.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

الأمانة

2976

الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب

خصال الإيمان, مكارم الأخلاق

يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه

القدس

7/11/1423

المسجد الأقصى

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- النبي الصادق الأمين. 2- ضياع الأمانة بين يدي الساعة. 3- إشفاق الجبال والسموات والأرض من حمل الأمانة. 4- عقوبة الخيانة وتضييع الأمانة. 5- قصة في الأمانة. 6- المؤامرة على العراق وواجب المسلمين تجاهها. 7- الحرب لن تنتهي بالعراق فالمؤامرة مستمرة وطويلة الذيول.

الخطبة الأولى

أما بعد: لماذا ترك رسولنا صلى الله عليه وسلم علياً في فراشه؟ لماذا تركه يوم الهجرة؟ ولماذا تأخر علي قليلاً إلى أن هاجر إلى المدينة؟ كان عند الحبيب أمانات وودائع لمشركي أهل مكة، كان المشركون مع كفرهم بالله لا يستأمنون أحداً في مكة إلا الصادق الأمين الوفي الكريم، كانوا به كافرين، وكانوا في أمانته واثقين، لم يرض أن يهاجر بالأمانات، إنما أخر علياً بعده ليؤدي الأمانات إلى أهلها، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ينام الرجل النومة فتنزع الأمانة من قلبه، فيصبح الناس يتبايعون، حتى إذا رأوا رجلاً أميناً عجبوا، وقالوا: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أعقله، ما أظرفه، وليس في قلبه حبة خردل من الإيمان))[1].

عندما جاء رجل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة؟ متى ترج الأرض رجاً وتبث الجبال بثاً؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة))[2].

أربع أيها المؤمن إذا كن فيك فلا تبال بما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة.

تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ لنقف وإياكم عند قول الله تبارك وتعالى: إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاْمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]، هذه الآية المباركة من آخر سورة الأحزاب، وخير ما فسر به القرآن، القرآن.

والأمانة هنا طاعة الله تبارك وتعالى، لأن الآية التي قبلها يقول الله تبارك وتعالى فيها: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71]، وكيف تأبى الجبال حمل الأمانة، والذي عرضها هو الذي لا يعصى له أمر، إباء الجبال هنا ليس إباء عن أداء الأمانة، إنما الإباء هنا إباء عن حمل الأمانة، فهناك فرق بين أداء الأمانة وحملها.

وتذكروا ـ عباد الله ـ أنه إذا كان يوم القيامة يأتي الله بمن خان الودائع، ويقول له: أد هذه الوديعة لفلان، أد الوائع التي كانت عندك لأصحابها، فيقول العبد: يا رب، لقد ذهبت الدنيا كل شيء قد فني، وكل شيء قد زال، أين الودائع؟ فيقول الله لزبانية جهنم: خذوه إلى بئر كذا، فيؤخذ إلى ذلك البئر، فيقال له: انظر في قاعه، فينظر فيجد الودائع التي غلها في الدنيا، فيقال له: انزل في هذه البئر، وهات الأمانات إلى أهلها، فيرمى بها سبعين خريفاً[3].

أيها المؤمنون، رحم الله عبداً، سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى، هذا هو خلق الإسلام، وتلك هي معاملة المسلمين، لا نريد أن نقول: إن الأمانة قد فقدت من مجتمعنا، كما قال أحدهم: سألت عن الأمانة فوجدتها كفنت، سألت عنها في مجتمعنا فقالوا لي: عظم الله أجرك في الأمانة، سألت أين هي؟ قالوا: إنها في النزع الأخير، وذهبت لأعودها، وهي على فراش الموت، ولقنتها الشهادة، وكنت أظن أنها ستظل بيننا، ولكنها قالت لي: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، إنا لله وإنا إليه راجعون.

أيها المؤمنون، تعالوا وإياي لنقف على هذه القصة، فقد رجعت بالذاكرة وخضت في أعرض شوارع الكوفة في بلاد العراق، هناك رجل يسمى ثابت بن إبراهيم، كان يمشي في أحد شوارع الكوفة، فوجد عليقة، وقد سقط من ثمارها تفاحة خارج أسوار الحديقة، فمد الرجل يده إلى التفاحة، فأكل نصفها، وبعد أن استقرت في معدته تذكر أنه لا يملكها، فكيف يأكلها وهو لا يتملكها، فأمسك عن النصف الباقي، وذهب إلى حارس الحديقة وقال له: يا عبد الله، لقد أكلت نصف هذه التفاحة، فهل تسامحني فيما أكلت؟ فقال له الحارس: وكيف أسامح وأنا لا أملك المسامحة، إن الذي يملكها هو صاحبها، فقال ثابت: وأين صاحبها؟ قال له: بينك وبينه مسيرة خمسة أميال.

فهب ثابت إلى صاحبها، وطرق عليه بابه، وخرج صاحب الحديقة، ألقى ثابت عليه السلام، فرد السلام، قال ثابت وهو فزع قلق: يا عبد الله أتدري فيم جئتك؟ قال: لا، قال: جئتك لتسامحني في نصف تفاحة، وها هو ذا النصف الآخر، فقال له صاحب الحديقة: والله لا أسامحك إلا إذا قبلت شرطي هذا، قال له ثابت: وما هذا الشرط يا عبد الله؟ قال صاحبها: أن تتزوج ابنتي. فقال الرجل: وهل هذا يعتبر شرطاً، تسامحني وأتزوج ابنتك، هذا فضل عظيم. فقال له صاحب الحديقة: إذا قبلت زواجها سامحتك، فقال له: قبلت زواجها، قال له: حتى لا أغشك فإن ابنتي هذه صماء لا تسمع، عمياء لا ترى، بكماء لا تتكلم، كسيحة لا تقوى على القيام، لا إله إلا الله، عمياء صماء بكماء قعيدة، فقال له ثابت: قبلت زاوجها على بركة الله ورسوله، ومن لا يتاجر فيها مع الله، وعقد الزواج، وقال له أبوها: إن شئت جئتنا بعد صلاة العشاء لتدخل بزوجتك، وجاء ثابت ليدخل على هذه العمياء الصماء البكماء القعيدة، وكأنه دخل إلى معركة حامية الوطيس، فلما دخل عليها حجرتها ألقى عليها السلام، فإذا بها قد ردت عليه السلام، وقامت واقفة لتصافحه، فعجب من ذلك، ما هذا؟ لماذا أخبرني أبوك عنك بما أخبرني؟ قالت له: وماذا قال أبي؟ قال لها: أخبرني بأنك عمياء، قالت: والله ما كذب، إنني عمياء لا أنظر إلى ما يغضب الله، أخبرني أنك بكماء، قالت: صدق أبي، والله لا أتكلم بكلمة تغضب الله، أخبرني أنك صماء، قالت له: نعم والله لا أسمع إلا ما فيه رضا الله، أخبرني أني كسيحة مقعدة، قالت: نعم لأنني لا أمشي في رجلي إلا إلى مرضاة الله، لا أمشي إلى مكان فيه غضب الله.

يقول الرجل: فنظرت إلى وجهها، فإذا هي قطعة كالقمر، وتزوجها، وأنجب منها عبداً تقياً صالحاً ورعاً نقياً خاشعاً لله، ملأ الأرض علماً وعبادة وعملاً، أتدرون يا عباد الله من هذا العبد الذي أنجباه؟ أتدرون من هذا الذي رزقه الله تبارك وتعالى منها؟ إنه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، عليه رضوان الله تبارك وتعالى، ليت نساءنا عمياوات مثلها! ليت نساءنا صماوات مثلها! ليت نساءنا بكماوات مثلها! لين نساءنا مقعدات مثلها!

فلو كانت النساء كمن ذكرنـا           لفضلت النساء على الرجال

فمالتأنيث لاسم الشمس عيب             ولا التذكير فخـر للهـلال

عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: وَٱلَّذِينَ هُمْ لاِمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوٰتِهِمْ يُحَـٰفِظُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْوٰرِثُونَ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [المؤمنون:8-11].

توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.

 




[1] رواه البخاري في صحيحه، من حديث حذيفة (6497)، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، ورواه مسلم في صحيحه (134)، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة.

[2] رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة ح (59)، كتاب العلم، باب من سئل علما.

[3] روى نحوه البيهقي في سننه ح (5266) من حديث ابن مسعود، ومثله المنذري في الترغيب والترهيب ح (2716)، وقال الألباني:حسن، صحيح الترغيب ح (1763).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله المبدئ المعيد، الغني الحميد، ذو العفو الواسع والعقاب الشديد، نحمده سبحانه وتعالى على إحسانه الوافر المديد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الفعال لما يريد.

ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً، عبده ورسوله، المبعوث إلى كافة الناس بالأمر الرشيد، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك، النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه المتصفين بكل وصف حميد.

أما بعد: أيها المؤمنون، إن أمريكا وبريطانيا عدوتا الإسلام والمسلمين، تتصرفان بمقادير الشعوب الإسلامية كيفما تشاءان، وتخضع غطرستهم الحكام والمسؤولين في كثير من الدول الإسلامية والعربية لتنفيذ سياساتهما الإقليمية الاستعمارية التوسعية.

لا يفوتنا التحذير من المشاركة الفعلية في المخططات الهادفة للقضاء على مقومات وقدرات أية دولة عربية أو إسلامية ترفض الذل والخضوع والاستسلام والتبعية، أو الصمت عن المؤامرة والعدوان، والأمران سيان، والساكت عن الحق شيطان أخرس، وما أكثر شياطين أمتنا في هذه الأيام.

ها هي الإدارة الأمريكية تستغل انهماك العالم بانتظار وترقب تقرير المفتشين الدوليين ومتابعة جولاتهم اليومية والانتظار عليها أكثر من شهر ونصف تقريباً دون انقطاع، لتكمل استعداداتها العسكرية باقتراب زوارقها الحربية وحاملات الطائرات من مياه الخليج ونشر الطائرات والدبابات في أكثر من قاعدة أمريكية موزعة في أكثر من دولة عربية وإسلامية محيطة بالعراق الشقيق، وتحشد قواتها البرية والمدربة على عرض الصحراء قرب حدود العراق البرية المتاخمة لكثير من الدول العربية والإسلامية.

أما بريطانيا الملحدة، الدولة الاستعمارية اللدود وعدوة شعبنا الفلسطيني المسلم منذ قديم الزمان، فإنها تتبرع هذه الأيام بإيفاد مبعوثين إلى عواصم عربية وإسلامية للتأثير على زعماء هذه الدول وإقناعهم بالانضمام إلى التحالف الهادف إلى ضرب العراق، أو لتمرير السياسة العدوانية ضد شعب العراق المسلم.

إن أمريكا وبريطانيا أعدتا مسبقاً سيناريو الحرب وسيناريو تغيير نظام الحكم في العراق، عبر تبني المعارضة العراقية وتقديم الدعم المعنوي والعسكري لها، كهدف مرحلي من أهداف الحملة الصليبية الواسعة والرامية إلى الاستيلاء على منابع النفط في منطقة الشرق الأوسط، والقضاء على بعض الحركات الإسلامية أينما وجدت، وتغيير أنظمة ترى أنها لا تزال تتمسك بالإسلام وتعتز بمبادئه وتعاليمه السمحة.

أيها المسلمون، إن هذا العدوان على العراق المسلم يأتي كنتيجة لإذعان العالم لسياسة الهيمنة الأمريكية، وتآمر الغرب الحاقد على الإسلام، ونتيجة للتخاذل الإسلامي والصمت العربي، أين هي الوحدة الإيمانية؟! أين نحن من قول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].

إن من المبكي والمحزن، أن الأنظمة العربية والإسلامية تعطي لنفسها المبررات للتخاذل والتقاعس عن نصرة الشعب العراقي المسلم، ودفع العدوان عن أرضه وشعبه، كما أوجدت لنفسها مبررات العجز عن نصرة شعبنا الفلسطيني ورفع الظلم والمعاناة التي نعيشها منذ زمن طويل.

ومن المبكي والمضحك في آن واحد، أن بعض الأنظمة العربية قد تبنت فكرة تخلي الرئيس العراقي عن الحكم، كحل يجنب العراق ويلات الحرب، هذا كل ما يملكه العرب لرفع العتب عنهم.

يقولون: لقد نصحنا الرئيس العراقي بالتنازل عن الحكم لإنقاذ العراق من العدوان والمأساة، ولكنه لم ينتصح، فهل هدف أمريكا هو إسقاط الرئيس العراقي ونظامه؟

إن القضية أبعد مما يتوهمه المتوهمون، الحرب ضد العراق هي المرحلة الثانية بعد أفغانستان، وهذا ما حذرنا منه غداة الحرب على أفغانستان.

أما المرحلة الثالثة، فستكون ضد دول عربية وإسلامية أيضاً، الحرب تأخذ طابع وأسلوب الاستمرار والتواصل، حتى يتغير العالم الإسلامي بأسره، وتصبح سائر الشعوب الإسلامية والعربية أسيرة المطامع الصهيونية والأمريكية والاستعمارية، هنا في فلسطين الأسيرة الذبيحة، وهناك في العراق المحاصر والمعرض للعدوان بين لحظة وأخرى، والعيون تتربص بلبنان وسوريا، فإلى متى هذا الخنوع؟ إلى متى هذا التشرذم؟ أفيقوا ـ أيها المسلمون ـ من سباتكم، وعودوا إلى رشدكم، وحدوا صفوفكم، اشحذوا هممكم، انفضوا عن كواهلكم الذل والتبعية والخوف، عودوا إلى كتاب الله تبارك وتعالى، وتمسكوا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا كرامة لكم ولا عزة إلا بكتاب الله وسنة رسوله وإقامة دولة الإسلام.

أيها المسلمون، لم يفت الأوان بعد، أعلنوها بصراحة وبقوة وبجرأة: لا للعدوان الغاشم على العراق المسلم، لا للعدوان على أية دولة عربية أو إسلامية، لا تجعلوا من أراضيكم منطلقاً للغزاة لضرب الشعب العراقي المؤمن، لا تمدوا القوات الغازية المعتدية بالمال والنفط، كلنا في خطر العراق في خطر، ونحن هنا في فلسطين في خطر أشد، أما آن لكم أن تثبتوا وجودكم وتعودوا إلى الله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل: إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً