أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى بفِعل طاعتِه والبعدِ عن معصيتِه، وشكرِه سبحانه على سعةِ فضله وسابغِ نعمتِه، والمسارعةِ إلى مغفرتِه وجنّتِه، فإنَّ في ذلكم الخير والصلاحَ والهدى والفلاح.
إخوةَ الإسلام، تتوالى حلقاتُ سلسلةٍ من الأحداثِ في بلادِ الحرمَين الشّريفين، يذهَل المسلم لها ويتملَّكه العَجَب، بَل ويحَار القلم وتَعجز الكلماتُ مِن هول ما يَرى ويسمع. وحين تبلغُ الأحداث بلدَ الله الحرام وبيتَه الأمين الذي جعله الله مثابةً للنّاس وأمنًا فالأمرُ أشدّ وأنكى.
إنَّ ما حدث في مكّةَ والمدينةِ والرياض من حوادثَ مؤلمةٍ وحشدٍ لوسائل القتلِ والتّدمير أمرٌ لا يتردّد الإنسانُ لحظةً في تحريمِه وأنّه كبيرة من الكبائر وليسَ له ما يبرّره شرعًا ولا عقلا، قال الله تعالى: أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا [فاطر:8]. إنَّ من يجيز مجرّدَ إرادةِ الإفساد في الحرَم تُعَدُّ معصيَة، فكيف بالإفسادِ نفسه؟! قال تعالى: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
هذه الفتنةُ أسقطت مِن قاموسها تعظيمَ شعائر الله وعظمةَ بيته الحرام وسكّانه الكِرام التي حفِظها الله منذ خلقَ السمواتِ والأرض، فالإسلام لا يقرُّ كلَّ أشكالِ العنف والعدوان، ومَن يرتكبُ هذه الأعمالَ في بيت الله الحرام ويستبيح حرمتَه ويقتل رجالَ الأمن والمواطنين ويسفِك دماءَ الأبرياء تحت أيِّ مسوِّغٍ فهو مفسِد في الأرض، وهذا عبثٌ بأمنِ البلاد وعملٌ مشين يبوء صاحبُه بإثم كبير.
إنَّ هذه الانحرافات من هذه الفئةِ أو غيرها تستمدّ أبعادَها من منهجيّة منحرفة، ضالّة غير سويّة، ونفثةٍ غريبة لن تجدَ ملاذا في هذه البلاد، ولن تنموَ على أرض الطُّهر والإيمان.
إنّ هذه الأفعال المشينة تقذِف بالأمّة في أتون المشكلات والمصائب، ومن ذلك الغلوّ الاعتقاديّ الذي من سماتِه التّكفير، وهذا أخطر أنواعِ الغلوّ لأنّه المحوَر الذي تشعَّبت عنه الفرق المختلفة في الإسلام وظهرَت عندها الأهواءُ واختلفت القلوب والعقول، ثم سُلَّت السيوف فسالت الدّماء، وقد ابتُليت الأمّة سابقًا بذلك، كما قال الحسن البصريّ رحمه الله: "يضيع هذا الدّين بين الغالي فيه والجافي عنه"[1].
إنَّ هذه الأحداثَ في مهبَط الوحي ومنبعِ الرسالة مؤلِمةٌ مزعجة، ومنذرة بخطرٍ عظيم محدقٍ بالأمّة، لا يعلم عاقبتَها إلا الله، ولا يستفيد منها إلا أعداءُ الدين وأعداء الأمّة. فالأمن مطلبٌ شرعيّ كما قال تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ. والمحافظةُ على الأمن مسؤوليّة الجميع حكّامًا ومحكومين، رجالا ونساءً، كبارًا وصغارًا. فبالأمن تعمّر المساجدُ وتقام الصلوات وتحفَظ الأعراض والأموال وتؤمَّن السبُل ويُنشَر الخير وتُقام الحدود وتنتشِر الدّعوة وتُطبَّق الشريعة، وإذا اختلَّ الأمن كانت الفوضى وحكمَ اللّصوص وقُطّاع الطرق، فلنكُن كلُّنا جنودًا لحفظ الأمن.
إنَّ هذه الأعمال التخريبيّةَ التي استهدفت الآمنين مخالفةٌ لأحكام الشريعة، والتي جاءت بعصمةِ دماء المسلمين والمعاهَدين، فكيف إذا كان هذا الفعلُ في بلد مسلمٍ آمن، بل هو إشعاع الرّسالة والنور الذي أشرقت به جنبات الأرض كلِّها؟! كيف إذا كان في بلدِ الدّعوة والدّعاة؟! لا شكّ أنَّ ذلك أشدّ حرمَةً بإجماع علماءِ المسلمين الرّاسخين، فضلا عمّا في ذلك من هتكٍ لحرمَة الأنفس والأموال المعصومة، وهتكٍ لحرمَة الآمنين المطمأنّين في مساكنهم، وإشاعة الفوضى وعدمِ الاستقرار. وما حدَث في مكّة ومثيلها من مدن بلاد الحرمين من ترويعٍ لمؤلمٌ حقًّا، ولا يوافَق عليه لا شرعًا ولا عقلا، فكم من نفوس مسلمة بريئةٍ أزهقت، وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، وكم من نفوس مؤمنةٍ آمنة رُوِّعت، قال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
إنّ هذه الأعمالَ ليست من الإسلام في شيء، فقد حفِظ الدين الحقوقَ لأهلها، وحفظ للمسلمين أموالهم وأعراضَهم وأبدانهم، وحرّم انتهاكَها، وفي خطبة الوداع يؤصِّل الرسول هذا المفهومَ العظيم بقوله: ((إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) فأعادها مرارًا، ثم رفَع رأسَه فقال: ((اللهمَّ هل بلّغت؟ اللهمَّ هل بلَّغت؟)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنّها لوصيّته إلى أمّته: ((فليبلّغ الشاهدُ الغائب، لا ترجِعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقابَ بعض)) أخرجه البخاري[2]، وقال : ((كلّ المسلم على المسلِم حرام؛ دمه ومالُه وعرضه)) أخرجه مسلم[3]. نظر ابنُ عمر يومًا إلى الكعبة فقال: (ما أعظمكِ وأعظم حرمتَك، والمؤمن أعظمُ حرمةً منك) أخرجه الترمذي[4]، وعن [عبد الله بن] بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله : ((قتلُ المؤمن أعظمُ عند الله من زوالِ الدنيا)) أخرجه النسائي[5].
حفِظ الإسلام لغير المسلمين حقوقَهم، فقال تعالى في حقِّ الكافر الذي له ذمّة في حكم قتلِ الخطأ: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً [النساء:92]، وصحّ عن رسول الله : ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحةَ الجنّة، وإنَّ رائحتها توجد من مسيرةِ أربعين عامًا)) رواه البخاري[6].
وفي هذه الأعمالِ المشينةِ الخروجُ على جماعةِ المسلمين وأولي الأمرِ منهم الذين أمر الله بطاعتِهم، وجعل طاعتَهم طاعةً له، قال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:115]. وبهذه التصرفاتِ غير الرّشيدة اتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين وأراقوا الدماءَ المعصومة وتسبَّبوا في سفكِها، وقد ذكر الله تعالى قتلَ النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ بين جريمتَي الشرك والزنا، وتوعّد عليها بمضاعفةِ العذاب والخلودِ فيه مُهانا، قال تعالى: وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَـٰلِحًا فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ [الفرقان:68-70].
وفي هذه الأحداث حملُ السّلاح على المسلمين، وقد قال : ((من حمَل علينا السّلاح فليس منّا)) أخرجه البخاري[7]. يتأكّد هذا في البلدِ الحرام الذي جعله الله أمنًا، لا ينفَّر صيدُه، ولا يختلى خلاه، ولا يعضَدُ شوكُه، فكيف بإراقة الدّماء المعصومة وإزهاق الأرواحِ المسلمة؟!
وفي هذا العملِ ذريعةٌ لأهل الكفر للنّيل من المسلمين ومعتقداتِهم ومؤسّساتهم الخيريّة، كما أنّه صدٌّ عن سبيل الله بالتسبُّب في منع بلوغ الدّين إلى البشريّة الحائرة عن طريق المؤسّسات الدعويّة، وتشويه صورةِ الإسلام والمسلمين، قال تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
إنّنا نُدين هذه الأعمال، بل ويستنكرُها كلُّ مسلمٍ وعاقل، ناهيك عن العلماءِ وطلبةِ العلم؛ لأنَّ المجتمع كلَّه بكلِّ فئاتِه في خندقٍ واحد وسفينة واحدة، والخرقُ فيها يُفضي إلى غرَق المجتمع، ويجرّنا إلى دوّامةٍ مِن العنف لا يعلم نهايتَها إلا الله، وانفلاتُ الأمن أسهلُ بكثير من إمكانيّة ضبطِه وإعادته، وتماسُك المجتمع وبقاؤه تحت رايةٍ واحدة مصدرٌ للقوّة والمنعَة.
على الجميع أن يُحسُّوا بواجبهم الشرعيّ والوطنيّ لرأب الصّدع في البنيان، ومعظمُ النّار من مستصغَر الشّرر. وإنّ فتنًا عظيمة في أمَم ماضيةٍ ودولٍ حاضرة كان أوّلها شرارةً يسيرة تساهل أولو العِلم والرّأي في إطفائها، فألهبتِ الأرض جحيمًا لا ينطفئ ودَمًا لا ينقطع وفتنةً تدعُ الحليمَ حيرانًا.
أمنُ الفرد ـ عباد الله ـ جزءٌ من أمنِ مجتمعه، وتوطيد الأمنِ يستلزم أن يؤدّيَ كلّ فرد مسؤوليتَه في حفظ الأمن، قال : ((كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) أخرجه البخاري[8].
وإنَّ أمنَ بلاد الحرمين أمنٌ لكلّ مسلم من ساكنٍ ومقيم وحاجّ ومعتمر، والمزايدة عليه عبثٌ مرفوض وسلوك ساخر.
كان القدوةَ في حِفظ الأمن والسّهر على سلامةِ المجتمع، وإنَّ أهل المدينة فزعوا في إحدى اللّيالي على صوتِ دويٍّ في جنباتِها، فانطلق صوبَ الصوتِ واستبرأ الخبرَ وهو يقول لهم: ((لن تُراعُوا))[9]، أي: لا تخافوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرج الدارمي في مقدمة سننه (216) عن الحسن أنه قال: "سنّتكم ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ بينهما، بين الغالي والجافي..."، وانظر: إغاثة اللهفان (1/70).
[2] أخرجه البخاري في الحج (1739) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في البر (2032)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2339).
[5] أخرجه النسائي في تحريم الدم (3990)، والبيهقي في الشعب (4/345)،وصحح إسناده ابن الملقن في الخلاصة (2/261)، وهو في صحيح سنن النسائي (3725).
[6] أخرجه البخاري في الجزية (3166) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في الديات (6874)، مسلم في الإيمان (98) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[9] أخرجه البخاري في الجهاد (2908، 2969، 3040)، ومسلم في الفضائل (2307) من حديث أنس رضي الله عنه. |