أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ بالمسارعةِ إلى مرضاتِه والبعدِ عن محرّماتِه، فالتّقوى هي الوسيلةُ إلى الرّبّ الكريم، وهي بابُ جنّات النّعيم، جعلها الله هي الزّادَ ليومِ المعاد.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ لكلِّ أمّةٍ مِن الأمَم عيدًا يعود عليهم في يومٍ معلوم، يتضمَّن عقيدتَها وأخلاقَها وفلسفةَ حياتِها، فمِن الأعيادِ ما هو منبثِق مِن الأفكارِ البشريّة البعيدة عن وحيِ الله تعالى، وهي أعيادُ العقائد غيرِ الإسلاميّة، وأمّا عيد الفطر وعيد الأضحى فقد شرعه الله تعالى لأمّة الإسلام، قال الله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34]، روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عبّاس قال: (منسكًا أي: عيدًا)[1]، فيكون معنى الآية أنّ الله جعل لكلّ أمّة عيدًا شرعيًّا أو عيدًا قدريًّا.
وعيد الفطر وعيد الأضحى يكونان بعدَ ركنٍ مِن أركان الإسلام، فعيدُ الفِطر يكون بعدَ عبادةِ الصّوم وعيد الأضحى بعد عبادة الحجّ، عن أنسٍ رضي الله تعالى عنه قال: قدِم رسول الله المدينةَ ولهم يومان يلعبون فيهما قال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهليّة، فقال: ((قد أبدلكم الله خيرًا منهما: يومَ الأضحى ويوم الفطر)) رواه أبو داود والنسائيّ[2].
فعيد الفطر يعقُب الصيامَ والقيام، فشهر رمضانَ زمنٌ فاضل تضاعَف فيه الأعمال الصّالحة، وشرع الله فيه الاجتهادَ في الطاعة وبذلَ الوُسع في القرُبات وإقبالَ القلب على الله تعالى وطلبَ الآخرة الباقية اغتنامًا للوقتِ الفاضِل المبارَك واستفادةً وكسبًا لساعاتِ العُمر القليلة وابتغاءَ الزّلفى بأنواع الحسناتِ التي يرضى بها الربّ عن العبد، حتى إذا استنفد الإنسان المسلم جهدَه وبذل وسعَه في الطاعات واندفعت طاقتُه صاعدةً في سُلَّم الخيرات، فلمّا ارتقى المسلمُ هذه الدرجاتِ المنيفةَ وتصرّمت وولّت ساعات الصّيام الشريفةُ وكادت تهبّ رياح الملَلَ والسآمة شرع الله الفطرَ ليتمتّع المسلم بعد الصيام بما أباح الله من الطيِّبات والحلال الطيّب النافع من غير سرَف ولا تبذير، وليوسّعَ على نفسه ممّا خوّله الله من آلائه بلا خُيَلاء ولا مفاخَرة، وفي الحديث: ((إنّ اللهَ يحبّ إذا أنعم على عبدٍ أن يرى أثرَ نعمتِه على عبده))[3]. فينتقل المسلم بتوجيهٍ ربانيّ من حالٍ إلى حالٍ، وليعلم بأنّ الربّ جلّ شأنه هو الذي يأمر بالطّاعة وينهى عن المعصيَة، وأنّ الله هو الذي يحلّ الحلال ويحرّم الحرام ويشرع الدينَ ويقضي الأمور، وهو أعلم بما يُصلِح عبادَه، قال الله تعالى: قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسّرَّ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:6]، وقال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
بالأمس فرَض الله عليك الصومَ، واليومَ أوجب الله عليك الفطر، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ رسول الله نهى عن صيامِ يومين: يوم الفطر ويوم النّحر. رواه البخاري ومسلم[4]. لتستسلمَ وتنقاد ـ أيّها المسلم ـ لشرع الله استسلامَ العبدِ الخاضع لمولاه الذي يرجو رحمةَ الله ويخاف عذابَه. ثم إنّ هذا التحوّلَ من الاجتهاد في الخيرات في رمضان إلى إذنِ الشرع بالتمتّع بالطيّبات والمباحات بعد رمضان إعدادٌ للنّفس وترويحٌ للقلب وتربيَة للبدن ليتهيّأ لأعمالٍ صالحة لا تنتهي مدّةَ الحياة، وليتقوّى بالطيّب النافعِ على عبادةِ الربّ جلّ شأنه، فإنّ القلوبَ تحتاج إلى استصلاح بما أرشد إليه الشرعُ الحكيم، قال عليّ رضي الله عنه: (روِّحوا القلوبَ ساعة، فإنّها إذا أُكرِهت عمِيت)[5]، وكان أبو الدّرداء يقول: (إنّي لأستجمّ نفسي بشيءٍ من المباح لأتقوّى بذلك فيما بعدُ على الحقّ)[6]، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: (على العاقل أن يكون له ثلاثُ ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يحاسِب فيها نفسَه، وساعة يخلو فيها بمطعمِه ومشربِه) رواه ابن حبّان[7]، وعن أبي ذرّ أيضًا: (ما يكون العاقل ظاعنًا إلاّ في ثلاث: تزوّد لمعاد، أو مرمّة لمعاش، أو لذّةٍ في غير محرَّم) رواه ابن حبّان[8]، وكان ابن عبّاس رضي الله عنهما يذاكر أصحابَه بالتّفسير والفرائض، فإن آنَس منهم السآمَةَ أفاض في أشعار العرب وأيّامها، وكان يمزح ولا يقول إلا حقًّا[9].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، العيدُ يتضمّن معانيَ ساميةً جليلة ومقاصدَ عظيمة فضيلة.
أُولى معانِي العيدِ في الإسلام توحيدُ الله تعالى بإفراده سبحانه بالعبادةِ في الدّعاء والخوف والرّجاء والاستعاذة والاستعانة والتوكّل والرغبة والرهبة والذّبح والنذرِ وغير ذلك من أنواعِ العبادة، وهذا التوحيدُ هو أصل الدّين الذي ينبني عليه كلُّ فرعٍ من الشريعة، وهو تحقيق معنى "لا إله إلا الله" المدلولِ عليه بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، الذي نقرؤه في صلاةِ العيد وفي غيرِها من الصّلوات، والتوحيدُ هو الأمر العظيم الذي بتحقيقه يدخل الإنسان جنّاتِ النعيم، وإذا ضيَّعه الإنسان لا ينفعه عمَل.
والمتأمِّل في تاريخ البشريّة يجِد أن الانحرافَ والضلالَ والبدع وقع في التّوحيد، فتمسَّك ـ أيّها المسلم ـ بهذا الأصلِ العظيم، فهو حقّ الله عليك، وعهدُ الله الذي أخذه على بني آدم في عالَم الأرواح، وقد أكَّد القرآنُ العظيم توحيدَ الله بالعبادَة وعظَّم شأنَه، فما من سورةٍ في كتاب الله تعالى إلاّ وهي تأمر بالتوحيد نصًّا أو تضمّنًا أو التزامًا، أو تذكر ثوابَ الموحّدين أو عقوباتِ المشركين، فمن وفى بحقّ الله تعالى وفى الله له بوعدِه تفضُّلاً منه سبحانه وتعالى، عن معاذِ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((حقّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقّ العباد على الله أن لا يعذّبَ من لا يشرك به شيئًا)) رواه البخاري[10]. فالتّوحيد أوّل الأمر وآخره.
وثاني معاني العيدِ تحقيق معنى شهادة أنّ محمّدًا رسول الله عليه الصلاة والسلام التي ننطق بها في التشهّد في صلاةِ العيد وغيْرها من الصلوات، إذ معنى شهادةِ أنّ محمّدًا رسول الله طاعة أمره واجتنابُ نهيه وتصديق أخباره وعبادةُ الله بما شرَع مع محبّته وتوقيرِه، قال الله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِين [النور:54].
ومِن حكم العيدِ وعظيم فوائدِه التكافلُ الاجتماعيّ بين المسلمين، ومِن مظاهر هذا التّكافل الإسلاميّ زكاةُ الفطر التي فرضَها النبيّ على المسلم صَغيرًا كان أو كبيرًا، كما في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: كنّا نخرج زكاةَ الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تَمر أو صاعًا من أقِط أو صاعًا من زبيب. متّفق عليه[11]. ويجزئ هذا المقدارُ من كلّ حبٍّ يقتاتُه أهل كلّ بلد كالأرز والذّرة والدُّخن ونحو ذلك، والتي استحبّ كثير من أهلِ العلم إخراجَ هذه الزكاة يومَ العيد قبل الصلاة، وإن كان جائزًا إخراجُها قبل العيد بيوم أو يومين. وهي طهرةٌ للصّائم من اللّغو والرّفث وطعمة للمساكين، ومع أنّها بهذه الصّفة فهي مع ما يتصدّق به المسلم لتأمين مطالبِ العيد للمحتاجين سدٌّ لحاجة الفقراءِ والمساكين وتراحمٌ وتعاطفٌ بين أعضاءِ المجتمع الإسلاميّ كما روى البخاري ومسلم من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مثلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمِهم وتعاطفهم مثَل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسّهر والحمّى))[12].
وأمّةُ الإسلام لا تزال بخيرٍ ما حرصت على التكافلِ الاجتماعيّ فرحم قويّها ضعيفَها، وكبيرُها صغيرَها، ووقّر صغيرها كبيرَها، عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ابغوني في الضّعفاء، فإنّما تنصَرون وترزَقون بضعفائِكم)) رواه أبو داود بإسنادٍ جيّد[13]. ولا يوفَّق لوصيّته عليه الصلاة والسلام إلاّ من سبقت له من الله السعادةُ ووجبت له الرّحمة.
ومِن حكمِ العيد وعظيمِ نفعِه التواصلُ بين المسلمين والتزاور وتقاربُ القلوب وارتفاع الوحشة وانطفاء نارِ الأحقادِ والضغائن والحسَد. فاقتدارُ الإسلام على جمعِ المسلمين في مكانٍ واحد لأداء صلاةِ العيد آيةٌ على اقتداره على أن يجمعَهم على الحقّ، ويؤلِّفَ بين قلوبِهم على التقوى، فلا شيءَ يؤلِّف بين المسلمين سِوى الحقّ لأنّه واحد، ولا يفرّق بين القلوبِ إلا الأهواء لكثرتِها.
والمحبّةُ بين المسلمين غايةٌ عظمى من غاياتِ الإسلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمِنوا، ولا تؤمِنوا حتّى تحابّوا، أوَلا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلامَ بينكم)) رواه مسلم[14].
فجاهِد نفسَك ـ أيّها المسلم ـ أن تكونَ سليمَ الصّدر للمسلمين كلِّهم، فسلامةُ الصدر نعيمُ الدنيا وراحة البدَن ورضوان الله في الأخرى، عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أيّ الناس أفضل؟ قال: ((كلّ مخمومِ القلب صدوق اللسان))، قالوا: فما مخمومُ القلب؟ قال: ((هو التّقيّ النقيّ، لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غلَّ ولا حسَد)) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقيّ[15].
ومِن حِكَم العيدِ ومنافعِه العظيمةِ شهودُ جمع المسلمين لصلاةِ العيد، ومشاركتُهم في بركة الدّعاء والخير المتنزّل على جمعِهم المبارك، والانضواءُ تحت ظلال الرحمَة التي تغشى المصلين، والبروزُ لربّ العالمين، إظهارًا لفقر العبد لربّه، وحاجته لمولاه، وتعرُّضًا لنفحات الله التي لا تُحدُّ ولا تُعدُّ، عن سعيد بن أوس الأنصاريّ عن أبيه مرفوعًا: ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبوابِ الطّرق فينادون: اغدوا ـ يا معشرَ المسلمين ـ إلى ربّ كريم، يمنّ بالخير ثمّ يثيب عليه الجزيلَ، لقد أمِرتم بقيام الليل فقمتُم، وأمِرتم بصيام النهار فصمتُم، وأطعتم ربَّكم، فاقبضوا جوائزَكم، فإذا صلّوا نادَى منادٍ: ألا إنّ ربّكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالِكم، فهو يوم الجائزة، ويسمّى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة)) رواه الطبراني في الكبير[16]، وروي عن ابن عبّاس مرفوعًا: ((إذا كان عيد الفطر قال الله لملائكته: ما جزاءُ الأجير إذا عمِل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيّدنا، أن توفِّيَه أجرَه، قال الله: أشهِدكم أنّي قد جعلتُ ثوابَهم من صيامِهم وقيامهم رضواني. فوَعزّتي وجلالي، لا يسألوني في جمعِهم هذا لآخرتهم إلاّ أعطيتهم إيّاه، ولا لدنياهم إلاّ نظرتُ لهم، انصَرفوا مغفورًا لكم))[17].
ولأجل ما ينزِل الله من الخيراتِ والبركات على جمع صلاة العيدِ حثَّ الشرعُ على حضورِ النّساء لصلاةِ العيد غيرَ متبرِّجاتٍ وغير متعطّرات، عن أمّ عطية رضي الله عنها قالت: أمرَنا رسول الله أن نخرجهنَّ في الفطر والأضحى العواتقَ والحيَّضَ وذواتِ الخدور، فأمّا الحيَّض فيعتزلنَ الصلاة ويشهدنَ الخيرَ ودعوة المسلمين. رواه البخاريّ ومسلم وغيرهما[18].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، إنّ من غايات العيد أيضًا ومنافعه إعلانَ تعاليم شرائع الإسلام ونشرَها في المجامع ومشاهدِ المسلمين، وتبليغها على رؤوس الأشهاد، ليأخذها ويتلقّاها الجيل عن الجيل، والآخرُ عن الأوّل، علمًا وعملاً تطبيقيًّا، فتستقرّ تعاليمُ الإسلام في سويداء القلوب، ويحفَظها ويعمل بها الكبير والصغيرُ والذّكر والأنثى، وخطبةُ العيد التي شرعها رسول الله تشتمِل على أحكامِ الإسلام السّامية وتشريعاتِه الحكيمة. وظهور فرائضِ الإسلام وتشريعاته وأحكامِه هي القوّة الذاتية لبقاء الإسلام خالدًا إلى يوم القيامة، فلا يُنسى، ولا يُغيَّر، ولا تُؤوَّل أحكامه، ولا تنحرِف تعاليمه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، الصلاةَ الصلاةَ فإنّها عِماد الإسلام، وناهيةٌ عن الفحشاء والآثام، وهي العهد بين العبد وربِّه، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيَع، وأوّل ما يُسأل عنه العبد، فإن قُبِلت قبِل غيرها من الأعمال، وإن ردَّت ردَّت سائِر العمل. وأدّوا زكاةَ أموالكم طيّبةً بها نفوسُكم، تطهِّروا بها نفوسَكم، وتحفَظوا بها أموالَكم من المهالِك، وتحسِنوا بها إلى الفقراء والمساكين من المسلمين، وتثابوا على ذلك أعظمَ الثّواب، فقد أعطاكم الكثير، وأمركم بإخراج اليسير. وصوموا شهرَ الصيام، وحجّوا بيتَ الله الحرام، فإنّهما من أعظم أركانِ الإسلام.
وعليكم ببرِّ الوالدين وصِلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والأيتام، فذلك عملٌ يعجِّل الله ثوابَه في الدنيا مع ما يدَّخر الله لصاحبه في الآخرة من حُسن الثّواب، كما أنَّ العقوقَ والقطيعة ومنعَ الخير ممّا يعجّل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يؤجَّل لصاحبه في الآخرةِ من أليمِ العقاب.
وارعَوا ـ معشرَ المسلمين ـ حقوقَ الجار ففي الحديث: ((لا يؤمِن من لا يأمَن جاره بوائقَه))[19] أي: شرَّه. ومُروا بالمعروف، وانهَوا عن المنكر، فإنّهما حارسان للمجتمع وسياجان للإسلام وأمان من العقوباتِ التي تعمُّ الأنام. وإيّاكم وأنواعَ الشرك التي تبطِل التّوحيد، التي يقع فيها من لا علمَ له كدعاء الأنبياء والصالحين والطواف على قبورهم وطلب الغوث منهم، أو طلب كشفِ الكربات والشدائد منهم، أو دعائهم دون الله بجلب النفع أو دفع الضرّ، أو الذبح أو النذر لغير الله، قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وإيّاكم وقتلَ النّفس المحرّمة والزّنا، فقد قرن الله ذلك في كتابه بالشّرك بالله فقال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]، ومعنى أَثَامًا بئرٌ في قعر جهنّم، وفي الحديثِ عن النبي : ((لا يزال المرء في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا))[20]، وعن الهيثم بن مالك الطائيّ عن النبيّ قال: ((ما مِن ذنب بعد الشّرك أعظم عند الله من نطفةٍ وضعها رجل في رحمٍ لا يحلُّ له)) رواه ابن أبي الدنيا[21].
وعملُ قوم لوط أعظم من الزّنا، فقد لعن عليه الرسول [22]. والسِّحاق نوعٌ من الزنا وخبثٌ من الخبائث المحرّمة. وإيّاكم والربا فإنّه محق للكسب وغضبٌ للرب، عن البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعًا: ((الرّبا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثلُ إتيان الرّجل أمَّه)) رواه الطبراني في الأوسط[23].
وإيّاكم والتعرضَ لأموالِ المسلمين والمستضعفين، فإنّ اختلاطَه بالحلال دمارٌ ونار. وإيّاكم والرشوةَ وشهادةَ الزور فإنّها مضيِّعةٌ للحقوق مؤيِّدة للباطل، ومن كان مع الباطل أحلَّه دارَ البوار وجلَّله الإثمَ والعار، فقد لعن رسول الله الراشيَ والمرتشي[24]، وقرن الله شهادةَ الزور بالشّرك بالله.
وإيّاكم والخمر وأنواعَ المسكرات والدّخان والمخدِّرات، فإنّها تفسِد القلب، وتغتال العقل، وتدمّر البدن الذي هو أمانة عندك، وتمسَخ الخُلُق الفاضل، وتُغضِب الربَّ، وتفتِك بالمجتمع، ويختلّ بسببها التدبير، عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((كلّ مسكرٍ حرام، وإنّ على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيَه من طينة الخبال))، قالوا: يا رسول الله، وما طينةُ الخبال؟ قال: ((عرَق أهل النار)) أو ((عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي[25].
وإياكم والغيبة والنميمةَ فإنّ المطعون في عرضِه يأخذ من حسناتِ المغتاب بقدرِ مظلمتِه، عن حذيفةَ مرفوعًا: ((لا يدخل الجنة قتَّات)) يعني: نمّام. متفق عليه[26].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/198)، وعزاه السيوطي في الدر (6/47) لابن أبي حاتم.
[2] أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود في الصلاة (1134)، والنسائي في العيدين (1556)، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وصححه الحافظ في الفتح (2/442)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1004).
[3] أخرجه أحمد (2/182)، والترمذي في الأدب (2819) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم (7188)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2260).
[4] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1996)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (827) بمعناه.
[5] انظر: إحياء علمو الدين (2/30، 4/376)، وأخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم (659)، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (ص68) من طريق النجيب بن السري عن علي كلاما نحوه، وهذا سند منقطع، انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص424-425).
[6] ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص274)، وابن عبد البر في بهجة المجالس (ص115)، والبغوي في شرح السنة (13/184)، والذهبي في السير (5/421).
[8] هو نفس الرواية السابقة، أخرجها ابن حبان (361)، وأبو نعيم (1/166-167) عن أبي ذر عن النبي أنها من أمثال صحف إبراهيم عليه السلام في حديث طويل، قال الألباني في ضعيف الترغيب (1352): "ضعيف جدا".
[9] أخرج أحمد (2/340)، والبخاري في الأدب المفرد (265)، والترمذي في البر (1990) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله إنك تداعبنا! قال: ((إني لا أقول إلا حقا))، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو في صحيح سنن الترمذي (1621).
[10] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2856)، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (30).
[11] أخرجه البخاري في الزكاة (1506)، ومسلم في الزكاة (985).
[12] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) واللفظ له.
[13] أخرجه أحمد (5/198)، وأبو داود في الجهاد (2594)، والترمذي في الجهاد (1702)، والنسائي في الجهاد (3179)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4767)، والحاكم (2/116، 157)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (779).
[14] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (54).
[15] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4216)، والطبراني في مسند الشاميين (1218)، وأبو نعيم في الحلية (1/183)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/127): "هذا حديث صحيح حسن"، وصحح سنده المنذري في الترغيب (3/349)، والبوصيري في مصباح الزجاجة، وهو في صحيح الترغيب (2889).
[16] المعجم الكبير (1/226)، قال الهيثمي في المجمع (2/201): "فيه جابر الجعفي، وثقة الثوري، وروى عنه هو وشعبة، وضعفه الناس، وهو متروك"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (670).
[17] أخرجه البيهقي في الشعب (3695)، وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/535)، وأشار المنذري في الترغيب (2/60) إلى ضعفه، وحكم عليه الألباني بالوضع في ضعيف الترغيب (594).
[18] أخرجه البخاري في الحج (1652)، ومسلم في العيدين (890) واللفظ له.
[19] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
[20] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[21] عزاه السيوطي في الجامع لابن أبي الدنيا، وأخرجه ابن الجوزي من طريقه في ذم الهوى (ص190)، والهيثم بن مالك الطائي تابعي ثقة، فهو مرسل، والراوي عنه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1580).
[22] أخرج أحمد (1/309)، وأبو يعلى (2539)، والطبراني (11546)، والبيهقي (8/231) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) في حديث طويل، وصححه ابن حبان (4417)، والحاكم (4/356)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب (2421).
[23] المعجم الأوسط (7151)، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة"، وحكم عليه أبو حاتم بالانقطاع كما في العلل لابنه (1/381)، ولكن له شواهد يصحّ بها، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1871).
[24] أخرجه أحمد (6532)، وأبو داود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (586)، وابن حبان (5077)، والحاكم (4/102، 103)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح سنن أبي داود (3055).
[25] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2002).
[26] أخرجه البخاري في الأدب (6056)، ومسلم في الإيمان (105).
|