أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [البقرة:217].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى المبارك، تلتفون حوله، وتفتدونه بالمهج والأرواح، الحرب على الإسلام والمسلمين قديمة جديدة، وغزو ديار المسلمين لاستئصال عقيدتهم وشأفتهم وكسر شوكتهم ونهب خيراتهم والتحكم في رقابهم هو الهدف الأول لأعدائهم، مهما اختلفت التسميات وتعددت الغايات والرايات.
فمنذ بزغ فجر الإسلام على هذه البسيطة تصدى مشركو مكة وجزيرة العرب لأتباعه بأصناف الأذى والاضطهاد، فهاجر المسلمون بدينهم إلى المدينة المنورة، وقد جاءت جموع الباطل بخيلها وخيلائها للقضاء على الإسلام والمسلمين في حاضرة خلافتهم الأولى من خلال الحروب والغزوات التي قادتها قوى الكفر والشرك والغدر من أعراب ويهود ومنافقين في غزوة أحد والأحزاب وخيبر يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [التوبة:32].
فلم تمض بضع عقود من السنين حتى دانت جزيرة العرب بالإسلام واشتد ساعد الدولة الإسلامية، ففرضت هيبتها على القياصرة والأكاسرة في عهد الخلافة الراشدة التي أقامها ورعاها أصحاب نبيكم عليه الصلاة والسلام، فوصلت فتوحاتهم إلى بلاد الرافدين وما وراءها وإلى مصر والشام، وغرَّتها بيت المقدس التي حضر الفاروق عمر رضي الله عنه لاستلامها، وأرسى لأهلها عهداً من الأمن والأمان، يفاخر الدنيا بسماحة الإسلام وعدله ورعايته لكرامة الإنسان، وإن اختلفت الأديان.
أيها المسلمون، لم يرُق لأعداء أمتكم أن يروا دولة الإسلام التي بسطت نفوذها من المحيط الأطلسي غرباً إلى حدود الصين شرقاً، وقد خاطب خليفتها الرشيد ـ من حاضرته بغداد ـ السحابة قائلاً: "أمطري حيث شئتِ، فخراجك محمول إلي".
إنها بغداد حاضرة العز والحضارة، وعاصمة العراقة والتاريخ التي دنستها أقدام التتار الغزاة، ورموا بعلومها في مياه دجلة، وقد عاد إليها تتار العصر وأحفاد الصليبيين اليوم غزاة محتلين، تعاوِنهم أنظمة قدمت ديار المسلمين قواعد ومراكز للغزاة على طبق من الذل والخنوع والخيانة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
مظاهرة هذه القوى علامة جريمة النفاق التي ما انفكت تفتُّ في جسم الأمة من بدايات الدعوة الإسلامية إلى يومنا الحاضر، وقد كشفهم الله بقوله: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـٰمُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن المطلع على تاريخ الصراع بين الحق والباطل على امتداد تاريخ الأمة الإسلامية يقف على حقيقة واحدة مفادها أنه كلما رأى معسكر الباطل الذي يمثل قوى الشر والكفر والعدوان فرصة سانحة للنيل من أمتكم، بادر لانتهاز هذه الفرصة، لينقض على الأمة أو أحد شعوبها أو جزء من أرضها وفق ما يحقق للعدو أهدافه أو بعض منها، كما حصل في غزو التتار للمشرق الإسلامي وما وازاه من حملات صليبية استهدفت مصر والشام، على حين غرة من المسلمين، مستغلة فرقتهم، إلا أن أمتكم الخيرة والحية التي تحمل نبراس الحق لم تستكن ولم تخضع للغزاة والمحتلين، بل نهضت بعزيمة الإيمان توحد صفها وتجمع شملها لتحطم غطرسة الصليبيين في حطين وتحرر القدس على يد الناصر صلاح الدين، وتهزم المغول في عين جالوت، لتعود بغداد إلى حوزة المسلمين وتعيش ديار المسلمين حرة عزيزة في ظل سلاطين المسلمين الذين حافظوا على وحدة المسلمين وصانوا ديارهم في ظل الحكم الإسلامي الذي أقلق أعداء الإسلام، فعمل أولئك الأعداء على تقويضه للقضاء على الخلافة الإسلامية في مطلع القرن الماضي.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ما زال كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف الصالح بين أيديكم، فكتاب الله هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم، من حكم به عدل، ومن تمسك به فاز وظفر، وهو ما فعله أسلافكم في إقامة الدولة وحكم الأمة، فعزّوا بعد ذلة، وتوحدوا بعد فُرقة، ونهضوا بعد كبوة، فهلا نهجتم نهجهم، وسرتم على هديهم، لتزول الأصنام البشرية التي تربعت على صدر الأمة وحالت دون وحدتها وعزتها، هذه الوحدة التي ترفع شأن الأمة وتذود عن أرضها وشعوبها.
أيها المسلمون، لا تفتحوا لليأس طريقاً إلى نفوسكم، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، وقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
جاء في الحديث الشريف عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها مغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها))[1]. أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] رواه مسلم في صحيحه (2889 ) ، كتاب الفتن، باب هلاك هذه الامة.
|