أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فهي الزّاد وعليها بعدَ الله المعوَّل والاعتماد، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
حجّاجَ بيتِ الله الحرام، لقد منَّ الله عليكم بأداءِ هذا النسُك المبارك، فوقفتًم بعرفة، وبتُّم بمزدلفة، ورميتم الجمار، ونحرتم الهديَ، وتطوَّفتم بالبيت العتيق، وعِشتم لياليَ وأيّامًا تنهلون من مورِد العمل الصالح والنسك المشروع، فهنيئًا لكم هذا الأداء، وهنيئًا لكم حضورُ تلك العرصات المباركة. إنها لنعمة تستدعي الشكرَ للمنعِم المتمثِّلَ في الإكثار من ذكره والتوجّهِ إليه بالدعاء وحدَه لا شريك له، عملاً بقولِه تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ [البقرة:200، 201]، هكذا أمَر الله بذكره عندَ انقضاء المناسك، لأنّ أهلَ الجاهلية الأولى كانوا يقِفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعِم ويحمِل الحمالات ويحمل الديات، ليس لهم ذكرٌ غير فعال آبائهم، فأنزل الله على رسولِه هذه الآية.
ثمّ أرشدَ سبحانه إلى دعائهِ في هذه الآية بعدَ كثرةِ ذِكره لأنّه مظنّة الإجابة، كما أنّه سبحانه ذمَّ من لا يسألُه إلاّ في أمر دنياه وهو معرضٌ عن أمر آخرتِه، فقال جلّ وعلا: فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ [البقرة:200]، وسببُ هذا الذمّ ما كان يفعله بعض أهلِ الجاهلية من الأعرابِ حينما يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهمّ اجعَله عامَ غيثٍ وعامَ وِلادٍ حسن، لا يذكرون من أمرِ الآخرة شيئًا، فأنزل الله هذه الآية.
ثمّ يمدَح بعد ذلك من جمَع بين أمرَي الدنيا والآخرة، فيقول: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ [البقرة:201]، وهذه الدّعوة جمعت كلَّ خير في الدنيا وصرَفت كلَّ شرّ، فشملت هذه الدعوةُ العافيةَ والرزق الواسع والعلم النافعَ والعمَل الصالح والثناء الجميل، فإنّ كلّ ذلك من الحسنة في الدنيا، وأما الحسنةُ في الآخرة فهي دخولُ الجنة، والنظر إلى وجهِ الباري جلّ شأنُه، والأمن من الفزع، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.
وأمّا قولهم: وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ فهو يقتضي تيسيرَ أسبابه في الدنيا مِن تحكيم شرعِ الله في واقعِ الحياة واجتناب ما حرّم الله وترك الشبهات وما يريب، قال بعض السلف: "مَن أُعطي قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وجسدًا صابرًا فقد أوتي في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة ووُقي عذابَ النار".
وهذه الدعوةُ ـ حجّاجَ بيت الله ـ كانت أكثرَ ما يدعو بها النبيّ ، كما صحَّ الخبر بذلك عند أحمد في مسنده، وقد جاء عند مسلم في صحيحه أنّ رسولَ الله عادَ رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله : ((هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟)) قال: نعم، كنت أقول: اللهمَّ ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله : ((سبحانَ الله، لا تطيقه ـ أو لا تستطيعه ـ، فهلاّ قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار))، قال: فدعا الله فشفاه.
أيّها الحجاج، الحجّ إلى بيت الله الحرام فيه سمةُ المشقّة والنصب، لأنّه سفر من الأسفار المتنوّعة، والسفرُ في حدّ ذاته مبنيّ على المشقّة وركوب الأخطار، بل لقد وصفَه النبيّ بقوله: ((السّفرُ قطعةٌ من العذاب، يمنع أحدَكم طعامَه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمتَه فليعجِّل إلى أهله)) رواه البخاري ومسلم.
ولقد اجتمَع في هذا النسكِ العظيم مشقّتان، الأولى منهما مشقّة السفر، والثانيةُ مشقّة أنساك الحجّ المبنية على البعد عن الترفُّه كتقليم الأظافر وقصِّ الشعر ومسِّ الطيب وتغطيةِ الرأس ولبس المخيط، وغير ذلك ممّا يُعدّ جانبًا من جوانب المشقّة والنصَب التي يعظُم الأجر بعِظمِها كما قال النبيّ ذلك لعائشة رضي الله عنها. يضاف إلى ذلك أنه مظِنّة للتّزاحم والتدافع ووقوع شيءٍ من التضرّر مع تلك الجموعِ الغفيرة التي تتقاطر إلى رميِ الجمار وهي أحواضٌ صغيرة، لا تعدُّ شيئًا في مقابِل هذه الجموعِ المتكاثرَة، ممّا يستدعي الأناة والرفقَ والهدوء والتعاونَ لدى الحجّاج المثمِرةَ اليسرَ والسهولة والتّمام على الوجه الأكمَل، فالمزاحمة والاقتتالُ حالَ أداءِ بعض الأنساك كتقبيل الحجر الأسود أو رمي الجمار أو سدِّ الطرُقات في المسجد الحرام وممرّات المشاعر كلُّ ذلك مدعاةٌ لحدوث الخلَل ووقوع الإرباك في صفوف النسّاك، وقد سُمع من النبيّ التوجيهُ الكريم حينما أرشد الفاروقَ رضي الله عنه إلى عدَم مزاحمة الناس عند الحجر الأسود، فإن وجد فرجةً وإلا فليستقبِله ويكبِّر ولا يزاحم. رواه الطبراني وغيره.
ألا فاتّقوا الله معاشرَ الحجاج، وعليكم بالاستقامةِ على الطاعة والتوبة بعد الحجّ وإتباع السيئة الحسنة، فإنّ من علامةِ قبول العمَل وحبّ الله ورضاه عن الحاجّ والمعتمر أن يواصلَ الطاعة بالطاعة.
فاحذر ـ أيّها الحاج ـ من النكوصِ عن العمل الصالح والتوبةِ النصوح، ولتحرِص على أن تكونَ قدوة صالحةً في أهلك وعشيرتك وبني قومك، فإنّ الله جلّ وعلا يقول: إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصل:30-32].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا.
|