أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا اللَّهَ وَابتَغُوا إلَيه الوَسيلةَ بتوحيدِه وذكره وشكره وحُسن عبادته والنزولِ على حكمه، ولاَ تَغُرَّنَّكم الحَياةُ الدُّنيَا بزَهرتها وزُخرُفها وزينتِها، وَلاَ يَغُرَّنَّكم بِاللَّهِ الغَرور.
أيّها المسلمون، إنّ وقفةَ التوديعِ مثيرةٌ للأشجان مهيِّجة للأحزان؛ إذ هِي مصاحبةٌ للرّحيل مؤذِنة بانقضاء، ولقد مضى ـ يا عبادَ الله ـ من عمُر الزّمن عامٌ كامل، تقلّبت فيه أحوال، وفنِيت أعمار، ونزَلت بالأمّة فيه نوازلُ تقضّ لها مضاجعُ أولي الألباب، وتهتزّ لها أفئدتهم، وتدمى منها قلوبهم، وإذا كان ذهابُ الليالي والأيام ليس لدى الغافلين اللاهين غيرَ مُضِيّ يومٍ ومجيء آخر، فإنّه عند أولي الأبصارِ باعثٌ حيّ من بواعثِ الاعتبار، ومصدَر متجدِّد مِن مصادِر العِظةِ والادِّكار، يصوِّر ذلك ويبيِّنه أبلغَ بيانٍ قولُ أبي الدرداء رضي الله عنه فيما رواه الحسن البصريّ رحمه الله عنه أنّه قال: (يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك)، ويصوِّره أيضا قول بعض السلف: "كيف يفرحُ بمرور الأعوام مَن يومُه يهدم شهرَه، وشهرُه يهدم سنتَه، وسنتُه تهدِم عُمُره؟! كيف يفرح مَن يقوده عُمره إلى أجله، وحياتُه إلى موته"، وقول بعضهم: "من كانت الليالي مطاياه سارتا به وإن لم يسِر".
ولذا فإنّهم يقفون عند وداع العام وقفةَ مراجعةٍ للذات ومحاسبة للنّفس، بالوقوفِ منها موقفَ التاجِر الأريب من تجارته، ألم ترَوا إليه كيفَ يجعل لنفسِه زمنًا معلومًا ينظر فيه إلى مَبلَغ رِبحه وخسارته، باحثًا عن الأسباب، متأمِّلاً في الخطأ والصواب؟!
وإنَّ سلوكَ المسلم الواعي هذا المسلكَ الرشيد ليربو في شَرَف مقاصده ونُبل غاياته وسموِّ أهدافه على ذلك؛ لأنه سَعيٌ إلى الحفاظِ على المكاسِب الحقّةِ التي لا تبور تجارتها، ولا يكسَد سوقها، ولا تَفنى أرباحها، مِن كنوز الأعمال وأرصدةِ الباقيات الصالحات التي جعَل الله لها مكانًا عليًّا ومقامًا كريمًا، وفضَّلها على ما سواه، فقال سبحانه: ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف: 46].
ولذا كانت العنايةُ بهذه المراجعةِ والحرصُ على هذه المحاسبةِ دأبَ أولي النهى، وديدن الأيقاظ، ونهجَ الراشدين، لا يشغَلهم عنها لهوُ الحياة ولغوها وزخرُفها وزينتها، وإذا هم يقطَعون أشواطَ الحياةِ بحظّ موفورٍ من التوفيقِ في إدراك المُنى وبلوغِ الآمال والظَّفَر بالمقاصدِ والسّلامة من العِثار.
وإنّ ارتباطَ المراجعة والمحاسبةِ بالتغيير نحو الأفضلِ والأكمل وثيق العرى وطيدُ الصِّلات، إذ المراجعة والمحاسبة تُظهران المرءَ على مواطنِ النقص ومواضِع الخلَل ومكامِن العِلل، فإذا صحَّ منه العزم وصلَحتِ النية واستبان الطريق وصدَّق ذلك العملُ جاء عون الله بمددٍ لا ينفد، فأورثَ حسنَ العاقبة وكريم الجزاء، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
وإنَّ الحاجةَ إلى سلوكِ نهج المراجعَة والمحاسبَة ـ يا عبادَ الله ـ ليس مختصًّا بأفرادٍ أو بطائفةٍ من دون الناس، بل إنَ الأمة المسلمةَ بمجموعِها مفتقرة إليه، ولا غناءَ لها عنه وهي تودِّع عامًا منصَرمًا وتستقبِل عامًا جديدًا، لكنّها في حقِّ الأمّة مراجعةٌ تتَّسع أبعادُها، ويعمّ نِطاقها، ويَعظُم نفعُها؛ إذ هي نظرةٌ شاملة للأحداث، وتأمّل واعٍ للنوازل، وتدارسٌ دَقيق للعِظات والعبَر، وسَعيٌ حثيث مِن بعد ذلك إلى تصحيح المسار وإقامة العِوج لتذليلِ الطريق أمامَ استئنافِ الحياة الإسلاميّة القويمةِ المرتكِزة على هدي الوحيين، المستَضيئةِ بأنوار التنزيلين.
وصدَق سبحانه إذ يقول: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنّة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
|