وبعد، أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، فمنذ أن جهر الرسول الأعظم بدعوته ورسالته قرر المشركون أن لا يألوا جهداً في محاربة الإسلام وإيذاء الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان العذاب والإيلام، وانفجرت مكة وبمشاعر الغضب وظلت عشرة أعوام تعتبر الرسول وأتباعه عصاة ثائرين، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وجعلت مقامهم محلاً لضيم وللويل.
إخوة الإيمان، وصاحبت هذه الأحقاد حرب من السخرية والتحقير، قصد بها تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية، فرمي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بتهم هازلة وشتائم سفيهة، وتألفت جماعة لاستهداف الإسلام ورجاله على نحو ما تفعل الصحافة المعارضة عندما تنشر عن الخصوم نكتاً لاذعة وصوراً مضحكة، للحط من مكانتهم لدى الجماهير.
أيها المؤمنون، بهذين اللونين من العداوة وقع المسلمون بين شقي الرحى، فرسولهم ينادى ويرمى بالجنون، وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ويوسم بالسحر والكذب وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا سَـٰحِرٌ كَذَّابٌ ، ويشيّع ويستقبل بنظرات ملتهمة ناقمة وعواطف منفعلة هائجة وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـٰرِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ .
أيها المرابطون، فليس حظ سائر المسلمين بأفضل من هذه المعاملة، فهم في غدوهم ورواحهم محل التندر واللمز إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ٱنقَلَبُواْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـؤُلاَء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـٰفِظِينَ .
فانقلبت هذه الحرب إلى تنكيل وسفك دماء بالنسبة إلى المستضعفين من المسلمين، فمن ليست له عصبية تدفع عنه لا يعصمه من الهوان والقتل شيء، بل يحبس على الآلام حتى يكفر أو يموت أو يسقط إعياء.
أيها المؤمنون، ويطول الحديث لو ذهبنا نستعرض نماذج عن العذاب الذي لاقاه رسولنا الكريم وصحابته الغر الميامين، ولكنني سأكتفي بما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال: (بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد، وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، فقذفه على ظهره الشريف، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها، فأخذته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك).
وما رواه الإمام البخاري عن خباب بن الأرت أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا، فنظر إليه وهو محمر الوجه وقال: ((قد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، لا يصرفه ذلك عن دينه، أي ما يرده ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله))، وفي رواية: (( والذئب على غنمه)).
أيها المؤمنون، وإن كنتم تتعجبون من هذا العذاب والأذى، وتستغربون أن يكون ذلك في سبيل الله عز وجل، فاعلموا أن هذا هو السبيل الوحيد وتلك هي سنة الله في جميع عباده الذين آمنوا به، وتمضي الأيام والشهور والسنوات ويدخل الإسلام المدينة، ويهاجر إليها المسلمون، وأخذوا يستعدون حتى لا تقتحم المدينة عليهم من أقطارها.
أيها المؤمنون، إن أجمل ذكريات الأمة الإسلامية نصر الله لنبيها وتأييده لدينها، فالأمة الإسلامية في مجموعها ما برحت تشرئب لمثل ذلك النصر على أعدائها، وما فتئت تعيش سعيدة في دنيا ذكرياتها، يحدوها الأمل بعز الإسلام وإشراق نوره وتبديد الظلام، وإن طال زمانه.
وفي مثل هذا الشهر المبارك وبعد منتصفه قبل ألف وأربعة مائة وثلاث وعشرين عام، خرج رسول السلام في ثلة من أصحابه، وضآلة في عددهم وعدتهم، خرج يقابل جموع قريش في صولتها وكثرة عددها ووفرة عدتها، وهو موقن أن الغلبة له عليها، مؤمن أن الله وحده هو الحق ونعم الوكيل، نزلها في بدر وقد شق عليه ما رأى من طغيانها وإعلانها العداء لله ورسوله، فتوجه إلى الله بدعائه قائلاً: (( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك))، ولم يرجع يديه إلا والملائكة تنزل مدداًً تقاتل في صفوف المسلمين، ويمتن الله على عبده وعلى المسلمين بهذا النصر المبين قائلا: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إلى أن قال: وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ .
أيها المسلمون، إن غزوة بدر الكبرى هي الغزوة الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام، والتي أعز الله فيها الإسلام وأهله، ومرغ أنف الشرك في أوحال الهزيمة بعد أن قذفت قريش في خضم هذه المعركة برجالها وصناديدها، ولكن الله جعل كيدهم في نحورهم، لأنهم خرجوا، والغرور يملأ نفوسهم، والشيطان فيها حليفهم، إنه يوم الفرقان، إن اليوم الذي قتل فيه صناديد الشرك وأئمة الكفر من أهل مكة، والجدير بالذكر أن المسلمين لم يكن خروجهم للقتال، إنما كان للاستيلاء على القافلة، على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأمولهم، فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة، أراد الله أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من صناديد قريش الذين حاربوا دعوة السلام ومكروا مكرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بلغوا بأصحابه - الذين اتبعوه على الهدى - غاية التعذيب والتنكيل والأذى.
إخوة الإيمان، لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الغزوة فرقاناً بين الحق والباطل، وفرقاناً في خط سير التاريخ الإسلامي، ومن ثَم فرقاناً في خط سير التاريخ الإنساني، فأراد الله عز وجل أن يظهر فيها الآمال البعيدة بتدبيره لهم، ولو كرهوه في أول الأمر، كما أراد الله سبحانه وتعالى أن يتعلم المؤمنون عوامل النصر وعوامل الهزيمة، وأن يأخذوها مباشرة من الله عز وجل، وهو في ميدان المعركة وأمام مشاهدها.
وفي هذه الغزوة تجلت نعم الله تعالى على عباده المؤمنين، يظهر ذلك من خلال قوله تعالى: إِذْ يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ٱلسَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ ٱلاْقْدَامَ، ومن خلال قول تعالى إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ.
إخوة الإيمان، كما تجلت في هذه الغزوة روح الإيمان والإخلاص لله تعالى ومبدأ الإعداد والتخطيط الدقيق من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهذه الغزوة، كما تجلى مبدأ الأخذ بالأسباب ومبدأ الشورى بين القائد والجيش.
أيها المسلمون، إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون بهذه الأيام من هذا الشهر المبارك هذه الذكرى الجميلة، ذكرى غزة بدر الكبرى، ويرفعون أيديهم إلى السماء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضارعين إلى المولى أن ينصرهم على أعدائهم، قائلين في حرقة ألم مما يصيبهم من أعداء الإسلام: (( اللهم أنشدك عهدك ووعدك الذي وعدتنا))، فهم في هذه الذكرى فرحون مغتبطون، وهم في هذه الذكرى أيضاً راجون وخائفون، راجون رحمة الله ونصره كما رحم ونصر أسلافهم، وخائفون من بوادر بدرت وفتن كقطع الليل المظلم عليهم أقبلت.
فيا أيها الصائمون، كونوا عباد الله إخواناً، واجعلوا هذا الشهر المبارك شهر عبادة وفضيلة وتوبة، كونوا كالسابقين الأولين، واجعلوا هذا الشهر شهر بِر ورحمة وتوسعة على الفقراء، وحافظوا على حرمة هذا الشهر، وبادوا إلى إخراج زكاة أموالكم، وأكثروا من قراءة القرآن والتدبر في معانيه ومدارسة السنة النبوية الشريفة، بخاصة أنكم في العشر الأواخر من رمضان، تحروا فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وقولوا فيها: ((اللهم إنك عفو كريم تحب العفو، فاعفوا عنا يا كريم))، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيمن سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)).
وإنه - يا عباد الله - موسم للعبادة عظيم، فاغتنموا فرصه، وقوموا من ليله ما تيسر، فقد صح عن سيد الأنام أنه قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
أما النهاية مسك الختام فالفرحة عند لقاء الملك العلام، والأمن يوم الفزع الأكبر كما جاء في الحديث الشريف ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه))، وقد ورد أنه توضع لهم مائدة تحت العرش يأكلون منها، والناس ما برحوا في الحساب، ثم يُدعون إلى دخول الجنة، إلى دار السلام من باب يقال له الريان، جاء في الحديث ((فإذا دخلوا أغلق، من دخل فيه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً))، فيا لعظيم الفضل ويا لسعادة الصائمين، و كما قال : (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
|