أمّا بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله الملِك الرزّاق، ففي تقواه سبحانه أوفرُ الخلاق، وبها النجاة يومَ التّلاق، فكونوا في تحقيقها في تنافسٍ واستباق، واحذَروا التفريطَ فيها فعاقبة أهلِه المثلاتُ التي لا تطاق، ومَا لهم منَ اللَّه مِن وليّ ولا وَاق.
أيّها المسلمون، في ظلّ النوازل والأزماتِ وفي خضَمّ تداعيات الأحداث والنّكبات تتعاظم حاجة الأمّة إلى الفِقه العميق والنّظر الدقيق والمنهج الوثيق المتمثّلِ في فِقه التعامل مع الأزَمات والنّوازل حتى لا تختلِط الأوراق وتنقلبَ الموازين وتنعكسَ المعايير، ولكيلا تزلّ الأقدام وتضلَّ الأفهام وتكِِلّ الأقلام ويختلَّ الإعلام.
في النّوازل والأزمات يتعاظم الخطرُ على الهويّة والثوابت، وتحتاج سفينة الأمّة إلى رُبّان مهرةٍ يحسنون قيادةَ دفّتها إلى شاطئ السلامة والنجاة وساحلِ الأمن والأمان؛ حتى تُحفَظ للأمة حقوقها العقديّة والأمنيّة في تحقيقٍ لكلمة التوحيد وتوحيدِ الكلمة عليها، لأنّهما صمام الأمان أمام العواصفِ الهوجاء التي تمرّ بها أمّتنا، وتكاد لخطورتِها تنسيها كلَّ الأزَمات التي مرّت عليها في تأريخها المعاصر.
معاشرَ المسلمين، لما كانت هذه الدنيا دارَ اختبار وابتلاءٍ وممرًّا إلى الآخرة دارِ الحساب والجزاء شاء المولى جلّ وعلا لحكمته أن يتقلّب فيها النّاس بين السراء والضراء والشدّة والرّخاء، وأن يتعرّضوا للمصائب والمِحن، ولا تخلو حياتهم من نوائبَ وأزماتٍ وفتَن، ولله في ذلك كلِّه الحكمة البالغة.
ومِن رحمتِه جلّ وعلا بعباده أن منَحهم شِرعَةً غرّاء تحكمهم في جميع الظروف والأوقات، تنير لهم الطريقَ في السراء والضراء وحين البأس والأرزاء، وتأخذ بأيديهم أيّامَ المِحن والشدائد والأزماتِ، وهذا السَّنن الربانيّ تنزّه عن الحَسَب والنّسَب وأقام في البرايا الذهولَ والعجب، وهو بلا شكّ مِسبار للأفراد وعِللُ القلوب ومِصقلة لأدواء الأمم والشعوب، ومن ثبت في التمحيص بلغ من الظفر والتمكين كل الذُّرى، ومن تسخّط وجزع باءَ بالخسار عياذا بالله وارتكَس في أوحال الثّرى، ولا يظنّنَّ ظانّ أنّ الابتلاء بالضراء نقص كلُّه وشرّ كلّه ومنع كلّه، كلاّ، بل تضمَّن من الحكم والأسرار والمنازل عليّةِ الأقدار ما لا يخفى على ذوي البصائر والأبصار.
فمنها الرجوعُ والاستكانة والتضرّع إلى الله سبحانه واليقين بأنَّ ما يحدُث في هذا الكون فبتقديره وتدبيره، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، وأنَّ إليه الملجأ والمعاذ والمهربَ والملاذ، وقد عاب سبحانه على من لم يستكِن إليه ويتضرّع عند الشدائد، وَلَقَدْ أَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
ومنها التمحيص والاصطفاءُ وترويض النفوس على مرّ الابتلاء، فلم يكن هذا هو الأوّل، ولن يكون الأخير، فلقد مُنيت أمّتنا عبرَ التاريخ بأحداثٍ وبلايا، وتجرّعت نكباتٍ ورزايا، وخرجت منها بحمد الله معزَّزة منصورَة، إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10، 11].
وفي الجملةِ فلا تخلو المصائب والأزمات من عِبَر لأهل الإيمان، ففيها تنبيهُ الغافل، وتعليم الجاهل، وتقوية الروابط على الاتحاد والوئام، ونبذ التنازعِ والتشتّت والخصام، وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
أمّة الإسلام، قضاء الباري بالغ النّفوذ، وليس إلاّ عليه نتوكّل وبه نلوذ، وها هي الأمّة الإسلاميّة لا تزال تحتسي القلقَ والضّنى، وتقتات الويلاتِ والعنا، جرّاءَ الكرب المتفاقِم والخطبِ المتعاظم في أرضنا أرضِ العراق، لقد أعيَى هذا المصابُ الجلل كلَّ محبٍّ للسلام وللأمن توّاق، أرتالُ مصفّحات ولهيب نيران، أزيزُ قنابلَ وسحُب دخان، دويّ قذائف وأنين حِرمان، طلقاتُ مدافِع وسلبٌ ونهب وعنفوان، تدميرٌ للمباني وقصف للعمران، حربٌ جعلت من الجداول الرقراقة خنادِق، ومن الأغصان الزاهيَة بنادق، دخلت البيوتَ من غير أبوابِها، وجرَّعت المدنيّين العُزل مُرَّ عذابِها، فرحماك ربَّنا رحماك، واللهمّ سلّم سلّم.
كم في العراق وكم في القدس ذو شجنٍ شكا فـردّدتِ الأصـداء شـكواه
بنــي العقيـدةِ إنّ القـرحَ مسَّكُمـو ومسَّـنا نحـن في الإسلام أشباه
شعـبٌ يُقتـل والدنيـا تشـاهدهـم كأنّهـم من بني الإنسان ما كانوا
فيهم من البؤس والتشـريـد ملحمَـة خـوفٌ وجـوع وتقتيل وحرمان
صوتُ استغاثتهم يكـوي الفؤادَ ومـا من منقـذ أوَمـا للنـاس آذان؟!
أجَل، لا بدَّ أن يُرفعَ عن سماءِ الأمّة هذا الكابوس، ولا بدَّ أن تُهْتَمَ أنياب هذه الحَرب الضّروس التي لا زال مشتعلاً فتيلها، حامياً وطيسُها، بالحلول السّريعة السّلمية المتَّئِدة القائمةِ على الحِكمة والعقل وبُعدِ النّظر في العواقب، تحت مظلَّة الشريعةِ الغرّاء والدساتير العالميّة والأنظمة الدوليّة لحقوقِ الإنسان والأعراف والمواثيق المحترِمة لسيادةِ الأوطان.
إنّنا باسم الشعوب الإسلاميّة والإنسانيّة نوجّه النداءَ الحارّ إلى الرّأي العامّ العالميّ وصنّاع القرار للوقف الفوريّ لهذه الحرب الطاحنة، واستمرار أعمال العنفِ والشّغب والفوضى التي تقود المنطقةَ إلى أنفاقٍ مظلمة وسراديبَ معتِمة ومجهولة النهايَة، وكم وكم تجرَّعت الإنسانيّة من ويلاتِ العنف والحروب، وأحدثت من مشاعرِ البغضاء والكراهية بين الشعوب، وألوان الصّراع والصّدام بين الحضارات. فالحروبُ والنكبات طويلٌ ذيلُها، قليلٌ نيلها، كثير وَيلها، فمِن الضروريّ المبادرة إلى إطفاء فتيلِها حتى تضع الحرب أوزارَها، ويُكفَى المسلمون شرَّها وأوارَها، وحمايةً للمدنيّين الأبرياء، وتفادياً للخسائر في الأرواح والممتلكات، وحفاظاً على أمنِ الشعوب والمجتمعات، وإبقاءً على المعالم الحضارية والتاريخية للعواصم العلميّة والحواضر الإسلامية، وسدًّا للطريق أمام القِوى الصهيونيّة الغاشمة التي استغلّت انشغالَ العالَم بهذه الحوادث والمستجدات، فعمِلت على توسيع نفوذِها في أرض الرسالات ومهدِ البطولات على ثرى فلسطين المجاهدة.
أربابَ السلام، حماةَ الشرعيّة، دعاةَ الحريّة والإنسانيّة، يا شرفاءَ العالم في كلّ مكان، هُبّوا سِراعاً إلى الحلّ الناجز والتحرّك الإيجابيّ السريع، لإنهاء هذه القضيّة المأساويّة والكارثة الإنسانية، قبل أن تُسلَب أرسَان الثقة والمصداقيّة من كثير من الهيئات الدوليّة والمنظمات العالميّة، واعلموا أنّه ما ضاق شيء إلا اتّسع بالمساعي الحثيثةِ خطوُه، وما ظهر فتقٌ إلا أمكن بالعهود والمواثيق رَفوُه، والله المستعان، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـٰنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7]، وإن في طيَّات المحن لمِنحًا، وفي ثنايا النّقم لنعمًا، ((واعلم أنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرَج مَع الكرب، وأنَّ مع العسر يسراً))[1].
إخوة الإيمان، ها أنتم أولاء تِلقاء محنٍ نجمت، وخطوب مُريعة هجَمت وجَثمت، فتبصّروا في هذه الحوادِث والسيَر، وانتزِعوا منها الدّروس والعبَر، لا سيّما في التوحيد والوحدة، إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
أمّة الإسلام، وفي غَمرة هذه الأحداث الدامية والأوقات المستعِرة الحامية تلجأ بعضُ النّفوس الضعيفة التي خلت من المروءة وتعرَّت من الوفاء والنّبل لتشرَخ تلاحمَ الأمّة ووحدتها، ولتلبِّس على النّزهاء والبرآء زعوماً ودعاوى بشائعات باطلة وأكاذيب ملفّقة، هي جراثيم قاتِلة وفيروسات مُهلكة وجِراحات مدمّرة وحربٌ نفسية خطِرة وتحطيم للمعنويّات ووأد للطموحات، والله عز وجل يقول: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَـٰدِمِينَ [الحجرات:6]، ويقول سبحانه: وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]. وكلّما اتّسعت رقعة الشائعات الباطلات والأراجيف الذائعات التي يروِّجها ذو قِحةٍ وغِلالة صفيقة كان إثمه عند الله أعظم، فعلى المسلم العفّ أمامَ هذه الإفرازات النفسيّة الداكنة أن يتمثّل قولَ الحقّ جلّ جلاله: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَـٰنَكَ هَـٰذَا بُهْتَـٰنٌ عَظِيمٌ [النور:16]. أورد ابن أبي الدنيا عن حماد بن زيد قال: بلغني أنَّ محمدَ بن واسع كان في مجلسٍ فتكلّم رجل فأكثر الكلام، فقال محمد: "ما على أحدكم لو سكت، فتنقّى وتوقّى"[2].
أيّها المسلمون، مَن كان كلامه رسلاً وهَذَرا فليتذكّر قول الباري سبحانه وتعالى: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]. ومن سَرَى في خَلَده أنّه نائلٌ بالسفاسف والترَّهات من ترابطنا الذهبيّ البديع وتآلفنا المتألّق المنيع فيقال له: هيهاتَ هيهات، فالطّود أشُمّ، والوِفاق بحمد الله أتمّ.
فالحذرَ الحذر ـ عباد الله ـ من تناقلِ وتداول الشائعاتِ المغرِضة التي غدت سلاحاً فتّاكاً ومِعولاً هدّاماً يقوّض وحدةَ الصف، ويفسد العلاقة بين الرّعاة والرعية والعلماءِ والعامّة والشّباب والشيوخ، ويزرَع الشكَّ وسوءَ الظنّ بين أبناء المجتمع، وبخاصّة مع انتشار وسائلِ الاتصال الحديثة التي أضحى بعضُ مواقعِها ومنتدياتِها مراحيضَ إلكترونية تُزكِم الأنوفَ بعفنِها ونتنِها أجلّكم الله، فكم أشهرَت من قبائح، وأعلنت من فضائح، وأظهرت من معائِب، ونشرت من سوآت ومثالِب، يترفَّع منها العقلاء والشرفاء.
والواجب على المجتمَع المسلم أن يكون حِصنًا حصينا ضدَّ الشائعات المغرِضة، فالرسول يقول: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكلِّ ما سمِع)) خرّجه مسلم في صحيحه[3].
فليُعرض المسلم ويَربأ بنفسه عن سماعِها وترويجها، فالركون إليها وتناقلُها يؤدِّي إلى مفاسدَ خطيرة، تهدّد بنيانَ المجتمع، وتقوّض بناءَ الأمة، وتقضي على البقيّة الباقية من تلاحمِها وتعاونِها.
أمّة الإسلام، إنَّ من الفقه عند الأزمات أن يُنظر إليها برؤيةٍ شرعية، تحليلاً وتطبيقاً، فالإسلام يحرّم الظلمَ والعدوان، ويوجب على المسلمين التناصرَ والتآزر حسَب ما تقتضيه الظروف والأحوال، فعلى المسلم أن لا ينسى إخوانَه المسلمين من دعائه، أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء ٱلأرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ [النمل:62].
في الأزماتِ حيث خريفُ تساقط القيَم يتعيَّن على المسلم الأخذُ بأسباب الثبات على صحيح المعتقد وسلامة المنهج عند غياب صحيح المنهج، والتقيّد بالضوابط الشرعيّة من لزوم الرّفق والسّكينة، والتثبّت والأناة وعدم العجلة، وحفظ اللسان، والتبصّر في عواقبِ الأمور، والقرب من نصحاء الأمة وصلحاءِ المجتمع، وعدم الاستشراف للفتَن، فمن يستشرف لها تستشرفه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين[4]، وأن لا يُتَكلَّف في ليِّ أعناقِ النّصوص الشرعيّة لتنزيلها على الوقائِع العصريّة بلا أثارةٍ من علم، وكذا عدمُ تداول الأحاديثِ الضعيفة والموضوعة، كما ينبغي تغليبُ العقل على العاطفة والرويّة والمنطق على التشنّج والانفعالات، وتقديمُ الرأي والمشورَة على ما يُظنُّ من الإقدام والشجاعة، والبعد عن الغوغائية والغثائية التي لا تصيب صيداً ولا تنكأ عدوا، والحذر من الانسياق وراءَ ما يُدَّعى من جهادٍ موهوم لم تتبيَّن له رايَة، ولم تظهر له غايَة، ولم تتحقَّق فيه الشروط الشرعيّة والمقاصد المرعيّة، ومنها المحافظة التامّة على لحمتِنا الاجتماعيّة، وجبهتنا الداخليّة، وقيادتِنا الشرعيّة والعلميّة، من أولي الأمر المسلمين والعلماءِ الربانيين، وحسن الظنِّ بهم، وعدم تصديق الدّخلاء والمرجفين الذين يظهرون في الأزمات، خفافيش ظلمات، وطفيليات زرعٍ ونبات، يصطادون بالمياه العكِرة، وينفُذون في الطّرق الوعِرة، وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلأمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
إخوةَ العقيدة، ومهما اربدّت الآفاق في مرأى العين، فإنّ دينكم بحمد الله دينُ الثبوت والبقاء، محالٌ أن يعتريَه الزوال والفناء، روى الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح أن رسول الله قال: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَر ولا وبَر إلاّ أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل))[5]. وقد أعطى المولى حبيبَه ومصطفاه وخليله ومجتباه محمّداً أن لا يُهلِك أمتَه بسِنَة بعامّة، وأن لا يسلّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتَهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها. خرّجه مسلم في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه[6].
ألا ما أحوجَ الأمّةَ أن تدرُس أسبابَ النّصر والهزيمة بمنظورٍ جديد ورأي سديد وموقف رشيد ومنهج حميد، وأن تدقِّق في المقاصد والغايات والنتائج لاعتلاء شرفِنا السامق ومجدِنا الشامِخ بإذن الله، وحذارِ حذار من اليأس والقنوطِ والإحباط، وإلى مزيدٍ من التفاؤل والاستبشار، فالنصرُ للإسلام وأهله، والقوة لله جميعاً، وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [الأنعام:45].
حفظ الله أمّتَنا مِن كيد الكائِدين وحقدِ الحاقدين وعدوان المعتدين، وأصلح أحوالَ المسلمين في كلّ مكان، وكشف الغمّةَ عن هذه الأمّة، وأعاذنا والمسلمين من مضِلاّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنَّه جواد كريم.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب وسنة النبيّ المصطفى الأوّاب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله الغفور الوهّاب لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه كان غفّاراً، وتوبوا إليه إنّه كان توّاباً.
[1] جزء من وصية النبي لابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه بهذا اللفظ أحمد (1/307)، والحاكم (3/624)، والضياء في المختارة (10/23، 24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398)، وحسن إسناده الصنعاني في سبل السلام (8/249). وأصل الوصية عند أحمد أيضاً (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2043).
[2] الصمت لابن أبي الدنيا (33).
[3] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (30)، والحاكم (1/112)، وكذا ابن حجر في الفتح (10/407).
[4] أخرجه البخاري في الفتن (7081، 7082)، ومسلم في الفتن (2886).
[5] أخرجه أحمد (4/103)، والبيهقي (9/181) من حديث تميم الداري رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
[6] أخرجه مسلم في الفتن (2889).
|