أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله حقَّ التقوى.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصيّة الله للأوّلين والآخرين، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ [النساء:131].
اتّقوا ربَّكم ـ عبادَ الله ـ تقوًى تستقيمون عليها إلى أن توافوه جلّ جلاله، ذاك عنوانُ الخير والهدى، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
اتّقوا الله في أقوالكم، فالمتقون يقولون الحقَّ والسداد، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:70، 71].
اتقوا الله في أعمالكم، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
اتّقوا الله في سرِّكم ونجواكم، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلْبِرّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9].
اتّقوا الله في عباداتكم، فالمتّقون هم العابدون لله، يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
اتّقوا الله في معاملاتكم، فلتكن على وفق شرع الله، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [البقرة:278].
اتّقوا الله في أولادكم، فعلى الخير ربّوهم، وبالتوجيهِ الإسلاميّ وجّهوهم، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ [التحريم:6].
أمّة الإسلام، يقول الله جلّ وعلا: إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
سأل سفيان بن عبد الله الثّقفي النبيَّ قائلاً: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)).
عبدَ الله، إنّ السعادةَ في الدنيا وإنّ النجاةَ في الآخرة إنما هي بالإيمان بالله والاستقامة على طاعة الرحمن، حقّق إيمانك بالله في ربوبيتِه ووحدانيته وأسمائه وصفاته. حقِّق إيمانَك بالله، آمِن بربّك الذي خلقك والذي أحياك ثم يميتك ثم يحييك، والذي رزقُك بيده، مدبّر الكون، لا خالقَ غيره ولا ربَّ سواه. مَن تلك أفعالُه فهو المستحقُّ أن يُعبَد دون سواه، ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ ٱلْبَـٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ [الحج:62].
آمِن بأسماء الله وصفاتِه وأنّ لله أسماءَ حُسنى وصفاتٍ عُلا، أمِرَّها كما جاءت معتقِدًا حقيقةَ معناها على ما يليق بجلال الله، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ [الشورى:11].
آمِن بملائكةِ الله، عبادٌ مكرمون، لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
آمِن بكتُب الله التي أنزلها لهدايةِ البشر، وهي حقٌّ وكلُّها حقّ، فنؤمن بما سمّى الله لنا في كتابه، نؤمن بصحُف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى ابن مريم.
آمِن بكتابِ الله القرآنِ الكريم الذي أنزله الله ليكون خاتمةَ كتبه جلّ وعلا، أنزله مهيمنًا على ما سواه، مصدِّقًا للحقّ، مبطِلاً للباطل، أنزله على عبده ورسوله محمّد، وسمعه جبريل من ربّ العالمين، وبلّغه جبريل رسولَ ربّ العالمين، وتلقّاه الصحابة عن رسول ربّ العالمين، وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ [الشعراء:192-195]. محفوظٌ بحفظ الله له، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ [الحجر:9]. الإيمان به والعملُ به سببُ السعادة في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه سببُ ا لشقاء في الدنيا والآخرة، فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ [طه:123، 124].
آمِن برسُل الله الذين أرسلَهم الله ليبلِّغوا العبادَ رسالاتِ الله، ويقيموا عليهم حجّةَ الله، رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ [النساء:165]. متفاوتون في الفضل، وأولو العزم أفضلهم، وسيّد الأولين والآخرين أفضلُ الجميع، ((أنا سيّدُ ولد آدم ولا فخر)).
آمِن باليوم الآخر ممّا أخبر الله مِن مفارقة الروح للجسد حتى يستقرّ أهل النار في النار وأهلُ الجنة في الجنة.
الزم فرائضَ الإسلام، أدِّ الصلواتِ الخمس كما أمرك بذلك ربُّك، فهي عنوانُ التزامِ الإسلام، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترَك الصلاة. حافِظ عليها رحمك الله، فإنها عمودُ الإسلام والركنُ الثاني من أركانه، وقد أطلق النبيّ وصفَ الكفر على تاركها: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).
أدّ زكاة مالك، وصُم شهرَ رمضان، وحُجّ البيتَ، تلك أركانُ الإسلام متى ما حافظتَ عليها سهُل عليك ما بعدها.
برَّ بالوالدين، صِل الأرحام، أحسنِ الجوار، مُر بالمعروف وانهَ عن المنكر على قدر علمك وقدرتك، اصدق إخوانَك في القول، وانصَح لهم في القول، واحذر الغشَّ والخيانة في كلِّ الأحوال، وكن مسلمًا موقِنًا، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم.
أيها المسلمون، هذا دينكم دينُ الإسلام، دين العبادة والمعاملة، دين العقيدةِ والشريعة، دينٌ شامل لخيرَي الدنيا والآخرة، دين صالح لكلّ زمان ومكان، دينٌ جمع الله فيه الخير كلَّه ورفع به الآصار والأغلال، دينٌ أكمله الله وأتمّهُ ورضيَ به لنا دينًا، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [آل عمران:85].
أمّةَ الإسلام، إنّ كلَّ منتمٍ لهذه الشريعة فهو يسعى دائمًا وجاهدًا في إعزاز هذا الدين وإعلاء شأنه، ولكن يا أخي المسلم، متى تكون خادمًا لدينك؟ نعم، تكون خادمًا لدينك، بعملك وتعليمك، بدعوتِك إلى الله على علمٍ وبصيرة، بسلوكك منهجَ من سلفَك من صالح الأمة في عباداتهم ومعاملاتهم، باستقامتك على هذا الدين، باستفادتك من [مكتشفات] العصر فيما يكون سببًا لخدمة دينك وإعلاءِ شأنه. تكون خادمًا لدينك في كلّ ميادين الحياة بطبّك بهندستك بزراعتك بمهنتك، تكون خادمًا لهذا الدين في كلّ ميادين الحياة، نافِس أعداءَك الذين سخّروا كلّ إمكانياتهم وكلَّ تواجُدهم وكلّ علومهم للدّعوة إلى باطلهم، فأنت على الحقّ فكن ثابتًا على الحقّ، استشعِر مسؤوليتَك أيّها المسلم، واعرف موقعَك في حياتك لتؤدّيَ الواجب الذي عليك.
أخي المسلم، هل يكون خادمًا لدينه من يطعن في أمّته ويخوّن حملةَ هذا الدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؟! أيكون خادمًا لدينه من يدلّ على عوراتِ المسلمين؟! أيكون خادمًا لدينه من يسعى في زعزعةِ أمنِ الأمّة والإخلال بأمنها؟! أيكون خادمًا لدينه من يصمّ أذنيه عن سماع الحقّ؟! أيكون خادمًا لدينه من يتّهم علماءه ووُلاتَه ويصفهم بالخيانة؟! أيكون خادمًا لدينه من يزعم قصور هذه ا لشريعة وعجزها عن مواكبة الحياة؟! كلاّ ليس هذا خدمةً للدين، ولكنه البلاء والعياذ بالله.
إخوتي المسلمين، يا مَن جعلتَ الجهادَ لك شعارًا والتكفيرَ لك مطيّة، هل سألتَ نفسك يومًا: هل من الجهاد في سبيل الله سفكُ دماء المسلمين؟! هل من الجهاد في سبيل الله استحلال دماء المستأمَنين؟! هل من الجهاد في سبيل الله تدميرُ ممتلكات المسلمين؟! هل من الجهاد في سبيل الله تسليط الأعداء على المسلمين ليتّخذوا ذريعةً في بلاد الإسلام؟!
أيّها المسلم، كُن فطِنا واعيًا، وإياك أن تكون عاطفيًا حماسيًّا، كن مسلمًا راشدًا، وإياك أن تكون ثوريًّا مندفعًا.
أخي المسلم، إن الجهادَ في سبيل الله ليس في الدماء والقتل، وليس تشفِّيًا وانتقامًا، هو عبادة لله وشعيرة من شعائر الدين، شُرع للدفاع عن أوطان المسلمين، ليكون وسيلةً في إبلاغ هذا الدين والدعوة إليه وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، لمقاومة من يصدُّ وصولَ هذا النور إلى فِطر العالم، فهو دين الله تقبَلُه الفطر السليمة، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].
يا مَن أحببتَ الجهادَ ورفعتَ شعارَه، إنّ الإسلامَ لم [يقصِد] سفكَ الدماء، هو يسعى في حقنِها ما وجد لذلك سبيلا، وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا [الأنفال:61].
يا مَن رفعتَ شعار الجهاد وأحببته، أسألك حقًّا: هل جاهدتَ نفسَك بتعلُّم العلم والعمل به؟! هل جاهدتَ نفسك في اتباع الكتابِ والسنة؟! هل جاهدتَ نفسك في قبول الكتاب والسنة وإن خالفا رأيك وهواك؟! هل جاهدتَ نفسك في قبول قول الله: وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقّ [الإسراء:33]، وقوله : ((لزوال الدنيا بأسرِها أهون على الله من قتل المسلم))؟! هل جاهدتَ نفسك ـ أخي المسلم ـ في قبول قول النبي : ((من قتل نفسَه بشيء عُذِّب به يومَ القيامة))؟! هل جاهدتَ نفسك ـ أخي ـ في قَبول قول الله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]؟! هل جاهدتَ نفسَك ـ أخي ـ في قبول قول الله: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقوله : ((من خرج عن الطاعة وفارقَ الجماعةَ فمات فميتةٌ جاهلية، ومن قاتل تحتَ راية عمِّيَّة يغضب لعصبية ويهوَى عصبية ويدعو إلى عصبية فقُتل فقِتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برّها وفاجرها ولا تحاشى لمؤمنها ولا يوفي لذي عهدٍ عهدَه فليس مني ولستُ منه))؟!
أخي المسلم، إنَّ مفهومَ الجهاد عظيم، ليس قاصرًا في صنفٍ معيّن، بل هو جهاد على اختلاف أنواعه، فالدعوةُ إلى الله والإصلاح بين المسلمين والقيام بالواجبات كلّ ذلك من أنواع الجهاد. هل جاهدتَ نفسَك ـ أخي ـ في الخوفِ من قول النبيّ: ((من قال لأخيه: يا كافر إلا وباء به أحدهما))، ((ومن دعا رجلا بالكفر أو قال: يا عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه))؟! قِف مع هذه النصوص، وإيّاك ومجاوزتَها، وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:115].
أمةَ الإسلام، لقد مرّ بالعالم صنوفٌ من البلايا وأنواع من المصائب، تدمِّر الحرثَ والنسلَ، اصطُلح عليها بالإرهاب، ومقصودهم التعدّي على النفوس والتعدّي على الممتلكات، وآن للمسلم أن يصدعَ بالحقّ ويظهر الحقَّ ويبيّن موقفَ الإسلام من ذلك، وآن للعالم أن يصغيَ إلى أهل الإسلام بعدما أسكتهم دهرًا، ولينصفهم بعدما ظلمهم وأساءَ إليهم في دينهم وكتابهم ونبيِّهم وقبلتهم، ألا فليعلم العالم أجمع أنّ ديننا دين الإسلام دينُ الرحمةِ والخير ودين العدلِ والهدى، دينٌ يحرّم الظلمَ بشتَّى صُوَره، في الحديث القدسي عن ربّنا جلّ وعلا: ((يا عبادي، إني حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا))، وحرّم سفكَ الدماء بغير حقّ: وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ [الأنعام:151]. حرّم الغدرَ والخيانة، في الحديث: ((يُنصَب لكل غادر لواء غدرِه عند استِه، يقال يومَ القيامة: هذه غدرة فلان بن فلان)). أوجب الوفاءَ بالعهود، وعصم دم المعاهدين: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ [المائدة:1]، في الحديث: ((من قتل معاهَدًا لم يرح رائحةَ الجنة)). حرّم الفساد في الأرض بكلّ أنواعه، فحرّم اختطافَ الطائرات والسفنِ والمراكب ووسائل النقل، وحرّم أيضًا الإخلالَ بالأمن مهما كانت صوره، وحرّم بثّ الفساد ونشرَ المخدِّرات وما يسوء الأمّةَ في دينها ودنياها، يقول الله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ [المائدة:33]. حرّم السعيَ في قلب أنظمةِ الحكم الشرعية القائمة، في الحديث: ((من جاءكم وأمركم جميعٌ يريد أن يشقَّ عصاكم ويفرّق كلمتكم فاقتلوه كائنًا من كان)). أبَعدَ هذا يُوصَف دينُنا بالإرهاب؟!
لا بدّ من وقفةٍ صادقة تراجعون بها أنفسَكم وتعودون بها إلى أفكاركم وعقولكم، ولا يكن عليكم وصاية حتى تعلموا موقفَ الإسلام من تلك البلايا التي نٌسِبت إليه والإسلام منها براء.
أمةَ الإسلام، العدلُ خيرٌ كلُّه، أساسُ السعادة والرقيّ، أساس الرقيّ في الدنيا والسعادة في الآخرة للمسلمين، وأساس السعادة والهناء في الدنيا حتى لغير المسلمين، أمر الله بالعدل ونهى عن الظلم: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى [النحل:90]. على العدل قامت الممالك، وبالعدلِ دامت. الأمّة الإسلاميّة بالعدل قامت دولتُها، فعدَلوا في توحيد الله وإخلاص الدين له، وقبلوا شرعَه، وعدلوا في رعاياهم فحكموا بينهم بالعدل، وعدلوا في عير أهل دينهم فعاشوا في ظلِّ دولتهم معصومي الدم والمال، في عيشةٍ هنيئة، هكذا عدلُ الإسلام لأن الله يقول لنبيه: وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ [الأنبياء:107].
صُنّاعَ القرار في العالم، رجالَ السياسة والفكر، أيها المنصفون، أيها العقلاء، أخاطِب كلَّ ذي عقلٍ يحكمهُ عقله، وكلَّ منصفٍ لا يرضى بالتجنّي، أُخاطب فيكم ضمائركم وحبَّكم للعدل وكراهيتكم للظلم مهما كان مصدره، أسائلكم والله شهيدٌ عليّ وعليكم، أسائلكم والتاريخ شاهد بمواقفكم ممّن بعدكم، أسائلكم: هل مِن العقل أن نؤاخِذ أمّةً بآراء خصومها وأعدائها؟! هل من الإنصاف أن نحكم على أمّة بجريرة شذّاذِ أبنائها؟! أليس من [قلّة] العقل والسفه أن نتجاهل أمّةً لها كيانُها، لها أصولها، لها جذورُها، حكّامُها قائمون، علماؤها متواجدون، كتبُها ناطقةٌ بما تحمله من فكرٍ ورأي سليم سديد، أن نأخذَ ذلك من الجاهلين بها أو من الحاقدين عليها أو من أناسٍ لا يعرفون حقيقتَها.
إنّ قومًا شنّوا الغارةَ على ما يسمّى بالوهّابية، ومرادهم بذلك القدحُ في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. شنّوا الغارةَ عليها، وصفوها بالإرهاب، وصفوها بسَفك الدماء، وصفوها بالتشدّد، وصفوها بالاعتداء على العالمين، كبُرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذبا. أعانهم على ذلك بعضٌ من أبناء جِلدتنا، قلّت ديانتهم، فخانوا أمانتَهم، وقالوا الباطل.
أيّها العقلاء، أيّها الأحرار، إنَّ الشيخ محمدَ بن عبد الوهّاب رجلٌ أحبَّ اللهَ ورسوله، قرأ كتابَ الله وكلام رسوله فآمن بهما، عاش في واقعٍ مرير، تسلّط فيه الطغيانُ وقهر القويّ الضعيف، عاش في مجتمعِ جهل وقتلٍ وسلبٍ وتفرُّق، فلم يرضَ بهذا الواقع، ونهض بمسؤوليّته آخذًا بميثاق ربّه، فدعا إلى الله، دعا إلى عبادة الله وإخلاص الدين له، عاش في مجتمعٍ تعلّقوا بالقبور والأشجار والأحجار، دعاهم إلى عبادةِ الله، دعاهم إلى اتّباع الكتاب والسنّة، دعاهم إلى العدلِ والاجتماع والبُعد عن السّلب والنّهب والإفساد، دعاهم إلى حياةٍ دينيّة مدنيّة، سار على ذلك أتباعُه، وعلى هذا حكومات هذه البلاد وملوكُها، قامت هذه الدولة العزيزة على هذا الدين مبدأً، ولن تزالَ عليه إن شاء الله ثابتةً عليه، مستقيمة عليه، لأنّه كتاب الله وسنة محمّد ، وهذه دولةُ الإسلام سائرةٌ في منهجها وأحكامها على هذا المنهاج المستقيم. ثبّتنا الله وإياهم على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أيها المسلمون، اتقوا الله في أحوالكم كلِّها.
قادةَ العالم الإسلاميّ، تعلمون ما ابتُليت به الأمّةُ من البلايا والمصائب نتيجةً لتفرّقها وبُعدها عن دينها، أدعوكم جميعًا إلى وَحدة إسلامية، أساسُها توحيدُ الله، ومنهجُها شريعة الإسلام، ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأَمْرِ [الجاثية:18]: كتابُ الله وسنّة رسوله ، إلى اتحادٍ إسلامي في سياستكم وأمنِكم واقتصادكم، أظهِروا للملأ كيف تصلح الدنيا إذا سِيسَت بالدين، وكيف يعلو الاقتصادُ إذا سِيس بشرع ربِّ العالمين، وكيف تنتظِم الحياة إذا طُبِّقت أحكام شريعة الإسلام وحُكِمت بالعدل، فشريعة الإسلام تثبِّت العدلَ في الأحوال كلِّها.
شبابَ الإسلام، أنتم عدّة الأمّة وأملُها بعد الله، أوصيكم بتقوى الله، عليكم بالحِلم والأناة، ابتعِدوا عن الطَّيش والعَجَلة، أدّوا فرائضَ الإسلام وابتعِدوا عن نواهيه، أطيعوا ولاةَ أمركم، والزموا علماءكم، وجالسوا عقلاءَكم وكبراءكم، واحذروا الاعتدادَ بالآراء.
شبابَ الإسلام، احذَروا الآراءَ الوافِدة والأفكار البعيدةَ عن الدّين مهما كانت شعاراتها، لا تكونوا عونًا [على] أمّتكم، ولا تكونوا عالةً عليهم، تجلبون لهم البلاء. تفقّهوا في دينكم، وزِنوا كلَّ كلام يُقال لكم، ولا يثِقوا ببعض المتعالمين، زِنوا الأقوالَ والآراء بميزان الكتابِ والسنّة، ولا تحملنَّكم العواطفُ على أن تقبلوا ما قد عسى أن يكون شرًّا لكم.
علماءَ الإسلام، إنّكم ورثةُ الأنبياء، والأمّة محتاجةٌ إليكم وإلى عِلمكم، أمّتُكم تعيش في ظلامٍ من الجهل والضعف، لا يرفعُه إلاّ العلم النافع، فخُذوا بزِمام الأمور، وقودوا الأمّةَ إلى كلّ خير.
علماءَ الأمّة، تعصِف بالعالم ريحٌ عاصفةٌ ما بين غلوٍّ وجفاء، وكلُّها بعيدة عن الهُدى وعن صراط الله المستقيم، غلا قومٌ في دين الله، فأضلّوا عبادَ الله، استغلّوا حماسَ شبابنا وغضاضةَ قلوبهم، فربّوهم على التكفير والتفجير وكراهيةِ علماء الأمّة وكراهية ولاتها، وربَّوهم أيضًا على عدم المبالاة بديار الإسلام. وجفا قومٌ فطعنوا في شرع الله، وزعَموا عدمَ قُدرة الدين على إدارة الأمّة، وقالوا قولتهم الخبيثةَ: دَعوا الدينَ حتى تصلحَ الدنيا. وكلّ هؤلاء على خطأ.
فيا علماءَ المسلمين، أوضِحوا شرعَ الله، وبيِّنوا حدودَ الله وحَقَّ الله الواجبَ عليكم، بيِّنوا لهؤلاء حرمةَ الدّماء وأنّ حرمتَها عظيمة، بيّنوا لهم حقوقَ بلاد الإسلام عليكم، وأنه لا يجوز للمسلم أن يسعى في الطّعن في بلاد الإسلام، فلبلاد الإسلام حقّ الحياطةِ والعناية والدفاع عنها بكلِّ ممكن؛ لأنّ بلادَ الإسلام أمانة في أعناق الأمّة.
رجالَ التّربية والتعليم، عقولُ أبنائنا بين أيدِيكم، أنتم مربّو الأجيال، أنتم المسئولون عنهم، حصِّنوهم بالشريعة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، احذَروا أن تتعرّضوا لثوابت الدّين في مناهج المسلمين، وطوّروا مناهجَ الدنيا والتقنية بكلّ وسيلة لتنفعوا بها أمَّتكم، وصِلوا حاضرَ الأمّة بماضيها، واربطوا حاضرها بماضيها، فشبابُنا بحاجةٍ إلى أن نصِله بماضيه؛ بأخلاقِه بقيَمة بدينه بسلوكه بعبادته بكلّ مُمكن، حتى يرتبط الحاضر بالماضي، فلن يُصلِح آخرَ هذه الأمّة إلا ما أصلح أوّلَها.
أختي المسلمة العزيزة، لقد عاشت أخواتٌ لك في الجاهلية؛ تُقتل المرأة في مهدِها، وإن أمسِكت أُمسكت على خزيٍ وهوان، فجاء الإسلامُ فأعزّ المرأةَ، ورفع من شأنها، كانت ممتهَنةً مبتذَلة، فرعاها حقَّ الرعاية، وخلَّصها من ظلمِ الجاهلية، وجعلها الزوجة الراعيةَ والأمّ الشفيقة، طهّرها وأعزَّها وسمِع صوتها وأنزلها المنزلةَ اللائقةَ بها، ولكن الأعداء يريدون غيرَ ذلك، يريدون منكِ ـ أيتها المسلمة ـ أن تكوني ألعوبةً بأيدي الرجال، يريدونك فاكهةً في مجالسهم، ولذّةً في أنديتِهم. اتّقي الله، كيفَ أنتِ وقد ذهب دينُك وسُلِب حياؤك وانتُهك عِرضِك وانتُقِص دينك؟! فاتّقي الله، وتأسَّي بمن مضى مِن سلف صالحات هذه الأمّة، والله يقول لأزواج نبيّه: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعًا فَٱسْـئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ [الأحزاب:53].
دعاةَ الإسلام، أدعوكم إلى التعاونِ والتكامُل فيما بينكم، ادعُوا إلى الله على علمٍ وبصيرة، اسلُكوا منهجَ محمّد في دعوته، قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى [يوسف:108]. الدعوةُ إلى الله خيرٌ كلُّها، الدعوةُ إلى الله إصلاحٌ للبلاد والعباد، الدعوةُ إلى الله إظهارٌ لمحاسن الإسلام، فالدعوة إلى الله في عالمنا كلِّه كلُّها خير لمن تأمَّل، فمكاتبُ الدعوة إلى الله والدعاةُ إلى الله لم يقولوا شرًّا، وإنما هم دعاةُ خير ودعاةُ أمنٍ ودعاةُ سلامٍ ودعاة للإصلاح والتوجيه.
فيا أمّةَ الإسلام، أصلِحوا بين الناس، فالإصلاح بين المسلمين خلقٌ كريم، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1]. أصلِحوا بين الناس إذا تنازعوا، وقرّبوا بينهم إذا تباعدوا، واقصدوا بذلك وجهَ الله، لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ [النساء:114].
حجّاجَ بيت الله الحرام، الآنَ وقد طويتُم البحارَ والقفار وأطَلتم الأسفار، فها أنتم قد بلغتُم مرادَكم، نعمةٌ من الله عليكم لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس. وصَلتم إلى هذا البلد الحرام في الشهر الحرام مرتدين الإحرام، فلكم حرمةُ الزمان والمكان وحرمةُ الإحرام. اعرِفوا لهذا البلد فضلَه، واعرفوا له مكانته، وعظّموا حرماته، ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30]. احرِصوا على أمنه، وإياكم والإلحادَ فيه وزعزعةَ أمنه، فإن ذلك من الصدِّ عن سبيل الله.
حجّاجَ بيت الله الحرام، لكم في هذه البلاد أخوانٌ لكم في الدين يسهَرون الليالي في سبيل حُسن استقبالكم وتنظيمِ سيركم في تنقّلاتكم كلِّها، فلهم عليكم حقٌّ أن تدعوا الله لهم، وأن تلتزِموا الأنظمَةَ المرعية التي هي سببٌ لانتظام سيركم.
حجّاجَ بيت الله الحرام، هذا يومُ عرفة الذي يقول فيه محمّد : ((الحجّ عرفة)). هذا اليوم من وقفه كان مدرِكًا للحجّ. هذا اليوم الذي من طلوعِ شمسه إلى طلوع فجر يومِ العاشر، فمَن أدرك عرفةَ في هذا الوقتِ فقد تمّ حجّه، قال : ((الحجّ عرفة، من أدرك جمعًا قبل صلاة الفجر فقد أدرك)).
أيّها المسلم، هذا يومٌ من أيام الله العظيمة، ويوم من الأيّام المباركة.
وقفتَ ـ أيها المسلم ـ بصعيد عرفات، أوصيك ونفسي بتقوى الله في هذا اليوم، أكثِر فيه من التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل، استغفر الله من خطاياك وزلَلك، ارفَع أكفَّ الضراعة إلى ذي الجلال والإكرام. هذا يومٌ يباهي الله بكم ـ حجّاجَ بيته الحرام ـ ملائكتَه: انظروا إلى عبادي، أتَوني شُعثًا غُبرًا، أشهِدكم أني قد غفرتُ لهم، ما من يومٍ أكثر من أن يُعتق الله فيه عبيدًا من النار [من يوم عرفة].
أتى نبيُّكم هذا الموقفَ، فوقف بنمِرة، ثم دفع إلى عُرنَة فخطب بها الناس خطبةً عظيمة نافعة وجيزة، بيّن فيها حرمةَ الدماء والأموال، وألغى فيها مآثر الجاهلية ورباها ودماءَها، وأخبرهم أنه تاركٌ فيهم ما إن تمسّكوا به لن يضلّوا: كتاب الله.
صلّى بهم الظهرَ والعصر جمعًا وقصرًا تقديمًا، أمر المؤذّن فأذّن فأقام فصلّى الظهر، ثم أقام فصلّى العصر، ثم أتى عرفة، فكان واقفًا على راحلته، مستقبلَ القبلة، يدعو ربَّه ويتضرّع بين يديه رافعًا يديه خاضعًا مستكينًا خاشعًا راجيًا، صلوات الله وسلامه عليه. سقط خطامُ ناقته من إحدى يديه فأخذه باليد الأخرى، ويدٌ رافعَها يدعو الله ويرجوه.
أفطر في ذلك اليوم ليبيِّن أنَّ الفطر للحاجّ أولى من الصيام، بُعِث إليه بقدَح لبنٍ فشربه والناس ينظرون.
سقط رجلٌ من أصحابه عن راحلتِه فقال: ((اغسِلوه بماء وسِدر، وكفّنوه في ثوبيه، ولا تقرّبوه طيبًا، فإنه يُبعَث يومَ القيامة ملبِّيًا))، صلوات الله وسلامه عليه.
لم يزَل واقفًا حتى غربت الشمسُ وذهبت الصُفرة قليلاً وغاب القُرص، ثم دفع منها إلى مزدلفة وهو يحثّ الناس على السكينة والوقار.
أتى المزدلفةَ فصلّى بها المغربَ والعشاء جمعًا من حين قدم، بات بها، وأذِن للضّعَفة بالرحيل بعد منتصَفِ الليل، وصلّى بها الفجر، وذكر الله عند المشعر الحرام.
ثمّ انصرف إلى منى، فرمى جمرةَ العقبة، ثم نحر هديَه وحلق رأسَه، ثم أتى البيتَ وطاف به طوافَ الإفاضة، فهكذا أعمالُ يوم النحر؛ رميُ الجمرة والحلق أو التقصير ثم الطواف بالبيت، ومن قدَّم شيئًا على شيء فنبيّنا يقول: ((افعل ولا حرج))، فمن رمى وحلَق أو رمى وطاف بالبيت حلّ له كلُّ شيء حرُم عليه بالإحرام إلا النساء، ومن رمى وحلق وطاف البيت حلّ له كلُّ ما حرّم الإحرامُ عليه.
ثمّ بِت بمنى ليلةَ الحادي عشر والثاني عشر، وارمِ الجمارَ في اليومين بعد الزوال، والرميُ لك إلى طلوع الفجر الثاني، فإن شئت فانصرِف قبلَ غروب الشمس في اليوم الثاني عشر، وإن شئت فابقَ بمنى وارمِ الجمار في اليومِ الثالثَ عشر، فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203].
حجّاجَ بيت الله الحرام، الأمنُ نعمةٌ من نِعم الله على عباده، بيّن الله قدرَه في كتابه العزيز، فقال عن خليله إبراهيم في دعائه: وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ [البقرة:126].
الأمن يحتاج إليه العالم والعابدُ والتاجر والجاهِل والرجل والأنثى، الأمن نعمةٌ وفضل من الله على عباده، يحقّقه للأمّة طاعتُهم لله وتوحيدُهم له، وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55].
أمةَ الإسلام، عاش أسلافُكم في القرون الخالية، لا يأتي البيتَ إلا نزرٌ من الناس، وإذا خرج من بلاده ودّعه أهلُه، فعسى أن يرجِع أو عسى أن يموتَ هناك، الطريقُ مخوف، والسّفر طويل، والأمنُ قليل، أمّا اليوم فقد أسبغ الله هذه النعمةَ، فجعل الحرمَ حرمًا آمِنا مطمئنًّا، هيّأ الله رجالاً اختارهم لحمايتِه وخدمته وشرّفهم بذلك، سَعَوا جهدَهم في توسعته وراحة أهله والنفقة عليه، واسترخَصوا كلَّ غالٍ ونفيس في سبيل راحة الحجّاج، وبذلوا قُصارى جُهدهم، فاشكروا الله على هذه النعمة، ثم اشكروا الله على من جعلهم سببًا في حصولها من قادةِ هذه البلاد، فمنذ تولّي الملكُ عبد العزيز ـ غفر الله له وشرّفه بولاية هذا البيت ـ والبيتُ يزداد كلَّ عام خيرًا، تعاقب عليه أبناؤه الملوك البرَرة، ولا يزال في هذا العهد المبارَك في عزّةٍ وقوّة، فجزى الله الجميعَ خيرًا، ووفّقهم لما يحبّه ويرضاه، وأعانهم على كلِّ خير.
|