أما بعد: من الأخلاق الاجتماعية التي تدل على سمو المجتمع وتماسك بنيانه، أن ينتشر بين أفراده: خلق الأمانة، ومن بواعث الشكوى والقلق وازدياد الخصومات والجرائم أن تكثر الخيانة في الناس، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده.
ولا أحد ينازع في أن الأمانة من ألزم الأخلاق للفرد والجماعة على السواء، وليست هذه الأمانة قياماً بحفظ المال الذي في نودعه عند الإنسان فحسب، فإن هذا أضيق معاني الأمانة، يقول الله: إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاْمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]. وبديهي أن الأمانة هنا ليست حفظ المال فقط، فذلك ما لا يفيده نص الآية الكريمة، وإنما نستشعر أن المراد بالأمانة هنا شيء تأباه طبيعة العوالم كلها إلا الإنسان الذي أهّله الله لحمل هذه الأمانة والاتصاف بها، فأصح تحديد لهذه الأمانة في الآية هو: التزام الواجبات الاجتماعية وأداؤها خير أداء كما شرعها الله سبحانه وتعالى للناس.
والإنسان وحده من بين هذه العوالم كلها هو الذي يستطيع أن يتحكم في ميوله وغرائزه، فيخضعها لمقاييس الحق ويكون بين الناس وفياً بما التزم نحوهم من عهود، عاملاً على بث الطمأنينة في أوساطهم، فإن نكل بعد ذلك الواجب كان خائناً للأمانة عاملاً على الأذى، ظالماً لنفسه ولمجتمعه، جاهلاً بما تجره الخيانة عليه وعلى الناس من شر وفساد.
وعلى هذا.. أيها المؤمنون تكون الأمانة شاملة القيام بجميع التكاليف والالتزامات الاجتماعية والأخلاقية:
فالعقل لدى الإنسان أمانة إن عمل بمقتضاه ونظمه والمعرفة وعمل فيه بطاعة الله كان مؤدياً للأمانة خير أداء.
والجسم أمانة لديك فإن أنت غذيته وصححته ورفقت به ولم ترهقه كنت محسناً محافظاً على الأمانة.
وزوجك وولدك ووالداك وكل من تشترك معهم في أواصر القربى ويلزمك حفظهم والنصح لهم هم أمانة عندك، فإن رعيت حقوقهم وأسديت لهم الخير وأبعدت عنهم الأذى كنت قائماً بالأمانة أحسن قيام: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً.
وحق المجتمع عليك في نشر الخير فيه وإشاعة الطمأنينة أمانة تلزم بالوفاء بها، فإن لم تفعل كنت مسيئاً إلى الناس خائناً للأمانة.
الأمة في أيدي المسؤولين والحاكمين أمانة، فإن قاموا بما يجب عليهم نحوها من نصح ورعاية وصيانة لكرامتها وحريتها أو أقاموها على شريعة الله: كانوا أمناء أوفياء، ((الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته)) وإلا كانوا من أكثر الناس غشاً وخيانة ((من بات غاشاً لرعيته لم يجد رائحة الجنة)).
والدين أمانة في عنق علمائه، إن بينوه للناس وصانوه من التحريف والتلاعب كانوا أوفياء لأقدس ما في الحياة من معنى كريم، وإن لم يفعلوا كانوا مرتكبين لأبشع صور الخيانة: وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].
والعلم أمانة في نفوس العلماء، إن استعملوه في خير الإنسانية وكشفوا عن أسراره في هذا الكون بما يدل على قدرة الله كانوا أمناء أوفياء، وإن استعملوه فيما يشيع الذعر ويشقي الأمم ويشجع الطغاة على العدوان والإجرام ونشر الفاحشة بين الناس، كانوا خونة أشبه بالمجرمين، يلحق بهم العار وتحيق عليهم اللعنة: فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ لَعنَّـٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ [المائدة:13].
والمال في أيدي الناس أمانة، فإن أحسنوا التصرف فيه والقيام عليه وأداء الحقوق الاجتماعية فيه كانوا أمناء أوفياء، لهم الذكر الجميل في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وإلا كانوا خونة ظالمين وسفهاء مبذرين: وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ [الإسراء:27]،وهكذا.
أيها المؤمنون، نجد الأمانة تنظم شؤون الحياة كلها: من عقيدة وعبادة وأدب ومعاملة وتكافل اجتماعي وسياسة حكيمة رشيدة وخلق حسن كريم.
والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود، سر سعادة الأمم، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب والأمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس.
سرقت امرأة عربية في عهد الرسول فجاء أهلها يتشفعون لدى الرسول ليسقط عنها العقوبة ووسطوا في ذلك أسامة ابن زيد، فغضب عليه الصلاة السلام وقال: ((أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد، أما والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) فهذه هي أمانة الحاكم في تنفيذ القانون على الناس جميعاً.
واستدان ابن عمر بن الخطاب من أبي موسى الأشعري حين كان والياً على الكوفة أموالاً من خزينة الدولة ليتاجر بها على أن يردها بعد ذلك كاملة غير منقوصة، واتجر ولد عمر فربح، فبلغ ذلك عمر فقال له: إنك حين اشتريت أنقص لك البائعون في الثمن لأنك ولد أمير المؤمنين، ولما بعت زاد لك المشترون في الثمن لأنك ولد أمير المؤمنين، فلا جرم أن كان للمسلمين نصيب فيما ربحت، فقاسمه نصف الربح، واسترد منه القرض وعنفه على ما فعل، واشتد في العقاب على أبي موسى لأنه أسرف من أموال الدولة ما لا يصح أن يقع مثله، وهذه أمانة الحاكم الذي يسهر على مال الأمة فلا يحابي فيه صديقاً ولا قريباً.
ويذكر التاريخ أن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان من أكثر ملوك عصره توفيقاً في الفتوح والنصر وكان نصيبه من الغنائم كبيراً جداً وقفه كله مدارس ومستشفيات ومساجد مما لا يزال بعض آثاره باقياً حتى اليوم، ولم يترك لنفسه ولأولاده شيئاً من ذلك حتى قالوا: إنه حين مات، مات وهو من أفقر الناس رحمه الله، وهذه هي أمانة القائد الذي يأبى أن يتاجر بجهاده، ويرضى بالله وجنته وثوابه بديلاً.
ومر علي بن أبي طالب في المسجد فرأى واعظاً يعظ الناس، فقال له: أتعرف أحكام القرآن وناسخه ومنسوخه، فقال: لا، فقال علي، هلكت وأهلكت، ثم منعه من التحدث إلى العامة لئلا يفسد عليهم دينهم بجهله، وهذه أمانة في صيانة العلم وحفظ عقائد الناس من أن يفسدها الجاهلون.
أيها الأخوة المؤمنون، هذه بعض أحاديث الأمانة في مجتمع كانت فيه الأمانة خلقاً بارزاً يتعامل به الناس بعضهم مع بعض، واليوم وقد ارتفعت الشكوى من انحسار هذا الخلق الكريم، تخلى كثيرون عن أداء الأمانة التي كلفهم الله تعالى القيام بها، فهل تجدون علاجاً لذلك إلا أن يعود كل منا فيما جعله الله قيماً عليه ومسؤولاً عنه، يعود إلى القيام بهذه الأمانة كاملة، فيفيء كل منا إلى ربه ويرجع إلى ضميره ويذكر الجنة وما أعده الله للأولياء في أمانتهم من ثواب مقيم، وما أعده الله للخائنين في عهودهم من عذاب مقيم، وإن ذلك ليسير على الله أحيى قلبه بتعاليم دينه السمحة واستمع إلى رسوله: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
فاللهم أحيي قلوبنا بنور معرفتك وأيقظ ضمائرنا بتعاليم شريعتك . نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
|