عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره، لقوله تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يغادرنا خلال هذا الأسبوع حجاج هذه الديار المباركة ميممين بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، وزيارة المسجد النبوي الشريف، وسيشرفون بالسلام على الحبيب المصطفى ، حيث موطن الدعوة الإسلامية وبطاح الجهاد ونزول الوحي الأمين على قلب نبينا عليه الصلاة وأتم التسليم، نسأل الله تعالى أن يكون حجهم مبرورًا وسعيهم مشكورًا، حتى يفوزوا ببشارة النبي فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
أيها المسلمون، يا حجاج بيت الله الحرام، وحتى يكون الحج مبرورا ينبغي على المسلم أن يخلص النية لله، فلا يكون الحج للشهرة أو السُمعة أو الرياء، بل خالصًا لله وحده، قال تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ [البينة:5]، ينبغي على الحاج أن يتجنب الرفث والفسوق والمعاصي والجدال، وتجنبها من الأخلاق الإسلامية التي تجب مراعاتها في جميع أحوال المسلم، قال تعالى: ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلألْبَـٰبِ [البقرة:197].
وليبادر الحاج إلى التوبة النصوح، وهي مطلوبة من كل مسلم، لا يخلو الإنسان من الذنوب، والله يقول: وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وحقيقة التوبة أن يقلع عن الذنوب ويتركها، ويندم على ما مضى منها، ويعزم على عدم العود إليها، وإن كان عنده للناس مظالم من نفس أو مال أو عرض ردها إليهم، أو تحللهم منها قبل السفر لأداء فريضة الحج، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عِرض، فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم))، وحتى يكون الحج أقرب للقبول ينبغي على الحاج أن ينفق من المال الحلال، لما ورد في الحديث الشريف: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا))، ولله در القائل:
إذا حججت بمال أصله دنس فما حججت ولكن حجّت العير
لا يقبـل الله إلا كل طيبـة ما كل حج لبيت الله مبـرور
وليحرص الحاج على وداع الأهل والأصدقاء وكتابة الوصية، ويترك ما يكفي من نفقة على من تلزمه نفقتهم مدة غيابه، وليختر رفيقًا صالحًا يعينه في سفره، وليكن ذكر الله رائده في كل حال، وهو يؤدي هذه الفريضة العظيمة والركن الجليل من أركان الإسلام.
أيها المسلمون، يا حجاج بيت الله الحرام، إن فريضة الحج تشتمل على حِكم جليلة وفوائد كثيرة، حري بكل من أدى الفريضة أن يحوزها ويقف على مراميها، فالحج يبدو فيه إظهار التذلل لله تعالى، وقد تجردت النفوس من أهوائها كما تجرد البدن من مظاهر الترف وشواغل الدنيا في لباس الإحرام الذي لا يزيد على كفن الميت.
الحج مدرسة لتربية النفس على الصبر وتحمل المشاق في السفر، وتعويد النفس على البر والتضحية، ورجم حظ الشيطان والشهوات في رجم الجمار، كما يؤدي الحاج شكر النعمة على سلامة البدن، ونعمة المال في إظهار العبودية لله.
والحج ـ أيها المسلمون ـ مؤتمر يجمع المسلمين من أقطار الأرض في تلك البقاع الطاهرة استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام واقتداء بهدي نبينا المصطفى ، وفيه تتوحد المشاعر والشعائر، فلا فرق بين غني وفقير، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين عربي وأعجمي، وقفوا جميعًا بين يدي الله في مواطن البراءة بخشوع وإقبال وتعلق بما أعده الله لعباده المسلمين من أجر ومثوبة، لجّوا بالتلبية والتكبير والتهليل يدعون الله ويسألونه مغفرة الذنوب، فيقبل عليهم بالمغفرة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الحجاج والعُمّار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم)).
أيها المسلمون، يا حجاج بيت الله الحرام، ومن أركان الحج الطواف بالبيت والوقوف بعرفة، وفي هذا الموقف العظيم خطب رسولنا خطبة الوداع، وبين للأمة الإسلامية أمور دينها وحرمة دمائها وأموالها، فمما قاله عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبدًا إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله)).
فهلا كان الحج مؤتمرًا تجدد الأمة فيه البيعة لله ولرسوله في إتباع كتاب الله وهدي المصطفى ، لا عصمة فيما سواهما، ولا فلاح إلا في تحكيمهما، ولا عزة للمسلمين إلا بعزة الإسلام وأخوة الإيمان التي توجب النصرة بين المسلمين، مهما تباعدت ديارهم واختلفت أجناسهم ولغاتهم.
أيها المسلمون، يا حجاج بيت الله الحرام، نودعكم على بركة الله، ونسأل الله تعالى لكم حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وتجارة لن تبور، ونسألكم الدعاء لنا وللمسلمين في تلك الرحاب الطاهرة، في المسجد الحرام وفي صعيد عرفات، وعند المشعر الحرام، وعند كل المناسك.
احملوا رسالة المسجد الأقصى الأسير إلى الشعوب الإسلامية، ليتذكروا أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث مسجد تشد إليه الرحال، ومسرى ومعراج نبينا عليه الصلاة والسلام.
وفقنا الله وإياكم للإخلاص بالقول والعمل، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهدانا سواء السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير.
جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
|