أما بعد: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126]. دخلت أمة الإسلام عامها الثامن عشر في بدايات قرنها الخامس عشر الهجري. وها نحن نعيش هذه الأيام أوائل عام هجري جديد، ومع كل أسف، فإن الذي يُقطع قلب كل مؤمن حيّ غيور على أمته، أن العالم الإسلامي، يعيش اليوم مرحلة من عمره، تعد من أسوأ المراحل التي مرت عليه.
لقد مرت الأمة في تاريخها الطويل من قبل بأزمات كثيرة، بل نكبات كثيرة، كان المسلمون يفقدون فيها تمكنهم في الأرض أحياناً، وأحايين كثيرة، كانوا يفقدون أمنهم وطمأنينتهم، وأحياناً كانوا يفقدون ديارهم وأموالهم، وهكذا الفتن والمصائب والنكبات إذا نزلت بالأمم.
لكن الأمة الإسلامية أيها الأحبة، مع ما سبق ذكره، لم تمر بتجربة أقسى، ولا وضع مؤلم، ولا واقع مشين، كتجربتها ووضعها وواقعها الحالي، فإنا لله وإنا إليها راجعون.
إليكم أيها المسلمون، نماذج وأمثلة، من نكبات وأزمات مرت بأمة الإسلام، ثم كيف اجتازتها وخرجت منها، لنصل إلى أزمتنا الحالية والله المستعان، وما السبب في بقاء الأمة هذه الفترة الطويلة من الزمن، دون مخرج.
أزمة الردة: أزمة حادة ولاشك، دولة الإسلام كانت دولة ناشئة، طرية، وكان أمامها عقبات كثيرة، يُطلب منها أن تجتازها فتأتي قبائل بأكملها كانت قد دخلت في الإسلام، وكان يؤمل عليها أشياء وأشياء، فإذا بالخبر أنها قد ارتدت عن الدين، ورجعت كافرة مشركة، أزمة مرت بالمسلمين، لكن منذ بدايتها وفي أول لحظة منها لم يخالج الصحابة أدنى شك في أن النصر سيكون للدولة المسلمة لماذا؟ ما هو السبب؟السبب هو أن صلتهم بربهم، وإخلاصهم لدينه، وصدقهم مع الله، كان أضعاف أضعاف إيمان المرتدين بباطلهم المزين الذي يقاتلون من ورائه. وما كان من جزع الصحابة رضي الله عنهم ومشورتهم على أبي بكر رضي الله عنه بالتريث في قتالهم، لم يكن ذلك لشك في نفوسهم أن الله سينصر دينه، إنما كانت مشورتهم من أجل إتاحة الفرصة لتجميع الجيش الكافي للمعركة، ولكن إيمان أبي بكر الراسخ، وثقته العميقة بوعد الله بالتمكين لهذا الدين في الأرض، وحساسيته المرهفة أن يترك الخارجين على أمر الله، دون أن يسارع في توقيع العقوبة التي أمر الله بإنزالها بهم، كل ذلك قد فعل فعله في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم فوقفوا صفاً واحداً خلف أبي بكر، ونصر الله دينه كما وعد، ومرت الأزمة بشكل طبيعي.
تأتي أزمة ثانية: فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه. خليفة المسلمين، أمير المؤمنين، الحاكم نفسه يقتل في بيته، وعلى مرأى ومسمع من الناس، والصحابة حضور شهود للحادثة.
إنها أزمة حادة ولا شك ابتلى بها المسلمون والدولة ما تزال في نشأتها، وعداوات الأرض قائمة من حولها.لكن الناظر، يرى أن هذه الأزمة أيضاً مرت، ولم يحصل شرخ في الدولة السبب؟ السبب هو أن الخلاف الذي حصل بين المسلمين، كان خلافاً على من يتولى الأمر لُيمكن للإسلام في الأرض، ولم يكن خلافاً على الإسلام ذاته، انتبه، لم يكن خلافهم على الإسلام ذاته هل يصلح أن يكون قاعدة حياتهم، هل نحكم به أو لا نحكم، هل نأخذه كله أو بعضه، هذه القضايا كانت محسومة عندهم، ولهذا عندما تأتي أزمة كهذه، قتل ولي أمر المسلمين، لا يمكن أن يسبب ذلك سقوطاً للدولة، أو شرخاً في نظام الحكم، فيُعالج الأمر، فتعود المياه إلى مجاريها، لأنه ما تزال نفوسهم مشبعة بالإيمان، وقناعتهم بالإسلام بأنه منهج حياة.
مثال ثالث: أزمة الحروب الصليبية وحروب التتار، التي عصفت بالأمة، وقتاً من الزمن، أزمة حادة، وبدا أنها يمكن أن تطيح بالكيان الإسلامي كله، وتجتث المسلمين من الأرض، لكن ماذا كانت النتيجة؟كانت النتيجة الواقعية غير ذلك، وجاء النصر من عند الله في النهاية. أما البداية فقد هزم المسلمون، أمام أعدائهم الصليبين، لأن واقعهم كان واقعاً سيئاً، مليئاً بالمعاصي والبدع والخرافات والانحرافات والشتات والفرقة، والانشغال بالدنيا عن نصرة دين الله والتمكين له في الأرض لذلك اجتاحت جيوش الأعداء أرض المسلمين وأزالت سلطانهم إلى حين.لكن في النهاية جاء نصر الله عز وجل.لماذا؟لأن جذوة العقيدة، كانت ما تزال حية في النفوس، وإن غشيتها غاشية من التواكل والسلبية أو الانشغال بشهوات الأرض، فما أن تحرك العلماء، وجاء القادة المخلصون الذين يردون الناس إلى الجادة بدعوتهم، للرجوع إلى حقيقة الإسلام، حتى صحت الجذوة واشتعلت.
قام صلاح الدين الأيوبي، يقول للناس: لقد هزمتم لبعدكم عن طريق الله، ولن تُنصروا حتى تعودوا إلى الطريق، وقام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يدعو لتصحيح العقيدة، مما طرأ عليها من غبش المتكلمين وضلالاتهم، ومن تحريف الفرق وتأويلاتهم، وصاح قطز صيحته الشهيرة: وا إسلاماه. وتبعتهم جماهير الأمة المسلمة، فصدقت الله في عقيدتها وسلوكها وأخلاقها، فجاء نصر الله جل وتعالى، وتغلب المسلمون، على أضعافهم من المشركين والكفار قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وأولئك غيروا ما بأنفسهم فغير الله حالهم من هزيمة وذلة، إلى نصر وعزة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
مثال رابع: نكبة الأندلس، أقام المسلمون، دولة في أرض الأندلس، بهرت الشرق والغرب، حيّرت القريب والبعيد في منجزاتها وحضارتها وإدارتها. لكن ما هي إلا سنوات، وتسقط هذه الدولة، عقاباً ربانيا من الله للمسلمين، على تفرقهم في نهاية الأمر، وتشتتهم، وحرب بعضهم لبعض، بل وتعاونهم مع أعدائهم من الصليبيين ضد بعضهم البعض.واتخاذ أولئك الأعداء الكفار، بطانة من دون المؤمنين، مخالفة لأمر الله، وهم لا يألونهم خبالاً، بالإضافة إلى الفتنة بشهوات الأرض، المباح منها وغير المباح.
ومن عقوبة الله جل وتعالى، أن الأندلس لم تعد إلى حظيرة الإسلام، وخرج المسلمون من الأندلس وقتل منهم من قتل، وسبي من سبي، لكن كل هذه النكبة هل قضت على المسلمين، الجواب لا. فإن طاقة الأمة في مجموعها لم تكن قد استنفدت، ففي ذات الوقت الذي انحسر فيه ظل الإسلام عن الأندلس، كانت هناك دولة فتية قوية شابة في سبيلها إلى التمكن في الأرض، وهي الدولة العثمانية، وفعلاً استطاع المسلمون الأتراك أن يقيموا دولة إسلامية تحفظ كيان المسلمين أربعة قرون كاملة. 400 سنة، أرعبت دول الغرب في ذلك الوقت وأحيت فريضة الجهاد في سبيل الله، وامتدت داخل العالم الصليبي حتى وصلت "فينّا" ودخل في الإسلام على يديها ملايين من البشر في أوربا وآسيا على السواء.
أيها المسلمون، إن ما ذكرت مجرد أمثلة سريعة من بعض مصائب ونكبات الأمة على مر تاريخها الطويل، وكيف أنها اجتازت كل العقبات والمعوقات.
نأتي للفترة الحالية التي تمر بها الأمة، هذه الأزمة التي يعانيها المسلمون هي أقسى وأشد من جميع الأزمات السابقة، من جهة، ومن جهة أخرى طالت عن سابقاتها وصار الناظر يرى أن الفجر بعيد.
عندما وقعت الحروب بين المسلمين والصليبيين، والتي استمرت حوالي 200 عام وجاء بعدها غارات التتار على ديار المسلمين، ومع ما كان فيه المسلمون من بدع وخرافات ومعاصي، لكن الإسلام ذاته لم يكن في نفوسهم موضع نقاش، لا بوصفه عقيدة، ولا بكونه نظام حكم، وحتى حين كانوا يهزمون أمام الصليبيين وأمام التتار، ومع ما كان يُنزل بهم أعداؤهم من القتل والقهر والخسف، لم يكن صدى الهزيمة في نفوسهم هو الشك في الإسلام، بل كانوا يعتقدون بأن ما أصابهم ما هو إلا لبعدهم عن الدين. كانت تنزل بهم الهزائم والنكبات لكن لم يكونوا يتطلعون إلى ما عند أعدائهم من عقائد أو أفكار أو نظم أو أنماط سلوك. بل كانوا يشعرون حتى وهم مهزومون بازدراء شديد لأعداؤهم، كان التتار في حسهم همجاً لا دين لهم ولا حضارة، كان الصليبيون في نظرهم هم الكفار المشركون عباد الصليب، كانوا يرونهم منحلي الأخلاق لا غيرة لهم على عرض.
لذلك لم يهنوا ـ حتى وهم مهزومون أمام أعدائهم فترة غير قصيرة ـ ولم يشعروا أنهم أدنى من أعدائهم. بل كان يتمثل فيهم قول الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
وكانوا مؤمنين.
نسأل الله جل وتعالى إيماناً في قلوبنا، وعملاً صالحاً لآخرتنا، وأن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً، وأن يعجل فرجها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|