أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا أنكم ستقفون بين يدي الله، وسوف تحاسبون على أعمالكم، فمن عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد.
أيها المؤمنون، لما نام الإمام العارف بالله الجنيد رضي الله عنه على فراش الموت ودخل عليه بعض الصالحين وقالوا له: يا جنيد إنك ستموت فقال لهم الإمام: وإلى أين يذهب بي بعد موتي؟ فقال له الصالحون: يذهب بك إلى الله، فقال الإمام: وكيف أخاف لقاء من يقول: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ [الحجر:49].
عباد الله، إذا بكت العيون كان ذلك دليلاً على خوفها من الله، فإذا جمدت العيون فاعلم أن جمود العين من قسوة القلب، وقسوة القلب من كثرة الذنوب، وكثرة الذنوب من نسيان الموت، ونسيان الموت من طول الأمل، وطول الأمل من شدة الحرص، وشدة الحرص من حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، يا ابن آدم إذا ضاقت عليك الدنيا، فقل: يا الله، إذا سألت فقل: يا الله، إذا استعنت فقل: يا الله، إذا توكلت فقل: يا الله، إذا نمت على فراشك فقل: يا الله، إذا دخل عليك ملك الموت فقل: يا الله.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاء من كل داء، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم انصر من نصر دين محمد، اللهم اخذل من خذل دين محمد، اللهم من رفق بأمة محمد فارفق به، ومن شق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاشقُق عليه، اللهم من أراد بالإسلام سوءاَ فسلط عليه سيف انتقامك يا جبار، اللهم عليك بمن خان المسلمين يا رب العالمين.
عباد الله، يقول المولى تبارك وتعالى في سورة الأنفال: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، والخطاب هنا موجه إلى جماعة المسلمين، إلى المجتمع المؤمن الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
هل يستطيع أحد على وجه الأرض أن يخون الله؟ كيف يخون العبد ربه؟ يخون العبد ربه إذا عطل العمل بأحكام الله، فكل من عطل الحكم بكتاب الله فقد خان الله تبارك وتعالى.
وكيف يخونون الرسول صلى الله عليه وسلم؟ من عطل السنة فقد خان رسول الله، ومن خان رسول الله فقد خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها المؤمنون، ذكرت كتب التفسير أن هذه الآية نزلت في الصحابي الجليل أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، فتاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفا الله تبارك وتعالى عنه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله.
وكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة))[1]، فانظروا يا عباد الله إلى موقف هذا الصحابي الذي يدل على قوة الإيمان فموقفه لم يؤد إلى هزيمة المسلمين أو إلى إنقاذ بني قريظة، ولكنه شعر أنه خان الله ورسوله، فما بال الذين سلموا العباد! فما بال الذين سلموا البلاد وأهانوا العباد وأعطوا الحكم لقوات الغزو والاحتلال، سلموا أرض الرافدين على بساط من ذهب، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون، سلمت عاصمة الرشيد وأرض الرافدين، دار السلام سقطت بأيدي الغزاة الحاقدين وبتآمر المتآمرين، بعد أن أمطرها أعداء الإسلام بوابل من أسلحة الدمار الشامل دون رحمة ولا هوادة، فكان مجموع ما ألقاه الغزاة على العراق يفوق ما ألقي في الحربين العالميتين الأولى والثانية، سقطت بغداد بين هول ودموع الذين أحبوا بغداد وعشقوا حضارة الرافدين، والذين تذكروا أن أرض العراق تضم آلاف الشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شاركوا في الفتوحات الإسلامية، الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وابنه الحسين بن علي، وغيرهم.
وفي أرض العراق يرقد الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان والإمام أحمد بن حنبل وأئمة كبار، ملأ علمهم وصلاحهم الدنيا بأسرها، سقطت بغداد بين شماتة الأعداء الصليبيين وابتسامات الحاقدين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون، اسمعوها جيداً، بغداد ليست العاصمة الوحيدة التي سقطت بأيدي الغزاة، ولن تكون الأخيرة في ظل واقع إسلامي مترد، وفي ظل سكوت عربي متخاذل منافق، وفي ظل الخيانة والتآمر على الأمة.
سقطت الأندلس بالأمس، وضاعت معالم الحضارة الإسلامية في أشبيلية وقرطبة وغرناطة، وسقط جبل طارق، وبالأمس القريب اسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية، بعد أن تكالبت عليها قوى الشر والاستعمار، وما أشبه اليوم بالبارحة، سقط بيت المقدس، جوهرة فلسطين، وسقطت غروزني عاصمة الشيشان، وسقطت كابول عاصمة أفغانستان، لماذا هذه الهزائم المتتالية؟ لماذا لم يفرح المسلمون بنصر الله في هذه الأيام؟
اسمعوا الجواب ـ أيها المؤمنون ـ: إن الله تبارك وتعالى حدد شروطاً للنصر، فمن شروط النصر الإيمان والثبات على المبدأ والعقيدة، بعيداً عن كل مسميات الوطنية والعروبة والحزبية والانقسامات الطائفية.
من شروط النصر الصبر على المحن والشدائد، والمرابطة في سبيل الله، وعدم التولي يوم الزحف.
من شروط النصر طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم وعدم النزاع والخصام والخلاف.
من شروط النصر وحدة الإيمان ونصرة المؤمنين.
لقد استغاث العراق بأمة الإسلام واستنجد، فماذا حصل؟ جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فتحوا مياههم الإقليمية أمام البوارج الحربية وحاملات الطائرات، فتحوا أراضيهم وموانئهم ومطاراتهم أمام طائرات الأعداء، جعلوا من أراضيهم قواعد لطائرات الأعداء، تدك العراق دكاً دكاً، فسقطت بغداد.
وماذا حصل بعد ذلك؟ فقد عرضت وسائل الإعلام الخاضعة للأعداء مناظر للرعاع وقطاع الطرق وهم ينهبون ثروات ومتاحف الشعب العراقي تحت مرأى ومسمع قوات الاحتلال دون أن تحرك ساكناً.
وغداً سيشهد العراق حرباً طائفية أهلية، تغذيها الدوائر الاستعمارية لأن أمريكا تريد تمزيق العراق ومحوه عن الخارطة أصلاً ونهب ثرواته، وتحقيق الأمن لإسرائيل.
أيها المؤمنون، لقد قلنا في خطب سابقة: إن أمريكا تريد ضرب الإسلام بكل مكان في الوقت الذي هاجمت أفغانستان، وقلنا إن الدور على العراق، وبعد العراق سوريا، وها نحن نسمع الهجوم والتهديد لسوريا، وعلى نفس النغمة، إيواء الإرهابيين، أسلحة دمار شامل، مساعدة الجماعات المعادية لأمريكا.
أيها المؤمنون، إذا أرادت أمتنا أن تحفظ كرامتها، فالواجب عليه أن تتعلم الدروس والعبر مما جرى في أفغانستان والعراق، فتعلموا الدروس والعبر حسب المنهج الإسلامي، وليس حسب الأمر الأمريكي.
على الأمة أن تصطلح مع الله، أن تعود إلى الله، حتى يكون الإيمان هو رابط القلوب والعقيدة، اقرؤوا التاريخ، كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كتب الله لهم النصر.
فعندما تجرع هرقل مرارة الهزيمة، والتقى بصفوة قواده سألهم سؤالاً واحداً: من الذين يحاربونكم؟ أبشر أم ملائكة؟ اسمعوا الإجابة قال له أحد القادة: أيسمح لي سيدي أن أجيب بصراحة؟ قال له: أجب. قال له: إن الذين يحاربوننا بشر، لكنهم ليسوا كالبشر، قال لهم: وكيف ذلك؟ قال له: إنهم يقومون الليل يصومون النهار، إذا جن الليل سمعت لهم دوياً بالقرآن كدوي النحل، فإذا ما أشرقت الشمس، فإنهم أُسود فرسان، يصومون ويصلون، ونحن لا نصوم ولا نصلي، لا يشربون الخمر ونحن نشربها، لا يأتون الفواحش ونحن نأتيها، ما من واحد منهم إلا ويتمنى أن يموت قبل صاحبه، وما من واحد منا إلا ويتمنى أن يموت صاحبة قبله، يحملون علينا فيصدقون، ونحمل عليهم فيصبرون، أما نحن إذا حملوا علينا فلا نصدق ولا نصبر، فماذا قال هرقل بعد أن سمع هذا الكلام؟ قال هرقل: لئن كانوا كما قلت فوالله ليملكن موضع قدمي هاتين.
وما هي إلا أيام حتى جاء الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقف هرقل يقول لسوريا: سلام عليك يا سوريا، سلام عليك، لا لقاء بعده.
وأفلت شمس الإمبراطورية الرومانية، أما شمس الإسلام فظلت بازغة تملأ الأرض ضياء ونوراً وبهاء وسناء، هؤلاء رجال، والرجال قليل، هؤلاء رجال ما عرفوا طعم الخمر، ما عرفوا الخيانة، ما عرفوا النفاق، نظفوا عيونهم وآذانهم وألسنتهم وأيديهم وأثوابهم وقلوبهم، عرفوا الله فعرفهم، خافوا الله فخوف الله منهم كل شيء، فكيف أصبح حالنا؟ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَـوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوٰتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
أسفنا شديد ـ أيها المؤمنون ـ عندما نرى بأس المسلمين بينهم شديد، تحسبهم جميعاً، وقلوبهم شتى، شعب العراق يقتل ويستغيث، والأمة نائمة لا تجيب، إذا سألت عن أمتنا فهي أمة تزهو، وشعب يلعب، فرح هنا، وهناك تقام المآتم، شعب ينوح، وآخر يترنم.
أيها المؤمنون، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء التسليم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] رواه النسائي في سننه من حديث أبي هريرة (5468)، وأبو داود في سننه (1547)، وابن ماجه في سننه (3354)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1368). |