورفق ولين، ولا يخشِّن ولا يعيِّر ولا يسبُّ ولا يُعلن له بالنكير جهارا. بهذا جاءت السنَّة، وهكذا كانت أحوال السلف مع أمرائهم.
قال ابن القيِّم: "من دقيق الفطنة أنَّك لا تردُّ على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ وذلك خطأ ثان، ولكن تلطَّف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره".
عباد الله، هذه هي طريقة الإسلام وسعة الدين في نقد الولاة ونحوهم من الكبراء وذوي الهيئات من الوجهاء، لا كتلك الطرق الوافدة علينا من الأمَّة الغضبية الملعونة، أمة المغضوب عليهم من اليهود، ومن الأمَّة الضالة أمَّة النصارى الضالين.
وأنتم تلاحظون هذا الفرق الكبير بين طريقة الإسلام في التعبير عن السخط وعدم الرضا، وفي أسلوب النقد وكيفية توجيهه، وبين طريقة الغرب الجفاة التي قلَّدهم فيها أذنابهم من المتعاطين للصحافة والإعلام، وكذا أرباب الأحزاب السياسية وجماهيرهم التي يسوقونها كما تساق البعير، ليملأوا بها الشارع ضجيجًا وصخبا.
فالحمد لله على سماحة الإسلام وسعة الدين ويسره، والحمد لله على رحمته بعباده وعلى رفقه بهم ولطفه وتيسيره. ما جعل علينا في الدين من حرج، فتضيقَ قلوبنا، وإنَّما تضيق قلوب المجادلين بالباطل، الذين ضاقت عليهم سبل الهدى، فلا تنطلق ألسنتهم إلاَّ بالسباب والقذف والأذى.
أقول ما تسمعون والله يغفر لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم.
|