في خضم ما نعيشه من أحداث وما يمر بنا من فواجع، وما أصيبت به الأمة من ويلات، وما نراه من تسلط الأعداء، وما نلاحظه من تسارعِ الحوادث وتغيرٍ في الأمور، انتصاراتٌ تعقبها هزائم، وأفراحٌ تتلوها أتراح، وفتنٌ متنوعة أصبح الحليمُ فيها حيرانًا، يبقى الإنسان متلهفًا للخبر، متابعًا للحدث، باحثًا عن الحقيقة، يقلب القنوات ويتتبع الإذاعات، ويلهث خلف الجرائد والمجلات.
ولكنه ينسى أمرًا عظيمًا وسياجًا واقيًا ودرعًا حصينًا أرشد إليه المصطفى و باشره، إذا ادلهمت الخطوب واشتدت الكروب وكثر القتل وعظمت الفتن فزِع إليه ففرج الله همه ونفس كربه، وهزم عدوه وأعلى كلمته، أتدرون ما هو؟ إنه العبادة على اختلاف أنواعها وأوقاتها وتفاوت أفضالها وأزمانها.
العبادة ـ عباد الله ـ حصن الله الأعظم، من دخله كان من الآمنين، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوفُ في حقه أمانًا، ومن عصاه انقلبت مآمنهُ مخاوف، فلا تجد العاصي إلا وكأن قلبَه بين جناحي طائر، إن حركت الريحُ البابَ قال جاء الطلب، وإن سمع وقع قدمٍ خاف أن يكونَ نذيرًا بالعطب، يحسب كلَّ صيحةٍ عليه، وكلَّ مكروهٍ قاصدًا إليه.
أيها المسلمون، ما أحوجنا اليوم للعبادة، لكي نتمثل قولَه كما في صحيح مسلم من حديث معقلِ بن يسار رضي الله عنه: ((العبادةُ في الهرج كهجرةٍ إليّ))، أتدرون ما الهرج؟ قال : ((يتقاربُ الزمان، ويقبضُ العلم، وتظهرُ الفتن، ويلقى الشح، ويكثرُ الهرج))، قالوا: ما الهرج يا رسول الله؟ قال: ((الهرج القتل)).
قال النووي رحمة الله: "المراد بالهرج: الفتنةُ واختلاطُ أمورِ الناس، وسببُ كثرةِ فضلِ العبادة فيه أن الناسَ يغفُلون عنها، ويشتغلون بغيرها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد".
عباد الله، ولقد أرشد الله إلى أمرين عظيمين، يستعان بهما في السراء والضراء، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45].
فأمر بالصلاة لمدافعة الفتن، كما في حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي ليلةً فزِعا يقول: ((سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل الله من الفتن؟ من يوقظ صواحبَ الحجرات ـ يعني زوجاتِه ـ لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا، عارية في الآخرة)).
أيها المسلمون، أرأيتم إذا غارت الآبار وقلت الأمطار وذبلت الأزهار فإلى أين تفزعون؟! أليس إلى الصلاة؟!
أريتم إذا كسفت الشمس وخسف القمر وعظم الخطب وحل الخوف فإلى أين تفرون؟! أليس إلى الصلاة؟!
قال : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا انكسفت فافزعوا إلى الصلاة)).
وتأملوا قول علي رضي الله عنه: لقد رأيتُنا ليلة بدر، وما فينا إلا نائم غيرَ رسول الله ، يصلي ويدعو حتى أصبح. ويقول حذيفة: رجعت إلى النبي ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
عباد الله، يزداد فضل الصلاة ويتأكد إبان حلول الفتن ونزول الكوارث والمحن، لما في ذلك من جمع الشتات ولمّ الشعث، والبعد عن التفرق والنزاع.
فعن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمامُ عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمامُ فتنةٍ ونتحرج، فقال: (الصلاةُ أحسنُ ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الأثر الحضُّ على شهود الجماعة، ولا سيما في زمن الفتنة، لئلا يزداد تفرقُ الكلمة".
وصلاة الليل على وجه الخصوص لها آثارٌ عظيمة وفوائدُ جليلة على المتمسك بها، فزمن الفتن يضطرب الناسُ ويموجون، فيحتاج المسلمَ إلى صلةٍ بالله قوية، تؤنسُ نفسه وتقوي روحه وتثبت قدمه وتشرح صدره وتهدئ من روعه، فلا يموج حين الفتن كما يموج الناس، ولا ينزلق كما ينزلقون ولا يضطرب كما يضطربون؛ لأنه موقن بأن العاقبة للمتقين.
|