أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، في الصّحيح عنه أنّه قال: ((عليكم بالصّدق، فإنّ الصّدقَ يهدي إلى البرّ، وإنّ البرَّ يهدي إلى الجنّة، ولا يزال العبدُ يصدُق ويتحرّى الصدقَ حتّى يكتَبَ عند الله صدّيقًا. وإيّاكم والكذبَ، فإنّ الكذبَ يهدي إلى الفجورِ، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال العبد يكذِب ويتحرّى الكذبَ حتّى يكتَب عندَ الله كذّابًا))[1].
نعم أيّها المسلم، إنّ الكذبَ خلقٌ ذميم، خلق رذِيل، خلقٌ من أسوَأ الأخلاق، خلق يهدِي إلى الفجور، والفجور طريقٌ النّار، خلُق المنافقين، إنّ المنافقين هم الكاذبون، خلقٌ يدعو إليه النّفاق والحسَد والإخبَار بخلافِ الواقع.
أيّها المسلم، إنّ الكذبَ بلاءٌ وفساد، فهو أعظمُ سلاحٍ لمحاربةِ القيَم والفضائل.
أخي المسلم، لقد بيَّن الله لنا في كتابِه العزيز أنّ الكذبَ أعظم سلاحٍ استطاع بِه إبليس إغواءَ أبينا آدم وأمِّنا حوّاء. أسكنَ الله آدمَ الجنّة وزوجتَه وأباح لهما كلَّ ما فيها غيرَ شجرة واحدة عيّنها لهما ونهاهما عن قربانها: وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ [البقرة:35]، لكن عدوّ الله استعمل الكذبَ في إغواءِ أبينا وأمّنا، فقال: مَا نَهَـٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَـٰلِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ فَدَلَّـٰهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:20-22]، فكان سببًا في إخراجِ أبينا وأمِّنا من الجنّة وإهباطِهما إلى الأرض، كلّ هذا بِكذبِ إبليس، فجعل الكذبَ سلاحًا له في إغواء الأبوين عليهما السلام، ولكنّ الله تاب عليهما وألهَمهما التوبةَ والإنابةَ إليه، قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [الأعراف:23]، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37].
أخي المسلم، إنّ الله جلّ وعلا بيّن لنا أيضًا نوعًا آخر، فرعون عدوّ الله الذي قال لقومِه: أنا ربّكم الأعلى، ماذا قال لقومه؟ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]. هو يقتل يظلِم الخلقَ كما قال الله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ٱلأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ [القصص:4]، إذًا هو يقول لقومه في ظلمِه وسفكِه الدّماء وقتلِه الأبرياءَ والأنبياء يقول لهم: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيلَ الرشاد. فالقتل والظلمُ والعدوان في رأيِ فرعونَ هو سبيلُ الرّشاد، الظلم وسفكُ الدّماء وقتلُ الأبرياء و تدميرُ الممتلكات وظلمُ العباد يقول فرعون اللعين عنه: وما أهديكم إلا سبيلَ الرّشاد.
انظر إلى هذا الانحراف والضلال والكذِب المحض أنّ سفكَ الدماء وقتل الأبرياء وظلمَ العباد صيّره فرعون سبيلَ الرشاد في رأيه، وهو القائلُ لقومِه عن موسى عليه السلام: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ٱلأرْضِ ٱلْفَسَادَ [غافر:26]. إذًا فالكذبُ استعمله فرعون لإغواءِ قومِه وحملِهم على الجرائم التي يسلكها وقومُه وإذلالِ البشر والظلم والعدوان.
أيّها المسلم، إنّ مِن عبادِ الله مَن يحسِن القولَ ويعجِبك كلامُه وربّما خدعَك بعضُ أقوالِه واستحسنتَ بعضَ آرائه، ولكنّها في الواقعِ على خلافِ الحقّ والهدى، وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
هو يدّعي الإصلاحَ فيما يقول، ويدّعي الخير فيما يتصرّف فيه، ويظهِر أنّه جانِبُ الحقِّ وإنقاذ الإنسان ورحمةِ الخلقِ والعطفِ عليهم، لكن بأيّ سبيل؟ بظلمِ العبادِ، بقتل الأبرياء، وتدمير الممتلكات، بإشاعةِ الفساد، بالظّلم المتعدّي للحدود والعياذ بالله.
أخي المسلم، احذَر الكذبَ قولاً، واحذر أقوامًا من الكذّابين، أرادوا بالأمّة شرًّا، وأرادوا بالأمّة فسادًا، وقد أخرَجوا فسادَهم بجانبِ الإصلاح فيما يزعمون، فاتّق الله أيّها المسلم، ولا تصغ لأيّ مقالةٍ وآراء، لا تصغِ لكلّ مقالةٍ وكلّ رأي إلاّ بعد التّمحيص والتدبّر في المراد والنّوايا والمقاصد وما وراءَ ذلك القولِ، حتى تكون على بصيرةٍ من أمرك.
أخي المسلم، عليك بالعلمِ والتعلّم والتبصُّر في دينِك، واحذَر أن تشذَّ عن جماعةِ الأمّة أو يحملك أقوامٌ على معاداةِ أمّتك والخروجِ على منهجِهم والشّذوذ عن جماعتِهم بأيّ دعوًى وبأيّ رأيٍ يقولون.
أخي المسلم، هل قتلُ الأبرياء إصلاح؟! وهل تدميرُ الممتلكاتِ إصلاح؟! وهل ترويع الآمنين إصلاح؟! وهل مدّ اليدِ مع كلّ عدوّ للأمّة إصلاح؟!
أخي المسلم، إنّ الله جلّ وعلا حذّرنا من هذه الفئَةِ قديمًا، فقال عن المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ قال الله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. صدق الله، تلك مقالة قديمةٌ حديثة، كلّ مفسدٍ وظالم يرى أنّه مصلح، ويرى أنّه على حقّ وإن كان في باطِن أمرِه يعلم الكذب، فالله يقول عن فرعونَ: وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].
أخي المسلم، أيّها الشاب المسلم، اتّقِ اللهَ في نفسك، واتّق الله في أمّتك، واتّق الله في دينك، واتّق الله في أهلِ بيتك، واتّق الله في سرِّك وعلانيّتك.
أيّها الشّاب المسلم، اتّق الله دائمًا وأبدًا، وكن على بصيرةٍ من أمرِك. احذر ـ أخي الشابّ المسلم ـ احذر طاعة من يحمِلونك على السّوء والفساد. احذَر طاعةَ مَن يريدونك جسرًا يعبُرون عليه لينالوا من عقيدتِك ومِن أمّتك ما ينالون. احذَر أن تكونَ مطيّة لهم. احذَر أن تكونَ أُلعوبةً بأيديهم، يسخِّرونك كيف يشاؤون، ويوجّهونَك كيف يريدون، مِن غير عقلٍ ومن غير تفكّر. احذَر أن تكونَ إمَّعة، إن أحسَنَ النّاس [أحسنت]، وإن أساءَ النّاس [أسأتَ]، إيّاك وذلك، فالزم الإحسانَ والخير، وابتعِد عن السّوء والفساد.
أيّها الشابّ المسلِم، تُب إلى الله من خطئِك، وأنِب إلى الله مِن زللِك، وأيّ فكرٍ تحمله يخالف الحقَّ فباب التّوبة مفتوحٌ لمن أراد أن يتوبَ إلى الله من ذنبه وخطئه، قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ [الزمر:53].
أخي الشابّ المسلم، فئةٌ توحِي إليك أن تتركَ الدراسة والتعليم، وأن تبقَى على جهلِك وبعدِك عن الخير والهدى؛ لأنّك إذا استمررتَ على جهلِك وأمّيّتِك استطاعوا أن يوصِلوا إليك أفكارَهم، وأن يغروك بباطلهم، وأن يملؤوا قلبَك حِقدًا على أمّتك ومجتمعك. هؤلاء فئةٌ يدعونك إلى تركِ التعلّم والتّعليم، يدعونك إلى نبذِ العمل في بلادِك، يدعونَك أن تكونَ فوضويًّا سائبًا متسكِّعًا، لا تألو على خيرٍ ولا تنتمِي إلى خير. لماذا؟ ليسَ هذا رحمةً بك ولا إحسانًا إليك، ولكنّه الخداع والغرور، فتُب إلى الله، واتّق الله في نفسك، واتّق الله في أبوَيك وأهلِك، إيّاك أن تفجعَهم بالمصائبِ وأن تقضيَ على حياتِهم بالتصرّفات اللاأخلاقيّة واللاإنسانيّة.
أيّها الشابّ المسلم، لا تظنَّ عدوّك يحسن إليك ولا أن عدوَّك يؤهّلك لخير، ولا أنّ عدوّك يريد لك الإصلاح، ولكن ـ والله ـ يريد أن يجعلَك جِسرًا يعبُر به على أمّتك، ليدمّر بك قيمَهم وليحاربَ بك أخلاقَهم وليقضيَ بك على كيانِهم وليجعلَك ألعوبةً بيده، يسخرّك كيف يشاء، ويملِي عليك كلَّ يومٍ فكرًا، ويحقّق كل يوم رأيًا، فاتّق الله في نفسِك، واتّق الله في أمّتك، تعلّم واعمَل واستقِم وادع إلى الخير وتخلّق بالأخلاق الكريمة، وثِق بالله ثمّ بأمّتك وبمجتمعك المسلم الذي لا يزال ولله الحمد على خير، لا شكّ أنّ عندَ الأمّة أخطاء، ومن منّا معصوم من الخطأ؟! وأيّ مجتمع يخلو من خطأ؟! ولكن الأخطاء تعالَج بحكمة، والأمور تؤخَذ ببصيرة، والإصلاحُ على مراحِل، والله على كلّ شيء قدير. أمّا أن تكونَ فوضويًّا، أو تمدّ يدَيك إلى من لا يرحمُك ولا يبالي بك ولا يهتمّ بك، وإنّما يريد قضاءَ غرضِه بك ثمّ لا يبالي بأيّ الأوديةِ هلكتَ.
فاتّق اللهَ وتدبّر وتعقّل وانظُر عواقبَ الأمور وزِن الأمورَ بالميزان العادل، ولا تقبَل من كلّ قائل قولاً ولا مِن كل راءٍ رأيًا، حتى تتحقّق هذه الآراءَ وتعرِضها على ذوي العقول والأفكار وأهلِ العلم والبصيرةِ، لتقدِم في أمورِك على بصيرةٍ وعلم. أمّا أن يُزجّ بك في المتاهات ويقضَى بك الأغراض وينسحِب عنك الأعداء وتبقَى ضحيّة لتلك الأفكارِ وأسيرًا لتلك الآراء فإنّي أربأ بك عن هذا، وأدعوك إلى التّوبة إلى الله، أدعوك إلى التّوبة إلى ربّك والإنابة إليه في هذه الأيّام المباركة؛ لأن من لقيَ الله وليس في قلبِه بيعةٌ لإمامِه لقيَ اللهَ وميتتُه ميتة جاهليّة، ولقيَ الله ولا حجّةَ له، وهذا أمرٌ لا يليق بك أيها المسلم.
إنّ الكذبَ استعمله الأعداء في تدميرِ الخلافةِ الإسلاميّة، فما قتِل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه خير الخلقِ في زمنه إلاّ بأكاذيب الكاذبين وفسادِ المفسدين، وما دمِّر الإسلام وأهله إلاّ على أيدِي الكاذبين ومن لا بصيرةَ عندهم ممّن أحسنوا الظنَّ بأعدائهم، حتّى قضى الأعداءُ على الإسلام على أيدِي من لا بصيرةَ ولا علمَ عنده.
فتدبّر وتعقّل وتفكّر، فعسى الله أن يهديَك سواءَ السبيل، وعسى الله أن يمنَّ عليك بتوبةٍ نصوح، تمحو بها ما مضى، تقلِع عن هذا الخطأ، وتندم وتستغِفر، وتقبِل على مصالحِ نفسك ومستقبلك الذي يتمنّاه لك أبواك ومجتمعُك، لتساهمَ في بناء المجتمع المسلمِ على أسُس من الأخلاق والفضائل.
أسأل الله أن يحفظَ شبابَنا من كلّ سوء، وأن يحيطَهم بعنايتِه ويستنقذَهم من الغوايَة، ويردّهم إلى الحقّ ردًّا جميلاً، وعلى الآباءِ والأمهات جميعًا أن يكونوا عونًا لشبابِهم على الخيرِ، محذِّرين لهم من الشرّ، مراقبين أخلاقَهم وجلساءهم ومن يصاحبهم ومن يسافرون معه حتّى ينقِذوا شبابَهم من هذه الغوايات ويخلّصونهم من هذا البلاء.
أسأل الله أن يمنَّ على الجميع بالتّوبة النصوح والاستقامة على الخير، وأن يحفظَ مجتمَعنا من كلّ بلاء، وأن يبقيَ علينا دينَنا وأمنَنا وقيادتَنا على الخيرِ والهدى، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [الأنفال:25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر (2607) عن ابن مسعود رضي الله عنه. |