.

اليوم م الموافق ‏22/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

محاسبة النفس بعد نهاية الإجازة

3505

الرقاق والأخلاق والآداب

أعمال القلوب, اغتنام الأوقات

ناصر بن محمد الأحمد

الخبر

3/6/1421

النور

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- انصرمت الإجازة بما فيها من تقصير وتفريط. 2- الاعتبار بتقلب الدنيا بأهلها. 3- كل ما يقوله الإنسان ويصنعه مسجل عليه ومحاسب عنه. 4- حسرات أهل المعاصي على الأوقات الضائعة. 5- حرص السلف على أوقاتهم. 6- الحسرة في الآخرة وساعة الاحتضار وعلى الأوقات الضائعة. 7- ضرورة وأهمية محاسبة النفس. 8- لماذا نحاسب أنفسنا؟

الخطبة الأولى

أما بعد: وفي هذه اللحظات نودع إجازة صيفية كانت طويلة هذا العام، ونستعد لاستقبال عام دراسي جديد، نسأل الله تعالى العون والسداد.

أيها المسلمون، وإنه لمن المناسب جداً عند العقلاء وكلكم ذلك الرجل أن يقف لحظة محاسبة مع نفسه، كيف مرت به وبأولاده هذه الإجازة، يحاول أن يستعيد بدايتها ولحظاتها حتى نهايتها، كيف ذهبت وبماذا صرفت أوقاتها، وما هي ثمراتها ونتائجها، وما هي خسائرها وحسراتها، ومثل هذا الكلام لا نقصد به عوام الناس فقط، فيظن بعض الطيبين أنهم ليسوا داخلين في الحديث، بل الكل معني بهذا الحديث. حتى المستقيم والمحافظ بماذا قضى الإجازة وكل محاسب على قدر علمه ودينه.

أيها المسلمون، إنه ولابد وفي ختام هذه الإجازة من وقفة محاسبة وتذكر، وما يتذكر إلا من ينيب، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته. لا بد من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس في محاسبةٍ جادةٍ، ومساءلةٍ دقيقةٍ، في مثل هذه اللحظات، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون.

هل الأعمار إلا أعوام؟ وهل الأعوام إلا أيام؟ وهل الأيام إلا أنفاس؟ وإن عمراً ينقضي مع الأنفاس لسريع الانصرام. أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين؟ وقلَّبت الليالي من سجلات السابقين؟ وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟ كل نفس من أنفاس العمر معدود. وإضاعة هذا ليس بعده خسارة في الوجود. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].

إن الدنيا تُبكي ضاحكاً، وتضحك باكياً. وتُخيف آمناً، وتؤمن خائفاً، وتفقر غنياً، وتغني فقيراً. تتقلب بأهلها، لا تُبقي أحداً على حال. العيش فيها مذموم، والسرور فيها لا يدوم، تُغيِّر صفاءها الآفات، وتنوبها الفجيعات، وتفجع فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا. قد تنكرت معالمها، وانهارت عوالمها.

أيها الإخوة، لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها، وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه. فمن صفَّى صُفِّيَ له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله. ومن سرَّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربَّه، فالبر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

وإذا رأيت في عيشك تكديراً وفي شأنك اضطراباً، فتذكر نعمةً ما شكرت، أو زلة قد ارتكبت فجودة الثمار من جود البذار، ومن زرع حصد، وليس للمرء إلا ما اكتسب، وهو في القيامة مع من أحب.

يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: من عرف أنه عبدٌ لله وراجعٌ إليه فليعلم أنه موقوف. ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليُعد لكل سؤال جواباً. قيل: يرحمك الله فما الحيلة؟ قال: الأمر يسير. تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى. فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.

أيها الإخوة، لا بد في هذه الدقائق المتبقية من عمر الإجازة من محاسبةٍ تَفُضُّ مغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعاً.

من لم يظفر بذلك فحياته كلها والله هموم في هموم، وأفكارٌ وغموم، وآلامٌ وحسرات. بل إن الله لم يبعث نبيه محمداً إلا بالمهمتين العظيمتين: علم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس. هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2]، بل لقد علَّق الله فلاحَ عبده على تزكية نفسه ومحاسبتها وقدم ذلك وقرره بأحد عشر قسماً متوالية؛ اقرؤوا إن شئتم وتأملوا: وَٱلشَّمْسِ وَضُحَـٰهَا وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلـٰهَا وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّـٰهَا وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَـٰهَا وَٱلسَّمَاء وَمَا بَنَـٰهَا وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَـٰهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـٰهَا [الشمس:1-10].

أيها المسلمون، إن الله عز وجل قدر لنا عدداً محدداً من الأنفاس فكلما تنفس العبد نفساً سجل عليه، حتى يصل العبد إلى آخر العدد المقدر له، عند ذلك يكون خروج النفس، وفراق الأهل، ودخول القبر، وينتقل العبد من دار العمل ولا حساب إلى دار الحساب ولا عمل، وإنما يدرك العبد أهمية محاسبة النفس وخطر الوقت والعمر إذا فقد هذه النعمة، فعند ذلك يتمنى أن يرجع إلى الدنيا لا من أجل أن يجمع حطامها وشهواتها، بل من أجل أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، وتتجدد له هذه الأمنية وهذا الطلب كلما عاين أمراً من أمور الآخرة. قال تعالى: حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبّ ٱرْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]، وقال تعالى: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11]، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37]، وقال تعالى: قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ [غافر:11]، إنما الإجازات والعمر والوقت نعمة من الله عز وجل، فمن شكرها بطاعة الله عز وجل وأنفقها في سبيل الله تقول له الملائكة يوم القيامة: ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، وتقول له في الجنة: كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ومن كفر هذه النعمة وبذلها في معصية الله عز وجل تقول له الزبانية: ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ٱلأرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ٱدْخُلُواْ أَبْوٰبَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبّرِينَ [غافر:75، 76]، فينبغي على العبد أن يعرف خطر الأوقات واللحظات والإجازات فأهل الجنة لا يتحسرون على شيء، إلا على ساعة مرت عليهم لم يذكروا الله عز وجل فيها.

قال رجل لعامر بن عبد قيس: قف أكلمك فقال: أوقف الشمس.

كانوا يبخلون بأوقاتهم وأنفاسهم أن تنفق في غير طاعة الله عز وجل، وكانوا أحرص على أوقاتهم من حرصنا على دنانيرنا ودراهمنا. ونحن بماذا قضينا الإجازة؟

مات ابن لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة فوكل أحد جيرانه في غسله ودفنه لئلا يفوته درس من دروس شيخه أبي حنيفة.

ودخلوا على الجنيد عند الموت وهو يصلي قال: الآن تطوى صحيفتي.

وقيل لأبي بكر النهشلي وهو في الموت: اشرب قليلاً من الماء قال: حتى تغرب الشمس.

أين وصفك من هذه الأوصاف، لقد قام القوم وقعدنا، وجدوا في الجدّ ونمنا، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم.

لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم              ليس السليم إذا مشى كالمقعد

يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد، يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، إلى متى تدفع التقوى عن قلبك وهل ينفع الطرق في حديد بارد.

وما المرء إلا راكب ظهر عمره             على سفر يفنيه باليوم والشهر

يبيت ويضحي كل يـوم وليلة            بعيدا عن الدنيا قريبا إلى القبر

ومن جهل قيمة الوقت الآن، فسيأتي عليه حين من الدهر يعرف فيه قدره وتعاسته وقيمة العمل فيه، ولكن بعد فوات الأوان. وفي هذا يذكر الله تعالى موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم:

أولهما: ساعة الاحتضار، حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة ويتمنى لو منح مهلة من الزمن ليصلح ما أفسد ويتدارك ما فات: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ [المنافقون:9، 10]. ويكون الجواب عن هذه الأمنية: وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].

ثانيهما: في الآخرة، حيث توفى كل نفس ما عملت وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هنالك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى على الحياة ليبدؤوا من جديد عملا صالحا. وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:36، 37].

أيها المسلمون، إن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح، وهذا سقيم، والكل إلى الله يسير.

فانظر ـ أيها الحبيب ـ في صحائف أيام الإجازة التي خلت ماذا ادخرت فيها لآخرتك، واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان، وماذا رأت العين، وماذا سمعت هذه الأذن، أين مشت هذه القدم، وماذا بطشت اليد، وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وتحاسبها يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه".

فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات ولنحاسب أنفسنا على الغفلات في الإجازات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام تحث بنا السير إلى الآخرة، سمع أبو الدرداء رجلاً يسأل عن جنازة مرت: من هذا؟ فقال أبو الدرداء: هذا أنت.

ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.

فاجتهدوا أيها الأحبة من هذه اللحظة فإنما الأعمال بالخواتيم ولن ينفع قوله: رَبّ ٱرْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].

إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما كما قال عمر بن عبد العزيز.

إن الليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره. يُقَلّبُ ٱللَّهُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى ٱلاْبْصَـٰرِ [النور:44]، تتجدد الأعوام فنقول: إن أمامنا عاماً جديداً نراه طويلاً لكن سرعان ما ينقضي قال عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله منكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، فلا يركن المؤمن إلى الدنيا ولا يطمئن إليها، فهو على جناح سفر يهيئ نفسه للرحيل.


 

الخطبة الثانية

أما بعد: فهاهنا سؤالان:

السؤال الأول: هل تدرون ماذا نقصد بمحاسبة النفس مع نهاية الإجازة؟ نقصد بها أن ينظر كل واحد منا في أعماله وأحواله وأقواله في الإجازة التي مرت، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

السؤال الثاني: وهل تدرون لما نحاسب أنفسنا؟ لأربعة أمور:

الأمر الأول: حتى يخفف عنا حساب الآخرة. يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة فيضع عليه كنفه ـ أي ستره عن أعين الخلق ـ فيقرره بذنوبه: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك، فيعطى صحيفة حسناته. وأما الكافر والمنافق فينادى عليه على رؤوس الخلائق: هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ [هود:18].

الأمر الثاني: نحاسب أنفسنا أيضاً لأن الشهود كثير، فإذا كان قضاة الدنيا يمكن الاحتيال عليهم بالرشوة والوساطة والنفوذ وإحضار شهود الزور فشهود الآخرة لا يجرى عليهم ذلك، وأعظم شهادة، شهادة رب العالمين: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة:7]، وشهادة الملائكة: إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ  مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17، 18]، وشهادة الجوارح: ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوٰهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65]، وشهادة الجلود: وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء [فصلت:21]، وشهادة الأرض: إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ ٱلارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا [الزلزلة:1-5]، قالوا: يا رسول الله ما أخبارها؟ قال: ((أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا)).

والأمر الثالث الذي من أجله نحاسب أنفسنا في نهاية هذه الإجازة وبداية عام دراسي جديد لأن ألد عدو للإنسان نفسه، فهي الأمارة بالسوء كما وصفها خالقها إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء [يوسف:53]، فما تشتهيه نفسك هو السبيل إلى النار وما تكرهه هو السبيل إلى الجنة قال صلى الله عليه وسلم: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) فكان لابد من الرقي بها بالمعاتبة والمحاسبة.

الأمر الرابع: تأمل يا عبد الله، هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها. تتخطفها وهي راقدة في منامها. تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها. تقبضها وهي مكبة على أعمالها. تتخطفها وتعاجلها من غير إنذار أو إشعار. فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، ها هو ابن آدم يصبح سليماً معافى في صحته وحُلَّته، ثم يمسي بين أطباق الثرى قد حيل بينه وبين الأحباب والأصحاب. ويلٌ للأغرار المغترين. يأمنون الدنيا وهي غرارة. ويثقون بها وهي مكارة. ويركنون إليها وهي غدارة. فارقهم ما يحبون، ورأوا ما يكرهون. وحيل بينهم وبين ما يشتهون. ثم جاءهم ما يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون.

اللهم رحمة ..

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً