أما بعد: عباد الله، إن الزمان بليله ونهاره، وشهوره وأعوامه آية من آيات الله تبارك وتعالى التي نصبها للعباد ذكرى وموعظة، بما أهلك الله فيها من القرون، وما دمر من الأمم المكذبة لرسله المبتعدة عن سبيله وشرعه. وكم ضرب الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز من الأمثال، وذكر من الآيات لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرى، بالريح العقيم، والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات.
ومع ذلك كله فإن كثيراً من الناس لا يزيدهم تعاقب الليل والنهار، وتتابع الشهور والأعوام إلا بعداً وإعراضاً عن الله غرَّهم الإمهال، وخدعهم التسويف والأمل، وما أوجد الله على أيديهم من وسائل مخترعة لتحقيق السعادة والراحة الدنيوية، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ [الروم:7].
عباد الله، واشتداد الحر هذه الأيام من جملة الآيات الكونية التي يخوف الله تعالى بها العباد، ويخطئ كثيراً من الناس عندما ينسبون شدة الحر أو البرد للشمس أوالشهور ويقول: إن تأثيراً لها في خلق الله، بل هي خلق من خلق الله تعالى جعلها مواقيت للناس، ليعلموا عدد السنين والحساب، هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقّ يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِى ٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ لآيَـٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:5، 6].
أيها المسلمون، من أين يأتي هذا الحر؟ لعل كثيراً من المسلمين تخفى عليهم هذه الحقيقة التي أخبرنا عنها الصادق المصدوق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن هذا الحر الذي نجده في الصيف إنما هو من فيح جهنم، أعاذنا الله وإياكم منها، وهذا يدل على أن جهنم مخلوقة الآن، وهي تنتظر سكانها، نسأل الله العافية. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) وإذا كان هذا الحر الشديد الذي يعيقك أخي المسلم عن أشياء كثيرة إنما هو نفس أُذن لجهنم أن تتنفس، فكيف بجهنم نفسها وقد ذكر الله عنها ما ذكر كقوله تعالى: إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ [الملك:7]، إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12]، وعلى الذين يهربون من هذا الحر الدنيوي أن يفكروا بعقولهم، فمن الغباء أن يهرب الإنسان من الأخف إلى الأشد، وصدق الله جل جلاله إذ يقول: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81].
إذاً، اشتداد الحر في هذه الحياة إنما هو من نَفَس النار، من شدة حرها، يخوف الله تعالى به عباده، ويذكر به من يتذكر ليتعظوا وينـزجروا عما هم فيه من غفلة وإعراض عن الله تعالى. ولذلك عباد الله ترونه يختلف من سنة إلى أخرى، ومن عام إلى آخر، وكل ذلك بقدر بعد العباد عن الله أو قربهم منه سبحانه، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]. فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10، 12].
أيها المسلمون، ما عبد الله عز وجل بمثل الخوف منه، من عقابه وناره وغضبه. قال أبو سليمان الدراني رحمه الله: "أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، وكل قلب ليس فيه خوف لله فهو قلب خرب".
ولقد حذر الله عباده من النار، وكرر الوعيد بها، وضرب لها من الأمثال في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله الأمين صلوات الله وسلامه عليه ما تشيب منه الولدان، وتتقطع منه القلوب والأفئدة، ولكن أين المعتبرون؟ وأين الخائفون من الله حق خوفه؟.
هل انتبهت من نومها القلوب الغافلة؟ وهل ثابت إلى رشدها النفوس السادرة؟ أين الخوف من النار الذي أخاف الملائكة المقربين كما في قول الحق سبحانه وتعالى: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَـٰهٌ مّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأنبياء:29]. وأين الخوف من النار الذي لحق الأنبياء والمرسلين في قوله تعالى: ذٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:39]. وأين الخوف من النار الذي أقضّ مضاجع الصالحين كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِٱلأَسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]. تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
ما أنذر العباد رعاكم الله بشيء أشر من النار، النار موحشة، أهوالها عظيمة، وأخطارها جسيمة، وعذابها أبداً في مزيد، كلما خبت زادها الله سعيراً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوى فيها سبعين عاماً ما تقضي إلى قرارها))، قال عمر رضي الله عنه وهو راوي الحديث: (أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، وإن مقامها حديد).
عباد الله، إن الناس كلهم حريصون على راحة أنفسهم وأهليهم، يوفرون لهم الوسائل الواقية من الحر والبرد، وإذا ما اشتدت عليهم سموم الحر رأيناهم يتنقلون إلى المصائف والمنتجعات الباردة في أنحاء العالم، وكم هو عظيم الأسى عندما نرى أكثرهم لا يقيم وزناً لنار جهنم، ولا يعمل على وقاية نفسه ومن تحت يده منها، والله عز وجل قد خاطب عباده المؤمنين وحذرهم منها بقوله: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وإن من علامات الشقاوة العمل للدنيا والإعراض عن الآخرة.
تفر من الهجير وتتقيه فهلاً من جهنم قد فررتا
أيها المسلمون، إن هذا الحر ابتلاء من الله عز وجل لعباده المؤمنين من جهة وعقوبة للعاصين من جهةٍ أخرى، وقد ابتلى الله المؤمنين بالحر في غزوة تبوك، وفيها نزلت الآية: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]، فقد حاول المنافقون أن يعتذروا عن ترك الجهاد في سبيل الله لشدة الحر فقال الله: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]، أما كون هذا الحر عقوبة، فهذا لا شك فيه عند من يفقه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله عز وجل يعاقب عباده بأشياء كثيرة مما يكرهون، قال الله تعالى: وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وبعض الجهلة من المسلمين يقولون كيف يعاقبنا الله بهذا الجو الحار، ونحن مسلمون مقصرون، وكثير من الكفار ينعمون بالجو البارد والخضرة والماء ورغد العيش، وقد تولى الله عز وجل بيان هذه الشبهة وكشفها في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [الأنعام:42-45].
ومن مظاهر كون هذا الحر عقوبة ما يحصل من موت كثير من الزروع والأشجار وموت بعض الأسماك وتلف بعض الآلات وإزهاق كثير من المرضى ممن لا يتحملون شدة الحر، وفوق ذلك كله الأموال الطائلة التي تنفق وتصرف لمقاومة الحر الشديد، لا سيما في الكهرباء.
ولا شك أيها الإخوة أن هذا يوجب علينا جميعاً سرعة الرجوع إلى الله والتوبة من كل المنكرات، فإن هذا الحر نذير خطر، وإن الله يمهل ولا يهمل، قال تعالى: ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
عباد الله، إن هذا الحر له غاية مهما طالت أيامه، فبعد الحر يأتي الجو البارد، وهكذا الدنيا لا يدوم لها حال، وهذا أعظم تنبيه للمسلم كي يدرك أن الشيء لا يدوم في هذه الدنيا، فالدنيا حر وبرد، غنى وفقر، قوة وضعف، عز وذل، صحة ومرض، حياة وموت، ضيق وفرج، وفي هذا تنبيه للظالم أن ينتظر دوران الدائرة عليه، وتسلية للمكروب المبتلى الذي ينتظر فرج الله، وكثير من المسلمين اليوم في بقاع شتى يعيشون ظلماً واضطهاداً ولا يعلم مداه إلا الله، فلهم بشرى فإن الحال لا تدوم.
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
نفعني الله وإياكم...
|