أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها النّاس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فهي للنّفس زِمام، وللهوَى خِطام، وللشّهوات والملذّات فِطام، فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِى ٱلألْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
أيّها النّاس، النُّفرة والتّدابر سِمةٌ من سِمات المجتمعاتِ المنفكّة، ومعرَّةٌ كبرى تأسَف لها قلوبُ المشفقين من ذوي البصائر، وإنّ قلّةَ الإنصاف وشيوعَ المذَق لهما معوَلان من معاوِل تقويض البِناء للصَّرح الإسلاميّ الشامخ، والنقدُ الموجَّه والنّصح الهادِف الموافقان لمرادِ الله ورسولِه هما لبِنتان من لبِنات الحِصنِ العزيز للمجتمَع المسلِم المتكامِل الذي تجتمع قلوبُ بنيه على رعايةِ الصّالح العامّ الخاضع لرضا الله جلّ وعلا، لا رضا الأهواءِ والشّهوات والأنفس التي تألَف ما يُسخِط الله لا ما يرضيه.
ومِن هنا فإنّ لكلّ رامقٍ بعَين البصيرة أن يقرِّر حكمَه على المجتمعاتِ سلبًا وإيجابًا مِن خلال ما يشاهِده في السّلوك العامّ والأنماط التي تخضَع للمعايير الآنفِ ذكرُها.
ألا إنّ الفرقَ واضح والبَون شاسع بين مجتمَع تغشاه النصيحة على قبولٍ وترحاب وبين مجتمعٍ آخر يجعل أصابعَه في آذانه ويستغشِي ثيابَه ويصرّ ويستكبر استكبارًا، أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِى ٱلأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ [ص:28].
أيّها المسلمون، لقد كانت مبايعةُ الصحابة رضوان الله عليهم للنّبيّ قائمةً على ركائزَ عظمى ومقرراتٍ جليلة كان من أهمِّها بذلُ النّصح للمسلمين والإشفاقُ عليهم والحِرص لهم، ففي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: بايعتُ النبيّ على إقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة والنّصحٍ لكلّ مسلم.
النّصيحة ـ عبادَ الله ـ كلمةٌ يُعبّر بها عن جملةٍ هي إرادةُ الخير للمنصوحِ له، وأصل النّصح هو الخُلوص والصّفاء والصّدق وعدمُ الغشّ، ولذا كان لِزامًا على كلّ مجتمعٍ مسلم أن يجعلَ لهذه الشّعيرة محلاً واسعًا في حياتِه اليوميّة واهتمامًا بالغًا لا يقلّ مستوًى عن الاهتمام بالجوانب الصحيّة والجوانبِ الأمنيّة والجوانبِ المعيشيّة.
والحقُّ الذي لا غبارَ عليه أنّه لا خيرَ في مجتمعٍ أفئدةُ بنِيه في التّناصح هواء، ولا خيرَ في مجتمعٍ آذان ذويه كالأقماعِ يدخل النّصحُ مع اليُمنَى فلا يلبَث أن يخرجَ مع اليُسرى.
إنّ استنكافَ المجتمعات والأفراد عن بذلِ النّصح والتقويمِ لهو سببٌ للعوَج والتّية في الدّنيا والعقوبةِ والمقتِ من ربّ العالمين في الآخرة، لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلَـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا [النساء:172].
إنّ اللّجاجةَ والنّفرةَ من أصواتِ النّاصحين المخلصين ليُعدُّ طبعًا لئيمًا مِن طبائع أعداءِ الأنبياء وخصومِهم، وهو فتوقٌ لا يرقعه أيّ رتوق لا يكون مصدَره النّصح لله ولرسوله ، ولذا قال الله تعالى عن ثمودَ عليه السلام: فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَـٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِينَ [الأعراف:79].
إنّ النصحَ بين المسلمين أفرادًا ومجتمعًا ليعدُّ أمارةً من أماراتِ الاهتمام بالصّلاح والإصلاح، وبإحياء الشّعيرة المفروضةِ شعيرةِ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في واقعِ حياتِهم وبيانِ حجّة أهل السنّة والجماعة وجهادهم لنصرةِ الحقّ بالقلم واللّسان كما قد كانت النّصرة كرّاتٍ ومرّات بالسّيف والسّنان، ولا أقلَّ من ذلك على وجهِ فرض الكفاية، فضلاً عن خطورةِ إهمال هذا الباب والوقوع في مغبّة مجانبته، ومن ثمَّ الاتِّصاف بما حذّر منه النبيّ بقوله: ((من لا يهتمّ بأمر المسلمين فليسَ منهم)) رواه الطبراني.
النّصح ـ أيّها المسلمون ـ ينبغي أن يقومَ على آدابٍ جُلَّى وسِماتٍ غُداف، تجعل الحقَّ من خلاله مقبولاً والنّصحَ بين النّاس منشورًا وبَاذلَه والمتسبِّب فيه مأجورًا غيرَ مأزور.
فينبغي للنّاصح أن يقومَ بالنّية الخالصةِ لله، وإلاّ كان نفاقًا ورياءً، كما ينبغي أن ينطلقَ نصحه من بابِ المحبّة والإشفاق بالآخرين، فهو أحرَى لأن يباركَ الله فيه ويبلغَ به المقصود، وقد قال الفضيل رحمه الله: "الحبُّ أفضل من الخَوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان مملوكان أحدُهما يحبّك والآخر يخافك، فالذي يحبّك منهما ينصحُك شاهدًا كنتَ أو غائبًا لحبِّه إياك، والذي يخافك عسَى أن ينصحَك إذا شهدتَ لِما يخافك، ويغشّك إذا غبتَ عنه ولا ينصحُك".
يضاف إلى ذلك ـ عبادَ الله ـ الصدقُ في النّصيحة والسِّتر وإرادة الإصلاح، لا إظهار الشّماتة والتّعيير؛ لأنّ السِّترَ في النّصح من سماتِ المؤمن الصادق، فإنّ المؤمنَ يستر وينصَح، والفاجر يهتِك ويُعيِّر.
كما ينبغي للنّاصح أن يصابرَ ويجاهدَ نفسَه على تحمُّل أعباءِ هذا المَيدان وما قد يناله فيه من صُوَر الشّماتة والاستكبار، ولقد أحسنَ ابن القيّم رحمه الله حينَ قال: "فالسعيدُ الرّابح من عامَل الله فيهم ولم يعامِلهم في الله، وخاف الله فيهم ولم يخَفهم في الله، وأرضى الله بسخَطهم ولم يرضِهم بسخطِ الله, وراقَب اللهَ فيهم ولم يراقبهم في الله".
ثمّ اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّه لا يضرّ المرءَ ما يلاقيه ممّن يشرَقون بالنّصح ويتأفّفون بالتّوجيه والإرشاد ويهوِّشون ويشوِّشون بادِّعاء الكمالِ الزائِف الذي يستنِكرون بسببه نصحَ النّاصحين، بل يعدّونه ضربًا من ضروبِ التّعيير والتدخّل فيما لا يعني، ويا لله ما اعتذارُ المرءِ إذا عُدّت محاسِنُه التي يدلِي بها ذنوبًا وعُدوانًا؟!
إنّ المسلمَ إذا نظرَ بعين الصّدق والتجرُّد والإنصاف وجعَل طلبَ الحقّ هو الدّيدنَ لقَبِل ما يُوجَّه إليه من نصحٍ ونقدٍ في الحقّ، ولعلِم أنّ الأمةَ الإسلامية لا تقوم إلا بالتناصح الجادِّ وبقولِها للمصيب: "أصبتَ" وللمخطئ: "أخطأتَ"، وأن لا يكونَ للسّخط والشنآن أو المودّة والقُربى تأثيرٌ في الميزان، وإنّما يكون العدلُ وحدَه في الغضَب والرّضا والمودّة والعداوة كما قال الباري جلّ شأنه: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوٰلِدَيْنِ وَٱلأقْرَبِينَ [النساء:135]، وكقوله سبحانه: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ [المائدة:8].
وإنّه لَيُعلم مِن هذا ـ عبادَ الله ـ أنّ عينَ الرّضا قد تكلّ عن كلّ عيبٍ، كما أنّ عينَ السّخط لا تبدِي إلا المساوئ، وأنّ المرء قد ينظر بعينِ عداوةٍ لو أنّها عينُ الرّضا لاستحسنَ ما استقبَح.
وجِماع الأمرِ في هذا هو العدلُ والإنصاف، ورحِم الله الإمامَ أبا عبد الله ابن بطّة حينما تحدّث عن النّصح وقبولِ الصَواب من الغير فقال: "واغتمامُك بصوابِه ـ أي: بصوابِ ناصحك ـ غشٌّ فيه وسوء نيّة في المسلمين، فاعلم ـ يا أخي ـ أنّ من كرِه الصوابَ من غيرِه ونصَر الخطأ من نفسِه لم يؤمَن عليه أن يسلبَه الله ما علِمه وينسيَه ما ذكره، بل يُخاف عليه أن يسلبَه الله إيمانَه؛ لأنّ الحقَّ من رسول الله إليك افتُرِض عليك طاعتُه، فمن سمِع الحقَّ فأنكرَه بعد عِلمه له فهو من المتكبّرين على الله" انتهى كلامه رحمه الله.
ولقد أحسنَ ابن قتيبةَ أيضًا وهو يشكو أهلَ زمانه في القرنِ الثالث الهجريّ وما يعانيه من بَعض الآبين للنّصح والمستنكفين عنه وما يلاقيه النّاصحُ في أوساطهم، فيقول رحمه الله: "إنّ الناصحَ مأجور عند الله، مشكورٌ عند عبادهِ الصالحين الذين لا يميل بهم هوًى ولا تدفعهم عصبيّة ولا يجمعهم على الباطل تحزّبٌ ولا يلفتهم عن استبانةِ الحقّ حدٌّ، وقد كنّا زمانًا نعتذِر مِن الجهلِ فصِرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم، نؤمّل شكرَ النّاس بالتنبيه والدّلالة، فصرنا نرضَى بالسّلامة، وليس هذا بعجيبٍ مع انقلابِ الأحوال، ولا ينكَر مع تغيّر الزمان، وفي الله خلفٌ وهو المستعان" انتهى كلامه رحمه الله.
فلا إله إلا الله، ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة واليومَ بالأمس، وها هو التّاريخ يعيد نفسَه.
ألا فاتّقوا الله معاشرَ المسلمين، واعلَموا أنّ الأمةَ لا يزال فيها النّاصح والمنصوحُ والرادُّ والمردود عليه، والحقّ ضالّة المؤمِن أنّى وجدَها أخذَ بها، وليس بضائِره ما يتبعُه ما دام قصدُه الإصلاحَ ما استطاع، ولقد صدق الله: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [القصص:50].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
|