أمّا بعد: فيا إخوةَ الإيمان في كلّ مكان، أيّها المسلمون في أمّ القرى بلدِ الله الحرام، حجّاجَ بيت الله الحرام، خيرُ ما يوصَى به الأنام تقوَى الله الملكِ القدوس السلام، فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ في السِّرِّ والإعلان، وزكّوا بواطنَكم من الأوضار والأدران. اتَّقوا الله في الغيبِ والشهادةِ تحوزوا والحسنى وزيادة، وتحقِّقوا السعادةَ والسيادة والقيادة والريادة، يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ [الأنفال:29].
معاشرَ المسلمين، أيّها الحجّاجُ الميامين، ها قد أنعم الله عليكم ببلوغ هذا اليومِ المبارَك الأزهر، وشهدتُم بفضله ومنِّه يومَ الحجّ الأكبر والمنسكِ الأشهَر، منسكٍ لا تُحصى فضائله ولا تُستَقصى نوائلُه، يوم عيد الأضحى المبارك، يجود فيه الباري جلّ وعلا بمغفرةِ الزلاّت وسَتر العيوب والسيّئات وإقالةِ العثرات وإغاثةِ اللّهفات ورفع الدرجات وإجابة الدعوات وقَبول التوبات. طوبى لكم ـ أيها الحجاج ـ ثم طوبى على ما تنعمون به من غامِرِ الرَّوحانياتِ وسابغ الإيمانيات، دموعُكم لرضوان الله مطَّردة، والضُّلوع منكم بالأشواق متَّقِدة، كيف وقد عانيتُم في عرفةَ من الإجلال والمهابةِ والخشوع والخضوع والدّموع والإنابة ما يكاد يذهب بالمُهَج ويأخذ بالألباب.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا.
عبادَ الله، من الشعائر العظمَى التي يتقرّب بها المسلمون إلى ربِّهم في هذا اليوم الأغرّ ـ يستوي فيها الحجّاج والمقيمون ـ شعيرة ذبح الأضاحي، اقتداءً بخليل الله إبراهيم ونبيِّ الله وحبيبه محمّد عليهما الصلاة والسلام، يقول تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـٰدَيْنَـٰهُ أَن يٰإِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:103-107]. وخُلِّدت بذلك سنّةُ النّحر في عيد الأضحى لتبقى شامةً غرّاءَ على عظيم الاستسلام والإيمان، وآيةً كبرى في الإذعان لأوامِر الواحِد الديّان، ولتبقى حادثةَ الفداء أيضًا عبرةً وعنوانًا لتربية الأبناءِ في طاعةِ وبرِّ الآباء، لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ [الحج:37]، أي: ينالُه طاعتُكم وما وقر في قلوبكم من خشيته وتعظيم أمره.
أيّها المسلمون، أيّها المضحّون، ويحسُن التذكيرُ في هذا المقام بجُملةٍ من أحكام وسُنَن الأضحية، فقد أجمع أهلُ العلم على أنّ الأضحيةَ لا يجوز ذبحُها قبلَ وقتِ صلاةِ عيد يوم النّحر لما ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ أوّلَ ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، ومن نحر قبلَ الصلاة فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النسُكِ في شيء)) أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له، وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: صلّى النبيّ يومَ النحر ثم خطب ثم ذبح وقال: ((من ذبح قبل أن يصلّي فليذبح أخرى مكانَها، ومن لم يذبح فليذبَح بسم الله)) أخرجه الشيخان.
وينتهي وقتُ ذبح الأضحية بغروب شمسِ اليوم الثالث من أيّام التشريق لقوله عليه الصلاة والسلام: ((وكلّ أيام التشريق ذبحٌ)) أخرجه الإمام أحمد وغيره.
ولا يجوز التضحيةُ بالمعِيبة عيوبًا بيّنة، لما ورد عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّنُ عوَرها، والمريضة البيّن مرضُها، والعرجاء البيِّن ظلعُها، والكبيرة التي لا تُنقي)) أخرجه أحمد وأهل السنن.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ويُعتبَر في سِنّ الهدي والأضحية السنُّ المعتبَر شرعًا، وهو في الإبل خمسُ سنين، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الغنم نصفُ سنة.
وتُجزئ الشاة الواحدة عن الرجُل وأهلِ بيته، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
ومن سُنَن الأضحية أن يتولّى المضحِّي الذبحَ بنفسه لمن كان يُحسنُه؛ لأنَّ النبيَّ نحر ثلاثًا وستين بدنةً بيده الشريفة، ثم أعطى عليًّا رضي الله عنه فنحَر ما غبر، كما جاء ذلك في صحيح الخبر. وقد ضحّى النبي بكبشين أملحَين أقرنين، ذبحهما بيده وسمّى وكبّر.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ومِن السنّة ـ يا عبادَ الله ـ أن لا يُعطَى جازرها أجرَتَه منها.
ومن السنّة أن يأكلَ منها ثُلثًا، ويهدي ثلثًا، ويتصدّق بثلث، لقول الله عز وجل: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَـٰهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا.
أمّةَ الإسلام، حجَّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما هداكم للإسلام، فلقد كان الناسُ قبل انبلاج فجرِ الإسلام ببعثةِ خير الأنام عليه الصلاة والسلام في جهالةٍ حالِكة وضلالات هالكة، يئدون البنات، ويعبدون الحجارةَ كاللاّت والعزى ومناة، يتطيّرون ويتكهّنون، ويتعلّقون بالأوهامِ والخرافات، ويأتون الفواحشَ والمحرّمات، كانوا في ظلامٍ بهيم دامسٍ وكُفرٍ لحقيقةِ الحياة طامِس، إلى أن أضاءَ الكون بشمس الرسالة المحمّدية على صاحبها أزكى صلاة وأفضل سلام وتحيّة، فأخرجَتِ الناسَ من الظلمات إلى النور، وانتشلتهم من جَور الأديان إلى عدل ورحمةِ الإسلام، كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
وكان أساسُ الأسُس وأصلُ الأصول في دعوتِه عليه الصلاة والسلام وركيزة مرتكزاتها ورُكن أركانها الدعوة إلى توحيد الله عزّ وجلّ وإفراده بالعبادة ونبذ كلّ ما سواه، تحقيقًا لقوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
ولهذا المقصد الأجلّ ـ يا عبادَ الله ـ أرسِلت الرسل وأُنزلت الكتب، يقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، ويحذّر سبحانه خاتمَ أنبيائه من معرّة الشرك بقوله: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [الزمر:65]. ويدلّ ذلك أجلى دلالة على خطورة الشرك على الملّة والأمّة ووجوب الحذر من شَوب التوحيد بما ينقضه أو ينقصُه، يقول الحقّ تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، وفي التنديدِ والتشنيع على من حادّ الله بالإشراك به يقول تعالى: قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [الإسراء:56].
إنّ التوحيدَ الخالصَ لله هو الذي أطلَق العقولَ من أغلال الخرافة، وحرّرها من قيود الذلّ إلا لله والاستعانة إلا بالله، وإنّ العقيدة الصحيحةَ الخالصة من كلّ شوبٍ وكدر هي التي خرّجت أجيالاً من الأمّة غيّرت مجرى التأريخ، ولألأت وجهَ العالم، وتألّقت بها أبهى وأزهى حضارةٍ عرفتها البشريّة، وبها قُهِرت الشدائد العاتية والجيوشُ الغاشمة ضدّ الملّة والإنسانية، وهي بلا مِراء أساس القوّة والعِزّة التي يجب أن يستعصمَ بها كلّ مسلم صادقِ الإيمان في كلّ زمان ومكان.
فلِواحدٍ كن واحدًا في واحدي أعني سـبيلَ الحقّ والإيمـان
إخوةَ العقيدة، وما يبدئ الموحّد الغيورُ ويعيد في قضيّة العقيدة والتوحيد إلا لأنّه حقّ الله على العبيد، وما كان حقًّا لله جل وعلا طاب ذكرُه في الأفواه وحلا، حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام، ومن المهمّات التي يجب أن يتوارَد عليها المسلمون في موسِم حجّهم المبارك ما تميّزت به الشريعة الغرّاء من منهج الوسطيّة والاعتدال في كلّ أبوابها ومقاصدها، فهي وسطٌ في العقيدة، وسَط في العبادات، وَسطٌ في المعاملات، وسطٌ في كلّ شيء، وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، فلا إعناتَ ولا غلوّ، ولا مشقّة ولا حرَج، ولا تنطُّعَ ولا شطَط، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. ومن قواعدِنا الفقهية المشهورة: اليُسر ورفعُ الحرج، والمشقّة تجلب التيسير.
ولما انحرف فئامٌ من المسلمين عن منهاج الوسطيّة والاعتدال ظهرت فتنةٌ فاقِرة يقاسي المسلمون جرّاءها الكروب والمحن، فتنة زلّت فيها أقدامٌ وضلّت فيها أفهام، ألا وهي فتنة التكفير ـ أجارنا الله وإياكم ـ الدّاعية إلى الخروجِ على ولاة أمر المسلمين وإثارةِ القلاقل وزعزعة أمنِ الأمّة وشَرخِ صفّ جماعتها، وأسبابُ ضلال هذه النابتة فهمٌ منحرِف آحاديّ لنصوص الكتاب والسنة، ولله درّ الإمام العلاّمة ابن القيم حيث يقول:
ولهم نصوصٌ قصّروا في فهمها فأُتوا من التّقصير في العِرْفان
ضاربين صَفحًا عن فهم الصحابة الأبرارِ الذين شاهدوا التنزيلَ وأدركوا التأويل، مطَّرحين أقوالَ السلف الأخيار وأئمّة التفسير والفقه واللّغة، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ [البقرة:13].
إنّ الذين يؤلّبون المسلمين على وُلاة أمرهم ابتغاءَ الفتنةِ والفوضَى ويسعَون في الأرض فسادًا وتدميرًا وإرهابًا وإرعابًا وتفجيرًا واستحلالاً للدّماء المعصومة من المسلمين والمعاهَدين والمستأمَنين باسم الإسلام ودعوى الإصلاح بإفكِهم لَمَا هم عليه من أبطَل الباطل، وأشدِّه تنكُّبًا عن دين الإسلام الأبلج، وأعمقِه مخالفةً لدعوة رسول الهدى وسواءِ المنهج، يقول تعالى: مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. الله أكبر، أيّ وعيد وتهديدٍ أبلغُ وأزجر من هذا؟! ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من قتل معاهَدًا لم يَرح رائحةَ الجنة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) أخرجه البخاري. وهل يعني الولاءُ والبراء ـ يا عبادَ الله ـ اتخاذَ المستأمَنين والمعاهَدين والذمّيين غرضًا للقتل والترويع وسفكِ الدماء وتناثُر الأشلاء؟! يقول جلّ شأنه: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ [المائدة:2]، ويقول سبحانه: لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. والآية دليلٌ على سماحةِ الإسلام ويُسره واعتداله وموقفِه المنصفِ من المخالفين.
أمةَ الإسلام، إنّ قضيّة التكفيرِ الخطيرة ناجمةٌ عن انحرافٍ وغلوّ، وقد نُهينا عن الغلوّ في الدين لأنّه سبب هلاكِ الأوّلين: يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقّ [المائدة:77]. والغلوّ مذموم في جانب الوجود والعدم والفِعل والترك، كما أنّ الإرهابَ مذموم في الأسباب والبواعث والمقدّمات والنتائج والأفعال وردود الأفعال، إضافةً إلى أنّ امتطاءَ صَهوةِ التكفير يبعثُ عليها جهلٌ مركَّب في فهم مسائلَ من الدين كالولاء والبراءِ والجهاد والحدودِ والدماء، وقد بلغت حدًّا يوجِب التصدّي له من قِبَل أهل العِلم بالحجّة والبيان والدليل والبرهان، حراسةً لشبابِ الأمّة الغضّ من الهُويّ في عينِها الحَمِئة والتمرُّغِ في أوحَالها النّتِنة، يقول : ((من رمى أخاه بالكفر أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قال لأخيه: يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما)) عياذًا بالله، خرّجه مسلم في صحيحه.
إنَّ على وسائل الإعلام المرئيّة والمسمُوعة والمقروءَة، وعلماءِ الشريعَة الموقِّعين عن ربّ العالمين المؤتمَنين على ميراث النبوّة، والدعاةِ ورجالِ الحِسبة، أن يربطوا المسلمين وفِتيانهم بمنهاج الوسطيّة السلفيَة المعتدِلة التي جاءت بها شريعَة الإسلام، ودلّت عليها نصوصُ الكتابِ والسنّة بفهمِ سلَف الأمّة، وتمثّلتها مهبِط الوحي ومنبع الرسالة، فكان أن سَطع بأساطينِ قيادتها نورُ الإيمان، وعمّ الأمنُ والأمان، وغدَت ثغرًا باسمًا في وجهِ الزمان، فضلاً من الله ومَنًّا، لا باكتسابٍ مِنّا، وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ [الأعراف:58].
إنَّ أمنَ بلاد الحرمين الشريفين قضيةٌ لا تقبَل المساومات ولا تخضع للمزايدات، ولا تهزّها الزوبعات والمهاترات، وقد بسط الله فيها أمنَه وأمانَه إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، لا مكانَ فيها للعُنف والتخريبِ والإفساد والتأليب، وإن رغِمَت أنوفٌ من أناس فقل: يا ربّ، لا تُرغم سِواها.
أمّةَ الدعوة والإصلاح، ومن القضايا التي يجب أن تتواصى بها الأمّةُ وتحدِّدَ أصولَها وضَوابطها وتتَّخذها عنوانَ حِرصٍ للترابُط وتجاوز العقَبات والتحدّيات الدعوةُ للإصلاح الذي هو وجهٌ من وجوه حكمةِ بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يقول تعالى على لسان شعيب عليه السلام: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلَـٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
والذين يتوجَّهون شطرَ الإصلاح المعتَبر ويحملون لواءَه لهم رجالٌ بَررَةٌ بالأمّة، يُسلِمونها إلى ساحاتِ الخير والقوّة، ولا يقودُ هذه الركابَ إلاّ كبيرُ الهمّة مَضّاء العزيمة، وسيكون الإصلاحُ مربحًا ومغنَمًا إذا انطلقنا فيه من إصلاحِ الذات والنظر في عيوبها وتهذيبها وأطرِها على سُنَن الهُدى، وأتبعنا ذلك بإصلاحِ الأسرةِ ولبناتها لأنها نواة المجتمع، وسيكون الإصلاحُ للعَلياء مرقاةً إذا بسطنا ظلالَه على المجتمَع والأمّة بما تقتضيه الحكمة والمصلحةُ من التدرّج والرفق ولأناة ومراعاة فقه المهمّات والأولويات.
ولمّا كانت الأهواءُ تجمح والمدارِك تختلِف وتتفاوَت كان لِزامًا اعتبارُ صلاح المصلِح وصفاءِ منهجه واستقامة آرائه؛ إذ لا يشفَع في هذه الأمانة الجُلَّى سلامةُ النيّة وحبُّ الخير ـ على أنهما محمدتان ـ مع ضحالةِ العلم وقصورِ النظر وضَعف الترجيح بين المفاسد والمصالح والخلطِ بين الثوابت والمتغيّرات. وبهذا تتفتّق أكمامُ الإصلاح على قول الحق سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
ويؤكَّد هنا ـ يا رعاكم الله ـ على التحذير من الجانب المزعوم للإصلاح الذي يركَب مطيتَه بُعض المزايدين على الشريعة وذوي المغامرات الطائشَة والأطروحات المثيرة المتَّسِمة بالمخالفات الشهيرة واللاهثين وراءَ ركوب موجةِ حُبّ الشُهرة والظهور، وقد أوضحَ لنا القرآن الكريم ذلك غايةَ الإيضاح في جانب قومٍ لا خلاقَ لهم من المنافقين بقوله سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أمّة الإسلام الخيِّرة، أيّتها الوفودُ المباركة، تعيشون هذه الأيامَ وعلى ثرى البلد الأمين الأفيَح سرورَ العيد وأُنسَ التعارُف والتآلف، وتنعَمون بنسائِمِ الرحمة والأخوّة الإسلامية الحانية، في هذه المواكبِ المهيبة الفريدة، ولكنّنا نذكّر في غمرَة الأسى بأنّ أمّتنا الإسلاميّة لا تزال تتجرّع المآسيَ والحسرات وتتلقّى الويلات والنكبات، القوارعُ تنوشُها من كلّ حدَبٍ وصَوب، والخطوب تؤمُّها من كلّ مضيق وطريق، تبدّدَت قواها، وانقصمت عُراها، وحيثما أجلتَ النظرَ أدمَت عينيك وقرّحت فؤادَك توازعُ الأشلاء ونزيف الدماء واغتصابُ الأرض والعِرض، والعدوّ المتربِّصُ يجدّ في خنق أنفاسِها وتجاهُل قضاياها، ولا مخلِّصَ لها من هذا الذلِّ والهوان إلا الاعتصامُ بالوحيين وأن تتنادَى وتتواصى بالوحدة الإسلامية المسيكة على مَرِّ الفُرصِ والمناسبات، تحقيقًا لقولِه سبحانه: إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وأن لا تربطَ ولاءاتِها وتوجُّهاتها إلا لعقيدتها ودينها وثوابتها، وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
وفي هذا الموسمِ الكريم ملتقَى العالم الإسلاميّ من أطراف البقاع والأسقاع يجب على الأمّة أن يمتدَّ بصرُها لتعيَ جيِّدًا موقعَها من ركاب العلياء والقيادة، ولتعلم أنَّ مسؤوليّاتٍ جسامًا تنتظرها، كفاؤها الصبرُ والعِزّة، في ابتدارٍ لأسباب النصرةِ ووسائل الظَّفر مهما كانت قوّةُ العدوّ قاهرة، لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى ٱلأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ [النور:57]، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [التوبة:32].
أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، إنّه لا سبيلَ للغاية المنشودةِ من القوّة والعزّةِ والوحدَة وحماية الديار والذّمار ودَحر المعتدين على كلّ أرضٍ مسلِمة إلاّ بالأوبةِ العمليّة الصادقة إلى الوحيين واتخاذهما شِرعةً ومنهاجًا. وإنّنا في حاجة ملحّة إلى أن نتمثَّل ذلك كلٌّ بحسَب ثغرِه من الأمانة والمسؤوليّة على كلّ صعيد؛ سياسيًّا وثقافيًّا، فكريًّا واقتصاديًّا، اجتماعيًّا وإعلاميًّا وتربويًّا، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام، وكُبرى القضايا المعاصِرة التي أشخصتِ الأبصار وفرتِ الأكبادَ وأذاقت الغيورَ اللوعةَ والسُّهاد قضيةُ فلسطين المحتلَّة السليبةِ والمسجد الأقصى الجريح المعَنَّى، فلسطينُ المسلمة تُسام العذاب والدون، والأقصى الملَوَّع يقاسي مرائرَ العدوانِ والهون، فليت شِعري كيف تطيب الحياةُ وأرضُنا المقدّسة مسرى إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام في قبضةِ شِرذمةٍ من الصهاينة الغاشمين، يُلطِّخونها بأرجاسِهم وأنجاسِهم، ويثبِّتون فيها أقدامَهم، ويحشُدون قواهم، ويضاعفون خُططَهم ومآربهم عبرَ توسُّعاتٍ جغرافيّة ومستوطنات عدوانية وجدرانٍ فاصلةٍ عنصريّة، ومضاعفةٍ لترسانة الأسلحة النووية التي تمثِّل خطورةً بالغة على الأمن والسلام في المنطقة على سمع العالم ومرآه، بل إنهم يسومون إخوانَنا هناك القصفَ والخسف والمذابِح والمجازرَ والتدمير والتشريد والإرهاب بكلّ ما يحمله هذا المصطلحُ من معاني الظّلم والغِلظة والقسوَة والعنجهيّة، وأليّة بفاطِر الأرض والسماء لا حنثَ يعروها، لو أنَّ الظلمَ والإرهابَ والصَّلَف والقِحة والإرعاب صُوِّرت مخلوقًا لما تخطّى تلك الطُّغمةَ الباغية من الصهاينة المعتدين الغاشمين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وتستحكِم بنا حلقاتُ المحن، ويبسط الأعداءُ أيديَهم بالسوء، وتُرزَأ الأمّة في جزء آخرَ من أجزاء جسدها المثخَن بالجراح، يتمثَّل ذلك في بلادِ الرافدَين مهدِ العلماء وموئِل الخلافة الإسلاميّة حِقبةً من الزمان، وتعيش تلك الرّقعة الهضيمةُ حياةَ النّهب والسّلب والفوضى، حتى أمسَى العَمارُ فيها دمارًا وتبارا، وأسرع الغاصِب إلى خيراتها وتبارَى، وغدا الاستقرار فوضىً وبوارًا، وإلى الله وحدَه نجأر بالبثِّ والشَّكوى، والدعوةُ موجَّهة إلى العالم بأسرِه للإسهام في إعمارِ العراقِ العريق ودَعم شعبِه المسلِم والحِفاظ على وَحدتِه، والدعاءُ مبذولٌ أن يهيِّئ الله لإخوانِنا في بلادِ الرافدَين ولايةً تحكمُهم بالكتابِ والسنّة، وتؤمِّن بإذنِ الله سُبُلهم، وتحقِّق أمنَهم، وتوحِّد صفوفَهم، وترعى مقدَّراتهم، وتحافظ على خيراتهم.
فيا مَن تشهدون هذه العبادةَ العظيمة، يا مَن تتصعَّد مِن أحنائكم الزَّفرات وتلجؤون إلى الرحمن بأحرِّ الدعوات وتسكبون العَبَرات الذارفات، اذكُروا إخوانًا لكم مفزَّعين ملتاعِين في فلسطين وفي بلادِ الرافدَين وفي كلّ مكان، ادعوا الله أن يكشفَ عنهم الهمومَ والغموم، وأن ينصرَهم على كلّ باغٍ ظلوم ومعتدٍ غشوم، عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً [النساء:84].
بهذه المكائدِ الزُّيوف برح الخفاء، وبانتِ الدعاوى الجوفاء، وأيقن الغيورون على أوضاعِ أمّتهم أنَّ الهيئات العالميةَ التي تتعلَّل فيما يَمسّ قضايا المسلمين بالعُلالاتِ الواهية لن تجمعَ متفرِّقًا، ولن تكُفَّ معتدِيًا غاشمًا، وأنَّ المنظّمات الدولية التي تماطل قضايانا لن تؤمِّن خائفًا، ولن تنصُر مظلومًا، مما يؤكِّد الحاجةَ لمتابعةِ الدعوة إلى إنشاءِ محكمة عدلٍ إسلاميّة عالميّة، حتى لا تختلّ الموازين التي ينبغِي أن تحكمَ التعامُل بين الشعوب والأمَم.
إنّه لن يصلحَ حالُنا إلاّ باتحادِنا وتآلفنا وتوجُّهنا شطرَ الكتاب والسنة، وإن دهاقنةَ السياسة العالمية ووسائل الإسلام الغربية مطالبة أن تفهمَ الإسلامَ على حقيقته، وأن تحذرَ من ربطِ الإرهاب بالإسلام دينِ الحقّ والخير والعدل والسلام، وأن تحذرَ من إلصاقِ تهمة الإرهاب بالمسلمين.
لقد آن الأوانُ لكي تخرجَ الأمّةُ من نفَق التحدّيات وبُؤَر العقبات والأزمات، أن تضطلعَ بمشروعٍ إسلاميّ حضاريٍّ يضع الخطَطَ والبرامِج والاستراتيجيات المهمّة والآلياتِ العمليّة والخطُوات التنفيذيّة الجادّة لكافّة قضايا أمّتنا والمستجدّات والتحدّيات السياسية والاقتصادية والثقافيّة والفكرية والأمنية والتربويّة والإعلامية، ووضعِ برامجَ توعويّة بشتَّى اللغات تعالجُ الجهلَ بقواعدِ الاعتدالِ والوسطيّة والتخلُّص من الآراء الآحادية والاجتهاداتِ الفرديّة والفتاوَى التحريضيّة التي تنطلِق مِن كهوفٍ ومَغارات، ويبثُّها مجاهيلُ نكِرات، لا سيّما في القضايا المصيريّة، وذلك بوضعِ ميثاقٍ علميّ عالمي عالٍ للإفتاء، يحقِّق المرجعيّة المعتبَرة للفتوَى في النوازل والمستجدّات المعاصِرة، تحقيقًا للمصالح وتكمِيلها، ودرءًا للمفاسد وتقليلها، وإنَّ من فضل الله وكريم ألطافه أن ضمنَ المستقبلَ المشرِقَ لهذه الأمّة، فلا مكانَ لليأس والقنوط، ولا مجالَ للتخاذل والإحباط، بل جدٌّ وعمل وتفاؤل وانطلاق واستشرافٌ لآفاق مستقبلٍ أفضل، صلاحًا وإصلاحًا، ولن يصلُح أمرُ آخر هذه الأمّة إلا بما صلح به أوّلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ [النور:55].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
نسأل الله أن يُصلحَ أحوالَ المسلمين في كلّ مكان، وأن يهيّئ لهم من أمرهم رشَدًا بمنّه وكرمه، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.
|