الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وإمامنا وقدوتنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله لنا وللذين من قبلنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ [النساء:131].
أيها المؤمنون، ما هي أسباب الغلّ والشحناء؟ وما هي الآثار التي تنتُج عنه على الأفراد والمجتمعات؟ وما هي وسائل العلاج التي يُتَّقى بها هذا المرض القلبي الخطير؟ أسئلة ثلاثة هي من الأهمية بمكان.
أما أسباب هذه الظاهرة:
فأولها: تحريش الشيطان بين المؤمنين، فقد قال الله سبحانه: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53]، وقد قال : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)). وقد نال من خلال هذا المسلك كثيرًا من مُراده ومبتغاه حين أكلس له كثير من الناس عنانهم، فانساقوا خلفَ هذا المرض القلبي.
ومن الأسباب الغضب، فإن الإنسان إذا عجز عن إخراج غضبه رجع إلى باطنه فصار حقدًا وغلاً، ولذلك أوصى النبي ذلك الرجلَ بأن لا يغضب، فردد مرارًا فأوصاه بهذه الوصية العظيمة.
من الأسباب كذلك الحسد، وقد قال : ((دَبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء)). والحسدُ هو تمنّي زوال النعمة عن الآخرين، وهو مرضٌ من أخطر أمراض القلوب.
ومن أسباب التشاحن والغلّ بين الناس الهوى والجدال والتعصّب للرأي، حين يتعصّب كلُّ أحد لرأيه، ويجادل عنه جدالاً مذمومًا، ويتقاصر عن ذلك في سبيل أن يؤدّي إلى نصرة ما أراده من هواه ورغباته الشخصية، فإنه حينئذ سوف يحمل الحقد والشحناءَ والبغضاء على من خالفه في رأيه؛ لأن الوصولَ إلى الحق لم يكن الدافع في هذا النقاش الذي دار بينهما.
ومن الأسباب كذلك ـ عباد الله ـ التنافسُ على الدنيا وحطامها، فإنها ترهِق أصحابها المتنافسين في طلبها، وتحصُل العداوات بسببها، وقد قال ذاتَ يوم لأصحابه: ((إذا فُتحت عليكم فارس والروم أيّ قوم أنتم؟)) قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال : ((أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون)) رواه مسلم.
ومن الأسباب كذلك النجوى وكثرة المزَاحُ، وقد أخبر الله سبحانه أن النجوى من الشيطان، والنجوى أن يتحادث اثنان دون الثالث وليس في المجلس سواهم، فهذا مما يوغر الصدور، ويحرّش بين الناس، كما جاء في حديث النبي .
أيها المسلمون، ما هي الآثار التي تترتّب على الغلّ والشحناء؟
إن من أهمها التفرق والضعف والهوان، وقد بين لنا ربنا ذلك في قوله: وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
ومن آثارها تأخيرُ مغفرة الذنوب، وقد قال : ((تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك به شيئًا، إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنظروا هذين حتى يصطلحا)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
من الآثار الوعيدُ بسوء الخاتمة في حقّ من كان قلبُه يحمل الغلَّ والحسدَ والبغضاء على إخوانه، وقد قال : ((لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجره فوق ثلاث فمات دخل النار)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ومن الآثار كذلك ما يقع في القلب من الأذى والهمّ والغمّ والعذاب الذي يتلظّى به صاحبُ الشحناء والبغضاء، ولذلك كان من نعيم أهل الجنة أن نزع الله من صدورهم الغل.
عباد الله، من الآثار الغيبةُ والنميمةُ وتتبُّع الزلات والهمز واللمز، فقلّما تجد من يحمل في قلبه شحناءَ على مسلم إلا وسعى في كل مجلسٍ إلى عيْبه وهمزه ولمزه وتنقُّصه، بل وقوع في الكذب في كثير من الأحيان وفي الظلم وتجاوز الحدّ وغفلةٍ عن عيوب النفس وأخطائها.
إخوتي الكرام، أما كيفية سلامة الصدور وعلاجها من هذا الداء فإن أعظم ذلك إخلاصُ العمل لله عز وجل، بأن يكون المقصد هو وجهه سبحانه، وقد جاء في الصحيح عنه : ((ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاصُ العمل، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) رواه الإمام أحمد.
ومن العلاج كذلك ملازمةُ الدعاء وسؤال الله عز وجل أن يطهِّر القلبَ من هذا المرض، يقول سبحانه مبينًا حال المؤمنين الممتَدَحين: وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ [الحشر:10]، وقد جاء في دعائه : ((واسْلُل سخيمةَ قلبي))، وقال سبحانه: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ [فصلت:36].
ومن العلاج حُسنُ الظن بالأخ المسلم، وإعذار المخطئ من الناس، فإن المسلمَ حين يحمل إخوانه على مبدأ حسن الظن ويعذرهم إذا أخطؤوا فإن قلبه يبقى سالمًا له من الغلّ والشحناء.
ومن العلاج كذلك صيامُ ثلاثة أيام من كلّ شهر، فقد قال : ((ألا أخبركم بما يذهب وحرَ الصدر؟! صوم ثلاثة أيام من كل شهر)) رواه النسائي.
ومن العلاج الهديةُ وإفشاء السلام، وقد جاء في الحديث: ((تهادَوا تحابّوا))، وقوله : ((أفشوا السلام بينكم)).
والصدقة كذلك والكلمة الطيبة من العلاج لهذا المرض، يقول سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، ويقول سبحانه: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ.
إخوتي الكرام، صلوا وسلموا بعد ذلك على الهادي البشير والسراج المنير، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلث بكم أيها الموحدون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء...
|