عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن الله قد أوجب التوبة على عباده المؤمنين، فقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال أيضًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التحريم:8]، وقال سبحانه: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود:3].
وقد أمر النبي بالتوبة والاستغفار ـ كما عند مسلم في صحيحه ـ فقال: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة))، وفي رواية أخرى عند البخاري قال : ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)). فهذا رسول الله الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة، فكيف بمن دونه من الناس؟!
وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة، فالتوبة ـ أيها الإخوة المسلمون ـ واجبة على كل مسلم ومسلمة، وهي واجبة من جميع الذنوب والمعاصي بدون استثناء؛ صغيرة كانت أم كبيرة.
والتوبة ـ عباد الله ـ هي الإقلاع عن الذنب من ترك واجب أو فعل محرم، فهي الرجوع من معصية الله إلى طاعته سبحانه وتعالى.
وكما أن لكل عمل من الأعمال شروطًا ليقبل عند الله, فإن للتوبة شروطًا كذلك, قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] أي: توبة صادقة، ولتكون التوبة توبة نصوحًا كما قال تعالى وتكون مقبولة وصحيحة يجب أن يتوفر فيها شروط كما سيأتي بيان ذلك.
والتوبة من الذنب ـ عباد الله ـ على حالتين، الحالة الأولى: إذا كان الذنب بين العبد وبين ربه سبحانه؛ أي: إذا كانت المعصية بينك ـ أخي المسلم ـ وبين ربك، ولا تتعلق بحق آدمي آخر، ففي هذه الحالة للتوبة ثلاثة شروط:
الشرط الأول: الإقلاع عن المعصية؛ أن تقلع ـ أخي المسلم ـ عن المعصية, وأن تكف عنها, فإن كنت تاركًا لواجب وجب عليك فعله, وإن كنت فاعلاً لمحرم وجب عليك تركه.
الشرط الثاني: الندم على فعلها؛ أن تشعر بالحزن على فعلك لتلك المعصية، وتتمنى أنك لم تفعلها، قال عليه الصلاة والسلام: ((الندم توبة)).
الشرط الثالث: العزم على عدم الرجوع إلى ذلك الذنب؛ أن تعزم بإرادة قوية في قلبك أن لا تعود أبدًا إلى تلك المعصية مستقبلاً. فهذه هي شروط التوبة إذا كانت المعصية بين العبد وبين ربه سبحانه وتعالى.
وأما الحالة الثانية: إذا كان الذنب بين آدمي وآدمي آخر؛ أن تكون المعصية بينك ـ أخي المسلم ـ وبين عبد أو مسلم آخر, ففي هذه الحالة يجب أن يتوفر في التوبة أربعة شروط؛ الثلاثة التي ذكرناها سابقًا من إقلاع وندم وعزم على عدم العودة, والشرط الرابع: أن يبرَأ التائب من حق صاحبه؛ أي: أن تبرأ ـ أخي المسلم ـ من حق صاحبك الذي اعتديت عليه، فإن كنت أخذت مالاً أو نحوه رددته إلى صاحبه، وإن كانت غيبة استحللته منها، وإن كان حد قذف أو نحوه مكنته من نفسك أو طلبت عفوه، فإن فقد أحد الشروط في تلك الحالتين لم تصح التوبة.
وزاد بعض العلماء في شروط التوبة الإخلاص, أي: أن تكون توبة الرجل خالصة لله تعالى, وأن يقصد بها وجه الله رغبة في مغفرته وثوابه، وخوفًا من عذابه وعقابه، ولا تصح التوبة إذا كانت خوفًا من عصا سلطان، أو رغبة في جاه أو مال أو شيء من عرض الدنيا.
ومما لا يخفى على أحد منا أن أبواب التوبة مفتوحة لكل أحد، ولكن الذي ينبغي أن يعرفه المسلم أن هناك أوقاتًا تغلق فيها أبواب التوبة، الوقت الأول: عند بلوغ الروح الغرغرة، فإذا بلغت الروح الحنجرة أغلقت أبواب التوبة على الإنسان, قال تعالى: وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)), أي: ما لم تبلغ روحه الحنجرة. أما الوقت الثاني: فهو عند طلوع الشمس من مغربها، قال عليه الصلاة والسلام: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) رواه مسلم. فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلقت أبواب التوبة على الناس جميعًا.
ومن مسائل التوبة ـ عباد الله ـ أنه قد يحدث للمسلم أن يتوب من ذنب أو معصية ما، ثم يمرّ عليه وقت ويقع في الذنب مرة أخرى بعد توبته منه، فوقوعه في الذنب لا يبطل توبته الأولى، ما دام يأتي في كل مرة بشروط التوبة.
ومن المسائل كذلك أن التوبة من بعض الذنوب دون الأخرى صحيحة على الراجح من أقوال أهل العلم، فإذا كان الإنسان تاركًا للصلاة ولا يؤدي زكاة أمواله، فتاب من تركه للصلاة وأصبح يصلي، فتوبته من ترك الصلاة صحيحة، وتبقى عليه معصية وكبيرة منع الزكاة.
وإياك ـ أخي المسلم ـ أن تحقر ذنبًا من الذنوب، وتحسبه صغيرًا فتترك التوبة منه، فقد تحقر ذنبًا وتراه عيناك صغيرًا وهو عند الله عظيم، والذنب الصغير مع الذنب الصغير يتراكم ويصبح كبيرا.
لا تحقرن صغيـرة إنّ الجبال من الحصى
وبعض الناس تسول لهم أنفسهم ارتكاب الحرام بنية التوبة، فتسهل عليهم المعصية بهذه الحيلة الباطلة, يقول: أسرق ثم أتوب, أنوي التوبة في قلبي وأسرق, أو أتعامل بالربا بنية التوبة, ثم أتوب, أو أزني بنية التوبة ثم أتوب, وهكذا، فتصبح حيلة للوقوع في المعاصي، وفي الحقيقة كل هذا تلبيس من إبليس، وكيد من مكائده لإيقاع الناس في الحرام، فالمسلم لا يستعمل الحيلة مع الله تعالى, لأنه يدري أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, والتوبة تحتاج إلى توفيق من الله, وما يدريك لعلك لا توفق إلى أسباب التوبة, ولا إلى طريقها, بعد ارتكابك للمعصية, فتصير غارقًا فيها مدمنًا عليها, أما تدري أن جزاء وعقاب المعصية معصية مثلها أو أكبر منها؟! وما يدريك لعلك تموت قبل التوبة, أو أنك تموت وأنت تقترف تلك المعصية, ولن تغني عنك نيتك شيئًا، فاحذر ـ أخي المسلم ـ من هذه المكيدة الشيطانية.
ومما ينبغي على المسلم أن يعلمه أن الجهر بالمعصية أخطر من الإسرار بها, والجهر بالمعصية أعظم إثمًا وأشد جرمًا من الإسرار بها, قال عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين))، والمجاهرون هم الذين يجهرون بمعصية الله جهارًا نهارًا, أمام أعين الناس, لا يستحيون من الله, ولا يستحيون من الناس، فالذي يشرب الخمر أو يعصي الله بنوع من أنواع الفجور والفسوق على قارعة الطريق أمام أعين الناس أعظم إثمًا عند الله من الذي يعصيه في كل هذا وهو يستر نفسه، ويستر معصيته عن أعين الناس.
((كل أمتي معافى إلا المجاهرين))، لأن الجهر بالمعصية أمام الناس ـ عباد الله ـ فيه شيء من الاستحلال, ونوع من التحدي لله في محارمه أمام عباده, والجهر بالمعصية من موجبات غضب الله وسخطه وعذابه، والجهر بالمعصية فيه دعاية ودعوة وإشهار للحرام, ويورث في قلوب الناس الرغبة في ارتكابها؛ فالناس مفطورون على حب التوافق ومشابهة بعضهم بعضًا, خاصة عند قصار العقول وضعاف النفوس, فيزين لهم الشيطان ارتكاب الحرام، فيكثر الفساد, ويشيع وينتشر في أوساط المسلمين، فمن ستر معصيته عن أعين الناس وستر نفسه معترفًا بذنبه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة ووفقه للتوبة. وأما من فضح نفسه, وأعلن وجهر بذنبه أمام الناس, كان وبال أمره خسرًا, وعقابه عند الله كبيرًا, ولم يكن من المعافين كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومن الناس من تجده قد أسرف على نفسه بكثرة الذنوب والمعاصي حتى غرق فيها، ويرى نفسه أنه قد هلك بها, فيدخله القنوط واليأس من رحمة الله, وإذا تذكر التوبة قال: ذنوبي كثيرة وكبيرة وثقيلة, فأنى يغفر لي؟!
ومثل هذا نقول له: استمع ـ يا أخي المسلم المذنب ـ إلى هذا النداء الرباني، نداء الرحمن الرحيم، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وقال تعالى عن يعقوب: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، وقال أيضًا: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ [الحجر:56].
فلا تقنط من رحمة ربك لكثرة ذنوبك, فإنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون, وتب إلى الله, فأبواب التوبة مفتوحة، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل, حتى تطلع الشمس من مغربها)). فلا تقنط ولا تيأس أبدًا ـ أيها المسلم ـ من رحمة الله الواسعة، فكم من تائب عن ذنوب كثيرة وعظيمة تاب الله عليه، قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70].
هذا من جهة, ومن جهة أخرى من الناس من هو منهمك في معصية الله تعالى, إما أن يكون تاركًا لواجبات أو مرتكبًا لمحرمات, أو قد خلط بين الأمرين، وإذا ذكرته بالله وقدمت له النصيحة وقلت له: يا أخي, تب إلى الله, دع عنك هذا الأمر الخبيث, يقول لك بكل ارتياح وطمأنينة: ربي غفور رحيم. فنقول: نعم صدقت، إن الله غفور رحيم، قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49]، ولكن بعد ذلك: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:50].
نعم ربنا غفور رحيم, ولكنه سبحانه في نفس الوقت شديد العقاب وعذابه أليم، غفور رحيم لمن اعترف بذنبه, وتاب وآمن وعمل صالحًا, وشديد العقاب لمن تكبر على الله تعالى، وأصر على ذنبه، وتهاون في الرجوع والتوبة، فلا يجوز للمسلم أن يتكل على رحمة الله وهو متمادٍ في العصيان، وقد كان من تمام منهج الأنبياء والصالحين عبادة الله بين الخوف والرجاء، الخوف من عذابه وسخطه، والرجاء لرحمته وثوابه، فلا يؤخذ بالرجاء ويهمل الخوف، أو العكس، بل يؤخذ بهما معًا.
فإذا رأيت من نفسك ـ أخي المسلم ـ قنوطًا ويأسًا استحضر رحمة الله، وإذا رأيت من نفسك تقصيرًا وميلاً للعصيان استحضر خوف الله, وهكذا يعيش المسلم بين الخوف والرجاء, وهكذا كان دأب الأنبياء والمؤمنين الصالحين الأولين, حتى امتدحهم الله في كتابه فقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16] أي: خوفًا من عقابه, وطمعًا في رحمته.
|