أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء: إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول عز وجل في سورة (المؤمنون): وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ [المؤمنون:52]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان تؤكدان على أن الأمة الإسلامية هي أمة واحدة، فقد بدأت كل آية منها بلفظ التوكيد" إن"، كما أن الله رب العالمين قد ربط وحدة الأمة بالتقوى والعبادة، للتأكيد على أن تحقيق الوحدة هو واجب عقدي وواجب تعبدي على جميع المسلمين شعوباً وحكاماً، وأن الوحدة يجب أن تكون على أساس متين، باعتبار أن المسلمين يمثلون أمة واحدة، لا تفصلهم حدود وهمية ولا كيانات هزيلة اصطنعها الاستعماريون الاحتلاليون في العالم الإسلامي من الحرب العالمية الأولى، وحتى الآن، إنهم قد مزقوا العالم الإسلامي بموجب اتفاقيات ظالمة غير مشروعة، منها اتفاقية "سايكس بيكو"، التي وضعت حينئذ بلاد فلسطين تحت الانتداب البريطاني البغيض.
أيها المسلمون، إن هذه الحدود المصطنعة بين الأقطار الإسلامية هي حدود غير مشروعة، لأن ديننا الإسلامي العظيم لا يعترف إلا بدولة واحدة للمسلمين، عليها حاكم واحد يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإن ديننا الإسلامي العظيم قد أقر بالإدارة اللامركزية للدولة قبل خمسة عشر قرناً، وذلك ليكون المجال متاحاً لأقطار أخرى للانضمام إلى هذه الدولة، وللتيسير على المواطنين في إنجاز معاملاتهم من خلال الإدارة اللامركزية، ولا يخفى عليكم أن الحدود القائمة بين الأقطار الإسلامية قد أوجدت الخصومات والمنازعات وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح دون وجه حق.
وإنه لمن المؤلم أن المسلمين في هذه الأيام قد استسلموا لوجود هذه الحدود المصطنعة، وأن المسلم يعد أجنبياً في قطر إسلامي آخر، في حين أن غير المسلمين يصولون ويجلون في الأقطار الإسلامية.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة وجمع الكلمة، ومن حقنا ذلك، بل هو أمر واجب، وإن الوضع القائم من التفكك والاختلاف ينذر بتطاير ريح المسلمين، والله سبحانه وتعالى يقول: وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [الأنفال:46]، وإن الذئاب في العالم الغربي قد جهزت نفسها لتأكلنا واحداً واحداً، ألم تسمعوا قول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((ما من ثلاثة من قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية))[1]، صدقت يا سيدي يا رسول الله، إنما يأكل الذئب القاصية من الغنم، أي البعيدة عن مجموعة الأغنام، فإن الذئب يتجرأ ويعتدي عليها.
وهذا التشبيه النبوي قد انطبق على واقعنا اليوم في العالم الإسلامي، فما حصل في أفغانستان والعراق أقرب دليل على ذلك، وهناك تهديدات أمريكية ظالمة لأقطار إسلامية أخرى، وكأن عرب عدنان وقحطان لم يسمعوا قول أحد الحكماء في نصحه لأبنائه:
كونـوا جميعـا يـا بنـي إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقـن تكسـرت أفـرادا
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد نهى ديننا الإسلامي العظيم عن التنازع والتفرق والتخاصم في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، منها قوله سبحانه وتعالى: وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وقوله: وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقوله أيضا: وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وقوله: إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء [الأنعام:159]، وقوله: وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31، 32].
أيها المسلمون، من الأحاديث النبوية الشريفة قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث مطول: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض))[2]، يعني أن هذا العراك الدامي هو شأن الكافرين، شأن الكافرين فلا يجوز أن ينطبق عليكم أيها المسلمون، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم، ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال))[3].
ففي هذا الحديث النبي الشريف توجيه عظيم للأمة الإسلامية أفراداً وجماعات وحكاماً لتحقيق الوحدة باجتناب مسببات الفرقة الخلاف والنزاع، ففيه أمر بالاعتصام بكتاب الله الذي لا خلاف عليه بين الأمة، وهو الراية التي تجمعهم، وهو اللواء الذي يقودهم.
ويذكر هذا الحديث من أسباب الخلاف القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، وذلك بإنفاق المال في غير موضعه كما نشاهد في عالمنا العربي في هذه الأيام، حيث تذهب المليارات هدراً لوجه الشيطان، لإرضاء دول الكفر والاستعمار، وفي المعاصي الموبقات والبارات.
أيها المسلمون، ينبغي أن نوضح الفرق بين النزاعات والخصومات بين المسلمين وبين اجتهادات العلماء في الأمور الفرعية المستجدة، فالنزاعات والخلافات والخصومات هي أمور منهي عنها، وهي مرفوضة في المجتمع الإسلامي، ولا يجوز شرعاً أن تقع بين المسلمين، أما الاجتهاد من قبل العلماء والمجتهدين في المسائل اليومية الفرعية فهو أمر مرغوب فيه ومشروع، وقد أقره رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وحث عليه، حتى لا يقع الناس في حرج وضيق، فلا تعارض بين الاجتهاد في الفقه الإسلامي وبين وجود الوحدة، وعليه لا يجوز أن يؤدي الخلاف الفقهي إلى خصومات بين المسلمين.
ومن المؤسف والمؤلم أنه حصل شجار بين المسلمين في أحد المساجد بشأن عدد ركعات التراويح هل هي ثماني ركعات أم عشرين ركعة، فاحتكموا إلى أحد العلماء فقال لهم: أغلقوا المسجد بعد صلاة العشاء، فاستهجنوا إجابته فقال لهم: "إن وحدة المسلمين واجبة، أما صلاة التراويح فهي سنة، والواجب مقدم على السنة".
أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم حريص كل الحرص على سلامة الأمة الإسلامية وعلى وحدتها وحفظ كيانها، لذا فهو يطفئ بوادر الخلاف والنزاع والشقاق، ونهيب بالمسلمين جميعاً أن يتآلفوا، فالألفة تجمع الشمل وتمنع الذل، وأن يتكاتفوا على إخراج الأمة من النزاعات والشقاقات، والله سبحانه وتعالى يقول: قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، ويقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((يد الله مع الجماعة))[4]، ويقول أيضاً: ((من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه))[5].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
|