.

اليوم م الموافق ‏04/‏ربيع الأول/‏1446هـ

 
 

 

منهاج الإصلاح النبوي في حديث: ((لا تحاسدوا...))

3247

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

أحاديث مشروحة, أخلاق عامة, مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق

صالح بن محمد آل طالب

مكة المكرمة

3/6/1424

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- كمال الشريعة الإسلامية في جميع جوانبها. 2- إهمال الحضارة المادية المعاصرة لجانب الروح. 3- خطورة الحسد وعاقبته وعلاجه. 4- النجش ومفهومه العام. 5- الحثّ على سلامة الصدور. 6- الحثّ على الأخوة الإسلامية. 7- التحذير من الظلم بشتى صوره. 8- ذمّ الكبر والحثّ على التواضع. 9- حرمة دم المسلم وماله وعرضه.

الخطبة الأولى

وبعد: أيّها المسلمون، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروَة الوثقى، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم [الحديد:28].

واعلَموا أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها, وكلّ محدثة بدعة, وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، أعاذنا الله وإيّاكم منها.

وبعد: أمّةَ الإسلام، إنّه لم تأتِ شريعة أو نظام في قديم أو حديثٍ أشمل وأكمل من شريعة الإسلام التي عالجَت قضايا المادّة والروح وأتَت بصلاح الدّين والدّنيا، في توازن عميق وشمولٍ دقيق، ذلك أنّ الشارع سبحانه خالق البشرِ وعالمٌ بأحوالهم وما يصلحهم, وهذه الحضارة الحديثة مع وصولها إلى ما لم يوصَل إليه من قبل من جهة المادة إلا أنّها أغفلت جانبَ الروح في بني الإنسان، وعجزت عن بناء المجتمع المثاليّ والفردِ النبيل، بل أثبتَ الواقع المعاصر أنّ أبلغَ الناس ظهورًا في الحضارة المادّية هم أحطّ وأرذل الناس في الحضارة الأخلاقية، بل والإنسانية، وما ذاك إلاّ لخوائِهم من الإيمان.

أيّها المسلمون، لقد نسيت هذه الحضارة أيضًا أنّ البشر ليسوا جماداتٍ ولا تروسًا في آلات، مهما توفّرت أسباب المادة وترفها وتطوّرت التّقانات والخدمات فإنّ البشرَ يبقَون بشرًا، لهم رغبات وأهواء ونزعاتٌ وتطلّعات, يحبّون ويكرهون، يوالون ويعادون، يغارون وينافِسون، جُبلت النّفوس على حبّ الخير لذاتها وجلبِ النفع لها، كما جبِلت على حبّ التملّك والسيطرة والاستحواذِ على ما تشتهيه.

إلا أنّ الإسلامَ بشموله وكماله وجلاله وجمالِه هذّب هذه الطبائعَ، وسمَا بالنفوس بأحكام وشرائع، جعلها على مستوى الكمال, فجاءت التّوجيهات الربّانية والإرشادات النبويّة بكلّ ما يهذّب النفوسَ والأخلاق، ويهدي للتي هي أقوم وأحسن وأكمل وأفضل, فأمرنا الله تعالى بصلةِ الأرحام وبرّ الوالدين والعطفِ على المسكين ومساعدة المحتاج وكفِّ الظلم ودفع الضرر ورفعه وبذل النّدى وكفّ الأذى والأمر بالمعروف وإفشاء السلام ونشرِ المحبّة بين المسلمين، كما نهانا عن الغشّ والخديعة والحسد والغيبة والنّميمة والأخلاق الرذيلة والتعدّي على الآخرين في أنفسهم وأموالهم أو وأعراضهم أو دينهم وفكرهم. وبالجملة، فقد أتى الإسلام بكلّ ما يحفظ ترابطَ المجتمع ويكفل حقوق أفراده.

إنّ الإسلام ينشد إقامةَ المجتمع المتماسِك الطّاهر من الأثَرَة وحبّ الذات؛ ليكونوا أمّة فاضلة سليمةَ الصدور والنفوس مهذّبة المشاعر طاهرةَ القلوب كما كان الجيل الأوّل, سلامةٌ في المنهج والسيرة، وطهارة في القلب والسّريرة، وإليكم ـ رعاكم الله ـ كلماتٌ يسيرة مِن جوامع كلِم النّبي ، تصلح أن تكونَ منهاجَ أمّة وإن كانت أحرفًا معدودة.

روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقِره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ، بحسْب امرئ من الشرّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام دمُه وماله وعرضه)) رواه مسلم[1].

سبحان الله! كم جمَعت هذه الكلمات اليسيرةُ من معانٍ عظيمة وتوجيهات كبيرة، فأوّلها النهي عن الحسَد الذي هو تمنّي زوال النعمة عن الآخرين، وهو محرّم ومذموم بالكتاب والسنة، وهو أوّل ذنبٍ عُصي به الله حين حسَد إبليس آدم، ولم يزل به حتى أخرجه من الجنّة، فبالحسد لعِن إبليس وجعل شيطانًا رجيمًا.

الحسدُ خلُق اليهود والمشركين، إذ عادَوا رسولَ الله وكفَروا برسالته وهُم يعلمون أنّها الحقّ حسدًا من عند أنفسهم، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ [البقرة:109].

الحاسدُ معترِض على قضاء الله وقدرِه حيث لم يرضَ بما قسم الله له ولغيره، وهو دليل على قُبح النّفس وسوء طبعها، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْرٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَءاتَيْنَـٰهُمْ مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء:53، 54].

الحاسدُ في حسَده في غمّ لا ينقطِع ومصيبةٍ لا يؤجَر عليها ومذمّة لا يحمَد عليها، يسخط عليه ربّه فيغلِق عليه بابَ التوفيق.

أيّها المسلمون، إنّ الغيرةَ مركوزة في طباع البشر, ولا شكّ أنّ من رأى خيرًا تمنّى أن يكون ذلك له، وإنّما اللوم في البغي بالحسد، وهو كراهة النّعمة الواصلة إلى المحسود أو تمنّي زوالها، ويعظم الذنبُ إذا قارن ذلك غيبةٌ ونميمة ووِشاية وسعي لإزالة هذه النعمة.

أيّها المسلمون، الحسَد يأكل الحسناتِ كما تأكل النّار الحطب، كما يأكل القلبَ أيضًا، وفي منثور الحِكم: عقوبةُ الحاسِد من نفسِه.

ومن الناس من إذا رأى نعمةً ذكر الله تعالى بقلبِه، فذكره بلسانه، وتبعَ السنّة, ودعا بالبركة، وسأل الله الكريمَ من فضله، فيهذِّب بهذا نفسَه، ويصلح قلبَه وطباعه، ويريح خاطرَه، فيأجره الله تعالى ويرزقه. ومِن النّاس من يخذله الشيطان حتى يتّصف بصفتِه فيحرِق نفسَه ويموت بغيظه، لا أجرًا حصّل، ولا مجدًا أثّل.

 للمبتلَى بداء الحسد، لماذا كلّ هذا؟! هل نسيتَ أنّك مسلم تؤمن أنّ الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه، فمنهم ذو السعة، ومنهم من قدِر عليه رزقه، رفع بعضهم فوقَ بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضًا سخريًّا, ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون.

هذه سنّة الله في خلقه، ومَن أراد السلامةَ في دينه والطمأنينةَ في قلبه ورضا ربّه فليلاحظ نفسه وليطهِّر قلبه وليقنَع بما قسم الله، وليسأل الله تعالى من فضله، فهو سبحانه الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، يعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، خزائن ملأى، وعطاؤه واسع.

إخوةَ الإسلام، وكما نهى النبيّ عن الحسَد فقد نهى عن كلّ ما يوغِر الصدور ويؤذي الآخرين، فنهى عن النجش بقوله: ((ولا تناجشوا))، والنجَش هو المزايدَة على السلعة لقصدِ رفع ثمنِها لا لقصد الشّراء, لأنّ في هذا غشًّا وتغريرًا بالمشتَرين، ولكنّ معنى النّجش أعمّ من ذلك، فإنّ أصله إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة, فيكون معناه: لا تخادِعوا، ولا يختل بعضكم بعضًا بالمكر والاحتيال، لأنّ في هذا ضررًا على المسلمين وغشًّا لهم، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنّ النبيّ قال: ((من غشّنا فليس منّا، والمكر والخداع في النار)) رواه الطبراني بسند صحيح[2].

ثمّ نهى النبيّ عن التباغض والتدابر, خصوصًا على أهواءِ النفوس؛ لأنّ الله تعالى جعل المسلمين إخوةً متحابّين, وجعل المحبّة دليلَ الإيمان، ففي صحيح مسلم أنّ النبيّ قال: ((والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمِنوا حتى تحابّوا، ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلامَ بينكم))[3].

لذلك حرّم الإسلام كلَّ ما يوجب التنافرَ ويوقع العداوةَ والبغضاء, فحرّم الخمرَ والميسر والغيبة والنّميمة والبيعَ على بيع المسلم والخطبة على خطبته, كما حرّم الظلمَ والكذب واحتقارَ الآخرين، وامتنّ الله تعالى عباده بقوله: وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]. كما رغّب سبحانَه في صلاح ذاتِ البين فقال: فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال سبحانه: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَاء مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].

أيّها المسلمون، الكراهية والبغضاءُ والأحقاد والضّغائن مرضٌ في القلب فاتِك وداء مردي إذا فشا في الأمّة أفسدها، وأحال تعاملَ المجتمع قَسوة وعنادًا، يقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ويفسدون في الأرض، وقد تذكيها سياساتٌ مقيتة أو تسلّط وظلم أو طَمع وجشَع أو حسد نبَت في ظلّ غياب الإيمان، وهو منافٍ للأخوّة التي جاء بها الدين وموافق لهوى الشيطان الرجيم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ الشيطانَ قد أيِس أن يعبدَه المصلّون في جزيرة العرب, ولكن في التحريش بينهم)) رواه مسلم[4].

عبادَ الله، سلامَة الصدور هدأةٌ للنفس وهناء في العيش وراحة في البال وطريق إلى الجنّة، وقد شهِد النبي لرجل من الأنصار ثلاثَ مرّات أنّه من أهل الجنة، فلمّا سأله عبد الله بن عمرو قال: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أنّي لا أجِد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غِشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: هذه التي بلغَت بك[5].

ولهذا كان مِن صفات المؤمنين الأبرار الذين يخلفون المهاجرين والأنصار ما جاء في كتاب ربنا: وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10]. فكيف يكون مؤمنًا من يحمِل في قلبه العداوةَ والبغضاء لإخوانه المسلمين، فضلاً عن علمائهم وصالحيهم ودعاتهم ومصلحيهِم؟! أم كيف يكون مؤمنًا مَن يتعبّد بكراهية خيارِ الأمّة وبغض أصحاب الرسول أو السلف الكرام؟!

عبادَ الله، ثمّ قال النبيّ الكريم عليه الصلاة والتسليم: ((وكونوا عباد الله إخوانًا)). نعم، إنّ الأمّة لا تكون أمّة عزيزة منيعة حتى ترتبِط بروابط الدين وتحقّق معنى الأخوّة الإسلامية التي لا تحقّقها شعارات جاهلية, ولا ولاءات حزبية، ولا مصالح زائلة، بل تحقّقها مبادئ الإسلام السامية, الإسلام الذي آخى بين المؤمنين على اختلاف شعوبهم وقبائِلهم ومراتِبهم، وجمع قلوبَهم، فعزّوا بذلك وسمَت نفوسهم فوقَ مبادئ الطبقية، وعلت همَمهم على الفوارق الأرضية، فأصبحت الموازين سماويةً علوية، فكان الولاء للدّين، والمحبّة والنصرة لمن أسلم لربّ العالمين، ذهب الشحّ، وغلب الإيثار، وأحبّ كلّ مسلم لأخيه ما يحبّ لنفسه، فعامله بمقتضى ذلك.

بالأخوة الإسلاميّة يشارك المسلم إخوانَه المسلمين في أقطار الأرضِ أفراحَهم وأتراحَهم، ويقاسمُهم آمالهم وآلامهم. بالأخوّة تجتمع الكلمة، ويتوحّد الصفّ، ويقوى التّلاحم، فتظهر قوّة الأمّة وعزّتها.

وأمر النبيّ بالأخوّة أمرٌ بأسبابها ومقتضياتها، من أداء الحقوق للمسلمين كافّة ومنعِ الأذى عنهم، وفي محاسن الإسلام ردُّ السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض وإجابة الدعوة والمواساة وحفظ الغيب والهديّة ومساعدة المحتاج وتبسّمك في وجه أخيك صدقة والانكفاف عن المحرّمات كالغيبة والنّميمة وسوءِ الظنّ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].

بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه, إنّه هو الغفور الرحيم.




[1] أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله... (2564).

[2] أخرجه الطبراني في الكبير (10/138)، وأبو نعيم في الحلية (4/189)، والقضاعي في مسند الشهاب (354)، وصححه ابن حبان (567، 5559)، وجود إسناده المنذري في الترغيب (2/359)، وقال الهيثمي في المجمع (4/79): "رجاله ثقات وفي عاصم بن بهدله كلام لسوء حفظه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 6408).

[3] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان أن لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان... (2812).

[5] أخرجه أحمد (3/166)، والبيهقي في الشعب (6605)، وابن عبد البر في التمهيد (6/121-122) من طريق عبد الرزاق، وابن المبارك في الزهد (694)، ومن طريقه النسائي في اليوم والليلة (863) كلاهما عن معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه، هكذا رواية ابن المبارك، ورواية عبد الرزاق: "أخبرني أنس"، وقد أُعلّ هذا الطريق قال حمزة الكناني كما في النكت الظراف (1/394 ـ تحفة الأشراف ـ): "لم يسمعه الزهري عن أنس"، وقال البيهقي: "هكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: أخبرني أنس، ورواه ابن المبارك عن معمر فقال: عن الزهري عن أنس، ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني من لا أتهم عن أنس... وكذلك رواه عقيل بن خالد عن الزهري"، ومشى المنذري في الترغيب (3/348) على ظاهر الإسناد فصححه على شرط الشيخين، وقال ابن كثير في تفسيره (4/339) بعدما ساق طريق أحمد: "ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، والله أعلم"، فأشار إلى العلة المذكورة، وأعله أيضا ابن حجر في النكت الظراف (1/394-395 تحفة الأشراف)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1728، 1729).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقّ المبين، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الهادي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: ويمضي التوجيهُ النبويّ الكريم في هذا الحديثِ الجامع العظيم نهيًا عن رذائلِ الأخلاق التي توقع بين المسلمين الشقاق, وتنافي معانيَ الأخوّة، فينهى النبيّ عن الظلم والكذب واحتقار الآخرين.

فالظلم ظلمات يومَ القيامة، حرّم الله تعالى الظلمَ على نفسه، وجعله محرّمًا بين عباده. وعد بإجابة دعوة المظلوم، وتوعّد بعقاب الظالم, وكم رأى النّاس في مصارع الظالمين عجبًا، وفي مآل أمورهم عِبرًا. وسواء كان الظلمُ مِن دوَلٍ أو حكّام أو مسؤولين أو بين عامّة. فليتقّ اللهَ كلَّ مَن ولاه الله أمرَ ضعيف، مِن خادم أو عاملٍ أو يتيم أو كانت له ولاية، فإنّ الجبار سبحانه يُملي للظالم حتى إذا أخذَه لم يفلِته.

إنّ الحيف والظلمَ وسلب الحقوق وإهدارَ الكرامات مبعثٌ للشقاء ومثار للفتن, وإذا فشا الظلم والتظالم في المجتمع كان بداية السقوطِ والزوال، أو أن يتسلّط عليهم جبروتُ الأمم فيذيقهم من مرارَة العبوديّة والإذلال ما هو أشدّ من مرارة الانقراض والزوال.

عبادَ الله، وفي حديث النبيّ العظيم النهي عن الكذب الذي من اتّصف به كان حقيرًا، وعند الله والناس دنيئًا صغيرًا, صفةٌ يكرهها الرحمن وتنافي الإيمان، إِنَّمَا يَفْتَرِى ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ [النحل:105]. أمّا المؤمن الصادق فهو كريم الطباع، مأمونُ الجناب، مرموقٌ بالمحبة والإجلال, يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ [التوبة:119]. والصدق يهدي إلى البرّ والجنّة, ويرفع صاحبَه إلى مرتبة الصديقين مع الأنبياء والصالحين.

أمّا احتقار المسلمين فدناءةٌ في النفس وكِبر في القلب، وفي صحيح مسلم: ((الكبرُ بطر الحقّ وغَمط الناس))[1] أي: احتقارُهم, وهو صِفة الشيطان ومانعٌ من الهداية، سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـٰتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأرض بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا [الأعراف:146]، وما مِن خُلق ذميم إلاّ والكبرُ يجرّ إليه.

فاتّقوا الله عبادَ الله، وتواضعوا لخلق الله، فالله أعلم بمن اتقى، ورُبّ ضعيف مستضعَف أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه، فلا تحقرنَّ مسلمًا ولو كان مقصّرًا. وفي صحيح مسلم: ((بحسْب امرئ من الشرّ أن يحقرَ أخاه المسلم)). يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ [الحجرات:11]، فالميزان عند الله والكرامة بالتقوى والديانة، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13], فليست التقوى ادعاءً أو تصنُّعًا ورياءً.

وأشار النبيّ إلى صدره ثلاثَ مرات وهو يقول: ((التقوى ها هنا))، وإذا وُجدت التقوى في القلب ظهَر أثرُها على العمل والجوارح.

ثم يُختم الحديث بقاعدةٍ عظمَى من قواعدِ الإسلام: ((كلّ المسلم على المسلم حرامٌ دمُه وماله وعرضه)). وكفى بهذه العبارة بلاغًا، إنّ حرمةَ المسلم عند الله عظيمة, وعاقبة التعدّي عليه وخيمة، فمهما أخطأ أو قصّر تعمّد أو تأوّل لا يحلّ دمه وعرضه وماله، فكلّ ذلك معصوم إلا بكتاب الله، والتساهلُ في ذلك أو الاجتهادُ فيه بلا علم بابُ شرّ وفتنة وبلاء ومصيبة، عافانا الله وإياكم.

عباد الله، إنّ من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فأكثِروا فيه من الصلاة والسلام على خير البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله.

اللهمّ صلِّ وسلّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمّد وآله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...



[1] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه (91) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً